السياسية – متابعات:
محمد محسن وتد – القدس المحتلة

لم تقتصر فصول نكبة الشعب الفلسطيني على المجازر ومشاهد التهجير والتشريد والإبادة العرقية، وتدمير القرى والمدن من قبل العصابات الصهيونية، بل رافق ذلك عمليات سطو ونهب أملاك وممتلكات من منازل الفلسطينيين قام بها اليهود خلال النكبة، وهي المشاهد والأعمال التي تواصلت لأشهر بعد النكبة، بغرض تفريغ فلسطين من العرب وضمان عدم عودتهم إلى منازلهم وإلى البلدات المدمرة.

هذه المشاهد المقرونة بالوثائق والاعترافات والصور، أوردها المؤرخ الإسرائيلي، آدم راز، في كتابه “نهب ممتلكات العرب في حرب الاستقلال”، الصادر عن دار النشر “كرمل” بالتعاون مع معهد أبحاث “عكيفوت”، الذي يعنى بالكشف عن كواليس النكبة ووثاق ومواد أرشيفية تتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

ويكشف المؤرخ في هذا الكتاب (321 صفحة) عن ظاهرة كانت ذات أهمية حاسمة في تشكيل المجتمع والدولة في إسرائيل، لكنها منسية من الذاكرة التاريخية، وهي ظاهرة نهب الممتلكات العربية خلال النكبة.

ولغرض إنجاز الكتاب، قام المؤرخ راز بمسح حوالي 30 أرشيفا إسرائيليا في جميع أنحاء البلاد تعنى بالنكبة والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وكذلك راجع الصحافة التاريخية واستعان أيضا بجميع المؤلفات البحثية الموجودة.

ووفقا للوثائق والإفادات التي وثقها المؤرخ راز، فقد شارك العديد من الجنود والمدنيون اليهود، وعلى مستوى الأفراد والجماعات، في عمليات السطو الجماعي على الكثير من العقارات والأملاك والممتلكات التي تركها أصحابها الفلسطينيون بسبب التهجير والتشريد.

مسجد البحر بطبرية أعلنت البلدية الإسرائيلية عن مخطط لتحويله لمتحف وطمست معالمه بشقق فندقية (الجزيرة)

إفادات ووثائق
يتألف الكتاب من فصلين، يستعرض المؤرخ الإسرائيلي في الفصل الأول، بعنوان “نهب الممتلكات العربية-وقائع السطو”، عمليات النهب والسلب للممتلكات والعقارات الفلسطينية في مختلف القرى والمدن الفلسطينية، حيث تركزت في ألوية طبرية وحيفا والقدس ويافا وعكا وصفد وبيسان وبئر السبع واللد والرملة، والقرى الريفية، بينما طالت أعمال النهب والسلب المساجد والكنائس.

وجاء الفصل الثاني للكتاب بعنوان “نهب الممتلكات العربية- السياسة والمجتمع”، استعرض من خلال المؤرخ تعامل المؤسسة الإسرائيلية وحكومة بن غوريون مع ظاهرة السلب والنهب لأملاك الفلسطينيين، وتماهي المجتمع المدني اليهودي مع هذه الظاهرة التي لم تقتصر على الجنود أو العصابات المسلحة.

منزل الأديب غسان كنفاني في وادي الصليب مغلق من قبل المؤسسة الإسرائيلية (الجزيرة)

سلب ونهب
ووصف الكتاب ظاهرة السلب والنهب بالسم الذي يسري في شرايين المجتمع، مستشهدا بوثاق وإفادات توثق عمليات النهب الفردية والشخصية وكذلك النهب والسلب الجماعي، دون أن تعمل حكومة بن غوريون على مكافحتها أو منعها، رغم التحذيرات التي أوردتها بعض الوزارات الحكومية وخاصة وزارة الأقليات.

