الجامعة العربية .. الانتكاسة التي تسبق الانهيار
السياسية : محفوظ الفلاحي
تواجه الجامعة العربية في الوقت الراهن موقفاً ونكسةً غير مسبوقة تتمثّل في اعتذار ست دول عن تولي الرئاسة الدورية لمجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية بعد اعتذار دولة فلسطين عن استكمال الدورة الحالية التي تنتهي في مارس المقبل ، بعد إسقاط الجامعة مشروع قرار فلسطيني يدين التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني ، في وقت تزداد فيه هوّة الخلافات في عدة ملفات رئيسية في مقدمتها الصراع العربي – الإسرائيلي ، وتزيد التكهنات بقرب انهيار الجامعة كرمز للنظام الإقليمي العربي.
تفاصيل النكسة الأخير للجامعة :
جاءت النكسة الحالية للجامعة العربية كارتداد للتطبيع الإماراتي البحريني مع الكيان الصهيوني ، فقد بدأت القصة في التاسع من سبتمبر الماضي ، حين أسقطت الجامعة العربية مشروع قرار قدمته دولة فلسطين في اجتماع وزراء الخارجية ، يدين اتفاق التطبيع بين الإمارات والكيان الصهيوني في 13 أغسطس الماضي، واكتفى الاجتماع المخصص أصلاً لمناقشة القضية الفلسطينية بتجديد التمسك بمبادرة السلام العربية حلاً للقضية ، والتزام قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
ومع تسارع خطوات التطبيع بعد هذا الاجتماع لتتوج في 15 من سبتمبر الماضي بتوقيع الإمارات والبحرين اتفاقيتي تطبيع مع الكيان الصهيوني في حفل أقيم في البيت الأبيض برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، متجاهلتين حالة الغضب في الأوساط الشعبية العربية ، وبعد نحو أسبوع وتحديداً في 22 سبتمبر اعتذرت دولة فلسطين عن استكمال رئاسة الدورة الحالية لمجلس الجامعة على خلفية ما وصفه وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي بموقف الأمانة العامة للجامعة الداعم للإمارات والبحرين في تطبيع العلاقات مع إسرائيل بالمخالفة لمبادرة السلام العربية.
كما قررت دولة قطر عدم قبول تولي الرئاسة الدورية لمجلس الجامعة بعد الاعتذار الفلسطيني ، مع احتفاظها بحقها في رئاسة الدورة المقبلة في مارس المقبل ، وتكرر الحال مع كل من الكويت ، وجزر القمر، ولبنان.
ومؤخراً اعتذرت ليبيا عن رئاسة مجلس الجامعة ، مشيرةً إلى أن الظروف غير مواتية لهذا الأمر وأنها تتطلع لممارسة حقها في رئاسة مجلس الجامعة العربية “في ظل ظروف أفضل من الحالية” وأنها متمسكة بحقها في الرئاسة الدورية لمجلس الجامعة وفق اللوائح الداخلية والترتيب الأبجدي المعمول به ، فيما لم يصدر تعليق من الجامعة العربية بشأن اعتذار ليبيا والدول الأخرى عن رئاسة دورتها الحالية والخطوة المقبلة بشأن رئاسة المجلس.
واعتبر السفير حسام زكي ، الأمين العام المساعد للجامعة العربية، إن كل الدول التي تلي فلسطين في الترتيب الأبجدي والتي عُرضت عليها رئاسة الدورة الحالية رفضت تولي رئاسة “منقوصة” لمدة زمنية قصيرة ، وأوضح أن فلسطين بدأت رئاستها للدورة الحالية لمجلس الجامعة لمدة ستة أشهر ببيان افتتاحي يمثّل خطة العمل والرؤية الفلسطينية لإدارة العمل داخل الجامعة خلال فترة رئاستها ، غير أنها اعتذرت عن استكمال المهمة في منتصف الطريق.
هل يكون التطبيع سبب انهيار الجامعة العربية ؟
بات من الواضح أن النكسة الحالية للجامعة العربية جاءت على وقع التطبيع الإماراتي البحريني مع الكيان الصهيوني في الوقت الذي تشير فيه القراءات السياسية للمنطقة أننا سنشهد لاحقاً تواصل عملية تطبيع لدول عربية أخرى مع الكيان الصهيوني ، مما يعني أنه ومع نهاية المطاف واكتمال دائرة المطبعين وفي وقت أصبح فيه تيار التطبيع قوة ضاربة تكون الجامعة العربية في خبر كان مع ظهور الشرق الأوسط الجديد الذي يبدو أنه سيقوم على أشلاء أو جثة النظام الإقليمي العربي التي تعتبر الجامعة بؤرته التنظيمية الأساسية.
