حياة الحويك عطية*

عام 2009، وبينما كان الرأي العام العالمي يتحوّل في موقفه من الدولة العبرية إثر عمليّة “الرصاص المصبوب” على غزة، استنفرت الدوائر الإعلامية الصهيونية أصواتها المهمة في الغرب لتبرير العدوان.

وفي إطار ذلك، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز”، في عددها الصادر في 2 يناير/كانون الثاني، مقالاً لبِني موريس المؤرخ والأستاذ في جامعة بن غوريون، نُشرت ترجمته بالتزامن، في معظم وسائل الإعلام الأوروبية بعنوان: “إسرائيل تشعر بأن الخناق يشتدّ”، يحلّل فيه موريس المخاطر التي تتعرض لها الدولة العبرية كي يبرّر ضمناً لجوءها للعنف. وهو إذ يبدأ بالقول إن “إسرائيل” تشعر بأن “طوق التاريخ وجدرانه يشتدان عليها كما كان الحال قبل حرب 1967، رغم أنّ عدد سكانها من اليهود كان يومها لا يتعدّى مليونين ونصف مقابل خمسة ملايين ونصف اليوم، وبالرغم من أنها لم تكن تمتلك السلاح النووي”.

يعبّر موريس عن “هذا الخوف والتشاؤم اللّذين يعودان في المقام الأول الى أن العالم العربي والإسلامي لم يقبلا يوماً اعتبار إسرائيل كياناً شرعياً رغم اتفاقيات السلام التي وقّعتها مع مصر والأردن”. وفي المقام الثاني، يعزو هذا الشعور إلى أن “الجمهور الغربي يصبح أقلّ فأقلّ تأييداً للقضية الإسرائيلية – وهذا أمر لا يمكن للمسؤولين الاستمرار في تجاهله في دول ديمقراطية. ذاك أن الأوروبيين ينظرون باستياء الى معاملة إسرائيل للفلسطينيين الذين تحت سلطتها. بالمقابل، بدأت ذاكرة الهولوكوست تخبو شيئاً فشيئاً في حين تقوى صورة الدول العربية أكثر فأكثر”.

وإذ يذهب موريس إلى تحديد سلسلة المخاطر التي تواجهها الدولة العبرية فإنه يلخّصها: ” في الشرق، إيران تطوّر برنامجها النووي. في الشمال، حزب الله يعزز تسلّحه”. وهنا يركز بالتفصيل على الصواريخ التي يمكن أن تطال تل أبيب وديمونا. “في الجنوب، على إسرائيل مواجهة حماس التي تمتلك كمّاً من الصواريخ معظمها جاء من إيران عبر الأنفاق. أما الخطر الرابع فيتمثل في الأقلية العربية، عدادها مليون ونصف، معظمهم تحوّل إلى مجموعات راديكالية خلال السنوات الأخيرة، أيّدت حزب الله عام 2006. من ناحية أخرى، إذا صدقت الإحصاءات سيتحول هؤلاء إلى أكثرية ما بين 2040 و2050 وبذلك يصبح الفلسطينيون أكثريّة ساحقة في كامل فلسطين الممتدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط. هذا، في حين أن العداء بين العرب واليهود يشتد، وقد عبّر عنها أعداد كبيرة من الشباب خلال الإنتفاضة عام2000″.

بخلاصة بسيطة، يحدّد الرجل الهدفين الرئيسيين على الساحتين العربية والدولية: قبول العالم العربي والإسلامي بـ”إسرائيل” ككيان شرعي، وإحياء تأييد الجمهور الغربي لـ”إسرائيل” عبر التخفيف من تغطية أعمال العنف المباشرة ضد الفلسطينيين وصيانة ذاكرة الهولوكوست. ولكي يتحقق الهدف على الساحتين العربية والإقليمية، فان قائمة الأهداف المعيقة واضحة ومحدّدة:

إيران – حزب الله وصواريخه – حماس وأنفاقها – الأقلية العربية داخل “إسرائيل” – العداء بين العرب واليهود.

أعمال العنف ضد الفلسطينيين تكفّلت بتخفيف حدة تأثيرها في الغرب تدابير كثيرة منها التنسيق الأمني في الضفة الغربية ومنها شيطنة صورة المقاومين ومنها استراتيجية أكثر خطورة تمثلت فيما بلوره سلام فياض بـ: “السلام الاقتصادي”، ومنها حروب الوكالة التي تكفّل بها العرب أنفسهم على ساحات أخرى، والتي قدّمت صور عنف بربرية شنيعة تتجاوز العنف الإسرائيلي، منسوبةً إلى الإسلام، قام بتسويقها الإعلام الغربي بشكل محموم، لتسليط الضوء على شيطنة الخطر الإيراني، في محاولة لتبرير الكثير من الأعمال العدوانية الاسرائيلية.

أما صيانة ذاكرة الهولوكوست فتتكفّل بها الدوائر الأوروبية نفسها، وسنرى حملات عربية وإسلامية تعزز المهمة. لم تكن زيارة عبد الله بن زايد إلى اشويتز إلا صفارة الإنطلاق الأولى لها، فيأتي تصريحه المضحك المبكي: لن تكون هناك هولوكوست بعد اليوم؛ مضحكاً لأننا نتخيّل الإمارات تقدّم هذه الضمانة، ومبكياً، لأن الترجمة الدقيقة للدعاية الصهيونية تُسوَّق لدى الجمهور الغربي بأن الصهيونية إنّما أنشات “إسرائيل” ملجأً يقي اليهود من الهولوكوست. هذا في حين تركّز هذه الدعاية على التعاون العربي النازي، حيث نشطت دوائر هذه الدعاية في السنوات الأخيرة في نشر عدد من الكتب والمقالات في هذا المجال. (للكاتبة كتاب حول التعاون الصهيوني النازي نُشر عام 2000).