عزا المؤرخ اتساع ظاهرة السلب والنهب حتى بعد النكبة بأشهر، والتزام الصمت الرسمي حيال الظاهرة إلى وجود سياسة إسرائيلية رسمية تشجع على النهب والسلب، بغرض تفريغ البلاد من الفلسطينيين وضمان عدم عودتهم إلى ديارهم بعد النكبة.

لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل إن الكتاب يحمل مسؤولية ظاهرة السلب والنهب واستمرارها ما بعد النكبة إلى رئيس الوزراء الأول بن غوريون، الذي قال خلال اجتماع للجنة المركزية لحزب “مباي” الذي أسس الدولة العبرية “اتضح أن معظم اليهود لصوص.. أقول هذا عن قصد وببساطة، لأن هذا للأسف صحيح”.

عقارات وقفية على شاطئ طبرية حولت لكنس ومدارس توراتية ومراكز تلمودية (الجزيرة)

صمت وتغافل
وقال المؤرخ راز في مقابلة مع صحيفة “هآرتس” بمناسبة صدور كتابه إن “العديد من شرائح الجمهور الإسرائيلي متورطون في نهب وسلب ممتلكات الجمهور العربي. لقد انتشر النهب كالنار في الهشيم بين الجمهور اليهودي”.

وبحسب راز، فإن علميات النهب والسرقة شملت عشرات الآلاف من المنازل والمتاجر والمعدات الميكانيكية والمصانع والمنتجات الزراعية والماشية، كما طالت السرقات آلات البيانو والكتب والملابس والمجوهرات والطاولات والأجهزة الكهربائية والمحركات والسيارات.

وتعمد المؤرخ الإسرائيلي عدم البحث ومناقشة مصير الأراضي والمباني التي خلفها 700 ألف لاجئ فلسطيني طردوا وشردوا وهجروا من قراهم ومدنهم، حيث ركز راز جل بحثه وكتابه الجديد لظاهرة السلب والنهب للملكية المتنقلة فقط، وهي الممتلكات التي يمكن تحميلها ونقلها في الحقائب والسيارات.

غزو وانتقام
ولتدعيم الاقتباسات بشأن ظاهرة السلب والنهب، يستند المؤرخ في كتابه أيضا على تقرير أرشيفي من العام 1949، أعده دوف شفرير، من مكتب “حارس أملاك الغائبين”، الذي استعرض الوضع في حينه قائلا إن “هروب السكان العرب المذعورين بحشودهم، وترك أملاك هائلة من مئات وآلاف البيوت، والمتاجر، والمستودعات والورش قوبل بنهب الأملاك من قبل اليهود”.

واستعرض الكتاب عمليات النهب والسلب لممتلكات العرب التي شهدتها طبرية -أول مدينة فلسطينية سكنها بعض اليهود بعد احتلالها في أبريل/نيسان 1948- من خلال وثيقة أرشيف “ياد تبنكين” التي تعتمد على شهادة وإفادة قدمها الضابط في لواء “البلماح” بالنقب، حاييم كرمر، الذي أرسل إلى طبرية بزعم “منع أعمال نهب وسلب أملاك العرب”.

وجاء في شهادة الضابط كرمر “لقد هاجم وغزا السكان اليهود في طبرية البيوت مثل الجراد، حيث اضطررنا إلى استخدام الضرب والجلد، وأن نضربهم بغية إرغامهم على ترك الأشياء على الأرض وإجبارهم على المغادرة”.

عقارات وقفية على شاطئ طبرية حولت لكنس ومدارس توراتية ومراكز تلمودية (الجزيرة)

أفراد وعصابات
لم يقتصر النهب والسلب على اليهود المدنيين بل على عناصر العصابات الصهيونية المسلحة، إذ وصف كرمر النهب والسلب الذي تعرضت له طبرية “كانت هناك منافسة من مختلف الوحدات المسلحة والهاغاناه التي أتت بسيارات ومراكب وشاحنات وحملت أشياء متنوعة، ثلاجات، أسرة، وأثاثا منزليا”.