فكما رأينا فقد بدأت القصة حين أسقطت الجامعة مشروع قرار قدمته فلسطين في اجتماع وزراء الخارجية ، يدين اتفاق التطبيع بين الإمارات والكيان الصهيوني، حيث أدت البحرين دوراً كبيراً في إسقاط القرار الفلسطيني ، بعدما كشفت مصادر دبلوماسية عن تهديد البحرين للفلسطينيين بأنها سوف تضع بنداً من طرفها لتأييد التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وتشجيع “صفقة القرن”.
وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي تعليقا على ذلك بقوله: “إن فلسطين لا يشرفها رؤية هرولة دول عربية للتطبيع مع الاحتلال، و”لن تتحمل عبء الانهيار وتراجع المواقف العربية والهرولة للتطبيع”.
وأضاف أن قرار الاعتذار الفلسطيني جاء بعد اتخاذ الأمانة العامة للجامعة موقفاً داعماً للإمارات والبحرين.
وقد وجه الفلسطينيون اتهامات قوية لأمين عام الجامعة المصري أحمد أبو الغيط بأنه سوّق للتطبيع مع الكيان الصهيوني ، مشيرين لتصريحات أبو الغيط التي قال فيها أن تفاهم الإمارات مع أمريكا وإسرائيل جمّد عملية ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية، ودعا أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات أبو الغيط ، إلى الاستقالة من منصبه فوراً، معتبراً أنه “غير مؤتمن على الجامعة العربية”.
واتهم عريقات أبو الغيط بإنه يشرّعن توقيع الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، الذي نص بالحرف الواحد أن أساس السلام يكون وفق رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب”، وأنه قبِل كأمين عام للجامعة العربية بتصفية القضية الوطنية الفلسطينية ، واعتبار القدس الشرقية ، بما فيها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، تحت السيادة الإسرائيلية”.
وتساءل مستنكراً: “هل يعقل أن يصل مستوى الأمين العام للجامعة العربية لأن يصبح هو المسوّق للتطبيع المجاني بين إسرائيل والدول العربية (؟!)”، واعتبر أن أبو الغيط “فتح الطريق بتصريحاته أمام أي دولة عربية تريد التطبيع المجاني مع إسرائيل”.
ويقول كتّاب عرب إن هذه أول مرة تعزف الدول العربية عن رئاسة الجامعة ، “التي كانت تمثل الحد الأدنى للضمير العربي فأصبحت تمثل ضمير محور التطبيع فقط”، وإن هذا العزوف جاء بعد الغطاء الذي منحته الجامعة للمطبعين، وتساءلوا عن جدوى بقاء الجامعة العربية في ظل الانقسام بين أعضائها بشأن العلاقة مع إسرائيل.
وأشاروا إلى ازدواجية المعايير في التعاطي مع قضية التطبيع ؛ فحين وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد في 1978م، طُردت مصر من الجامعة وقاطعها العرب ونقل مقر الجامعة لتونس، فلم لا يقاطَع المطبعون اليوم؟.
ويقول مراقبون إنه إذا استمرت وتيرة قرارات الدول العربية المؤيدة للتطبيع مع إسرائيل فإن دور الجامعة العربية سينتهي تماماً خلال فترة قصيرة ، باعتبار أن هذه القضية كانت تمثل الحد الأدنى من التوافق بين الدول العربية، رغم ما كانت تواجهه من ضغوط خارجية دولية مثل تلك التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية.
وتوقع المراقبون بأن الجامعة العربية سوف تنتهي كمنظمة إقليمية في غضون العامين المقبلين على أقصى تقدير ، ويحل محلها “منظمة الشرق الأوسط الجديد” التي تقودها إسرائيل بدعم من المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية، وأكدوا على أن قضية التطبيع مع دولة الاحتلال من قِبل الإمارات والبحرين “كانت مجرد كشف لعورة الجامعة”.
ويرى مراقبون أن القرار الحالي للجامعة مختطف لدى بعض الدول الخليجية أبرزها السعودية والإمارات لافتين إلى أن الجامعة تحتاج فعلياً “استقلال القرار العربي، وتعديل ميثاق الجامعة من أجل مزيد من الإصلاحات السياسية والهيكلية”.