أما ما يخصّ الشباب وروح العداء، فإن الدوائر الصهيونية لم تنتظر التوقيع مع أحد لتشنّ هجومها الواسع على الشباب العربي من أجل نزع روح العداء، سواء كان على المستوى الفوقي المتعلق ببعض التيارات والزعامات والأحزاب السياسية المرتبطة بالغرب ودول الخليج أو على مستوى خططها السياسية ووسائلها الإعلامية أو أيضاً على المستويات الشعبية من خلال وسائل عدة، ليس أقلها دور منظمات المجتمع المدني المموّلة أوروبياً واميركياً. كانت هذه المنظمات قد انتشرت بعشرات الآلاف وفعلت فعل سوس الخشب في العالم العربي: مؤسسات ثقافية واجتماعية ورياضية مموّلة غربياً او خليجياً بالوكالة (مثل الجوائز والمهرجانات ومراكز البحث والمباريات)، وليس أقلها أيضاً العمل الحثيث الذي تقوم به وحدة الديبلوماسية الرقمية الإسرائيلية التي استغلت مواقع التواصل الاجتماعي للتشبيك مع أكثر من مليوني شاب على امتداد العالم العربي، تراوحت أعمارهم بين 18 و22 سنة.

إنه اختراق ونخر كان لهما الدور الأكبر في تحويل الانفجار الشعبي ضد القمع والفساد والتخلّف طلباً للإصلاح في العالم العربي، إلى انفجارات فاسدة وقامعة ومتخلفة سعت الى تدمير الدولة وجرّها نحو المزيد من التخلّف والخراب اللّذين يشلاّن قدرات المقاومة.

وفّر هذا المناخ أرضيةً خصبة لتمرير عمليات التطبيع قبل التوقيع، بل وخلق حالة من التعب وضياع المعايير أوصلت المزاج العام في كثير من الأحيان الى القبول بأي شيء وعدم الاستعداد لتحمل المزيد بشأن القضايا الكبرى، وسط تجهيل ثقافي سياسي يحول دون استيعاب الشعوب أن الخسارة التي سيسببها التخلّي، ستكون على المدى البعيد أكبر وأخطر بكثير.

وإذا كانت عملية مواجهة الخطر الإيراني، وحزب الله وحماس، تحتاج كل منها الى مساحات، فإن الخطر الرابع الذي تحدث عنه بني موريس هو ذلك المعروف بالقنبلة الديموغرافية التي تهدد الكيان وتهدد مشروعه الأيديولوجي الأساس: يهودية الدولة، والذي كثيراً ما تمّ تداول الخطط بشأنه حول “ترانسفير” باتجاه الأردن. لكنها خطط كانت تصطدم دائماً بخطر نشوب حرب أهلية أو على الأقل حصول اضطرابات أمنية على الحدود الطويلة للكيان مع المملكة الأردنية التي ترتبط باتفاق سلام مع الكيان، والتي ستصبح في تلك الحال ذات أغلبية فلسطينية.

وفي هذا الموضوع، تؤشر المعلومات اليوم إلى حلّ عبقري تتضمنه صفقة القرن، وهو أن تعمل السلطات الإماراتية على التضييق على العمالة العربية واستبدالها تدريجياً بعمالة من عرب أراضي الـ 48، بحيث يتم إفراغ دولة “إسرائيل” منهم، فتتحقق يهودية الدولة دون مخاطر ديموغرافية او اعتراضية.

وفي الوقت ذاته، يُصار الى الضغط قانونياً على الإمارات لتجنيس أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية، يُمرَّر فيها أعداد من اليهود مزدوجي الجنسية، وأعداد من المستثمرين والإداريين والمستشارين التابعين لـ”إسرائيل”، مباشرة أو بشكل مقنع (ثلاثية الجنسية). ممّا يفسر أحد أسباب اختيار الإمارات والبحرين للبدء بالمشروع الذي سيحوّل الخليج العربي إلى مستعمرات جديدة ذليلة لا تحتاج “إسرائيل” إلى جعلها مستوطنات لأنها لم تكن يوماً ضمن خريطة “إسرائيل” الكبرى، ويكفيها أن تؤدي الدور الذي يمنحه لها الفقه اليهودي المتشدد للعجماوات: خدمة اليهود، ما سيُتَرجم فعلياً على أرض الواقع خدمةً لبقاء “إسرائيل” وأمنها وسلامتها ويهوديتها واقتصادها.

هذا ما عناه حلم شيمون بيريز بجمع الثروات العربية من اليد العاملة العربية الى العقل الإسرائيلي. وهذا ما عبرت عنه ميري ريغيف وزيرة المواصلات الإسرائيلية، بعد توقيع اتفاق فتح الأجواء الأردنية أمام الطيران الإسرائيلي، حيث قالت إنه “السلام الاقتصادي الإقليمي”.

* المصدر : الميادين نت
* المقال يعبر عن رأي كاتبه