وأضاف الضابط في شهادته على ما حصل في طبرية “كان يمكن رؤية الناس وهم يتجولون في المتاجر المنهوبة، ويأخذون منها ما تبقى عقب أعمال السرقة المشينة. تجولت في الشوارع ورأيت مدينة كانت منذ وقت ليس ببعيد طبيعية، والآن هي مدينة أشباح، منهوبة ومسلوبة، ومحلاتها مستباحة ومنازلها مهجورة من ساكنيها”.

مسجد الاستقلال في حيفا نهبت وصودرت غالبية عقاراته المتاخمة له (الجزيرة)

واستعان المؤرخ بأرشيف “هاشومير”، لتدعيم الشهادات المتعلقة بالنهب والسرقة لأملاك العرب في طبرية، واستشهد بمدونات ويوميات يوسف نحماني، وهو أحد مؤسسي “البلماح”، وأحد سكان طبرية، وقد أشرف على طرد وتهجير سكانها العرب، ووصف “كيف هاجمت حشود اليهود عام 1948 الحوانيت والمنازل والمحال التجارية وشرعت بنهبها، عشرات من اليهود ساروا في مجموعات، نهبوا منازل ومتاجر العرب”.

ورغم ذلك لم توجد بالأرشيفات اليهودية بيانات رسمية عن ظاهرة نهب وسلب أملاك العرب والمسروقات وكميتها وقيمتها النقدية. لكن يؤكد راز أن “الظاهرة حدثت في جميع المدن والقرى، حتى المختلطة منها، وعلى نطاق واسع”.

عقارات وأملاك للفلسطينيين بالبلدة القديمة بطبرية بعد نهبها حولت لليهود (الجزيرة)

مداهمة واستباحة
وعن مشاهد النهب والسلب في حيفا، يقول المقاتل من لواء “كرميلي” تصادوق إيشل “لقد استولى الأشخاص (اليهود) على كل شيء وصلت إليه أيديهم، ومنهم ممن قاموا بفتح واقتحام الحوانيت المهجورة وحملوا البضائع على كل سيارة”.

وبعد زيارته لحيفا كتب يوسف نحماني في إفادته أن “كبار السن من الرجال والنساء بغض النظر عن العمر والمكانة الدينية، كلهم متورطون في السرقة، وجميعهم انشغلوا بالنهب، دون أن يردعهم أو يمنعهم أحد”.

أعمال النهب والسلب التي تعرضت لها أملاك العرب في حيفا كانت كبيرة لدرجة أن المدعي العام الذي رافق قوات العصابات الصهيونية في حيفا، المحامي موشيه بن بيرتس، أصدر حكما في يونيو/حزيران 1948 جاء فيه “لم يتبق للعرب شيء وليس هناك ما يأخذونه، ما حصل بمثابة مذبحة للأملاك والممتلكات، والضباط لكل واحد منهم لديه أعذار، ولا يوجد أحد للقبض عليه”.

مسجد الزيداني أو السوق بالبلدة القديمة بطبرية مغلق ويواجه مخططا لتطوير مشروع سياحي تجاري (الجزيرة)

“الإيتسل” و”الهاغاناه”
كتب بن غوريون في مذكراته، بعد احتلال حيفا، عن “نهب مطلق وكامل” في حي وادي النسناس، نفذه أفراد عصابتَي “إيتسل” و”الهاغاناه”. فقال “كانت هناك حالات وجدوا فيها لدى أعضاء الهاغاناه أغراضا مسروقة، وحتى لدى الضباط”. ونشرت الصحف العبرية، بينها “هآرتس” و”معاريف”، تقارير عن عمليات النهب هذه.

أما غولدا مائير فقالت في اجتماع لإدارة الوكالة اليهودية عقد بعد أيام من احتلال كبرى المدن الفلسطينية “في أول يومين كان الوضع في الأراضي المحتلة صعبا، خاصة في القطاع والأماكن التي سيطرت عليها قوات الإيتسل، إذ لم يتبق ولو حتى خيط في المنازل”.

المصدر : الجزيرة