وأضافوا أن “الوضع في النهاية مأزوم بشكل كبير داخلياً، من خلال اختطاف القرار والميثاق الذي يتطلب تعديله، وما تفجر الآن هو حالة الهرولة نحو التطبيع بعد الإمارات والبحرين، ودخول السعودية ربما لاحقاً على الخط وربما أيضاً السودان وموريتانيا”.
واتهموا الجامعة العربية بـ”الخروج عن هدفها الحقيقي وقممها التي كانت تقف أمام الاحتلال بدعم المقاومة وفلسطين، وأصبحت حالياً سبباً رئيساً في الهرولة نحو التطبيع مع الكيان المحتل”.
الانهيار قادم :
يؤكد المهتمون بشؤون الجامعة العربية أن أزمتها بدأت من وقت تأسيسها، حيث كانت فكرةً بريطانيةً من أجل السيطرة عليها واستخدام حكوماتها في مصالحها، وأيضاً من بعض الدول الاستعمارية للسيطرة على قرارات الحكام العرب وأشاروا إلى أنه على مدى السنين وبعد التحرر من الاستعمار، حاول بعض المفكرين العرب والسياسيين الدفع نحو تعديل ميثاق جامعة الدول العربية، غير أن ذلك لم يغير شيئاً.
ومرّت الجامعة بمراحل صعود وتحديات كبرى منذ تأسيسها عام 1945م، باعتبارها أقدم منظمة إقليمية في العالم، غير أنها تعرضت لانتكاسات كبرى من بعد هزيمة 1967م، ووفاة الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر الذي كان لديه مشروع قومي يهدف إلى توحيد القرار العربي في مواجهة التحديات الدولية والأزمات الكبرى.
وتوالت نكبات الجامعة العربية بل ازداد تدهور مواقفها إبان حرب الخليج عندما عجزت عن حل الخلاف بين العراق والكويت، ولم تقف المآسي عند هذا الحد، فقد طال الصراع المغربي الجزائري حول الصحراء عقوداً من الزمن لم تستطع الجامعة خلالها فرض رأيها على المتنازعين رغم عضويتهما المهمة لديها.
كما أدى الصراع في السودان إلى تقسيم البلاد إلى شطرين وسط عجز للجامعة العربية، ثم أخيراً ما حدث في سوريا واليمن وليبيا، ودخول الصراع بين الدول الأعضاء، وإصدار بيانات غير متوافقة مقابل أطراف بحد ذاتها داخل الجامعة، ولم تقدم الجامعة العربية على مدار الصراع العربي الإسرائيلي ما كان مأمولاً منها بل زادت من تفاقم الوضع العربي في صراعه مع الكيان الصهيوني.
ويقول محللون إن دور الجامعة العربية انتهى تماماً باندلاع “ثورات الربيع العربي”، وإنها لم تعد تلبي طموحات الشارع العربي في الوحدة وتبني القضايا الرئيسية وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي أو الأزمات العربية الأخرى حيث أصبحت التدخلات من خارج المنطقة العربية هي المؤثر الرئيسي في أغلب هذه الأزمات.
ويقولون إن الجامعة العربية محكومة بالتوافق بين الدول الأعضاء فيها، فيما تظل الدول العربية أسيرة لمصالحها الخاصة وتحالفاتها الإقليمية والدولية، وإنها في المرحلة الحالية تظل أسيرة لصراع بين معسكرين رئيسيين، الأول يتمثل في دول الخليج التي تضغط بأموالها على القرار السياسي للجامعة ، والآخر يتمثل في الدول التي تسعى لاستقلال القرار العربي، وتعديل ميثاق الجامعة من أجل مزيد من الإصلاحات السياسية والهيكلية.
إن ما يحدث للجامعة حالياً يعكس تراجعاً في دور الجامعة على الصعيدين الإقليمي والعالمي ، في ظل اتساع الخلافات بين الدول العربية حول قضايا رئيسية أبرزها الصراع العربي – الإسرائيلي، والأزمات في سوريا، واليمن، وليبيا، وكذا العلاقة مع تركيا.
عموما لم تعد الجامعة العربية سوى اسم بلا معنى ، ولم يعد لقراراتها قبول شعبي، أو حتى احترام لدى الحكومات العربية، والاعتذار عن رئاسة الدورة الحالية دليل على أن الحكومات بذاتها لم تعد تثق بهذه الجامعة.