تصاعد التوتر الفرنسي- التركي في شرق المتوسط .. الأسباب والتداعيات
السياسية: محفوظ الفلاحي
تصاعدت حدة التوتر بين تركيا وفرنسا في الأشهر القليلة الماضية على خلفية قضايا مختلفة من بينها عمليات التنقيب التركية عن الغاز في البحر المتوسط والدور التركي في الشمال السوري إضافة إلى التدخل التركي العسكري في ليبيا.واتخذت فرنسا مواقف رافضة بقوة لسياسات تركيا وخطواتها في اطار تلك القضايا وهو ما جعل قائمة الخلافات تتسع بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والتركي رجب طيب أردوغان وكان أخطر هذه الخلافات وأحدثها ما يتعلق بالنزاع التركي اليوناني حول التنقيب عن الغاز والنفط في المنطقة المتنازع عليها بين البلدين.
الخلاف التركي اليوناني
أدى اكتشاف احتياطيات كبيرة من الغاز في السنوات الأخيرة في شرق المتوسط إلى إحياء نزاع إقليمي طويل الأمد بين تركيا واليونان المختلفتان حول ترسيم حدودهما البحرية المشتركة.
وتفجر النزاع بين البلدين العضوين في حلف الناتو عندما وقعت تركيا في نوفمبر الماضي اتفاقا مع حكومة السراج في ليبيا يؤسس لمنطقة اقتصادية تمتد من الساحل الجنوبي لتركيا حتى شمال شرق ليبيا، واعترضت اليونان ومعها مصر وفرنسا على هذا الاتفاق ووصفته بإنه غير قانوني فيما قالت اليونان أنه منافياً للمنطق إذ لم يأخذ في الاعتبار وقوع جزيرة كريت اليونانية في المنطقة.
ثم هناك الاتفاق المصري اليوناني بترسيم الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط الذي أثار غيظا في أنقرة التي كانت تأمل أن تكون الأولى في التوصل إلى اتفاق مع القاهرة بشأن الحدود البحرية بين البلدين، وقد رفض الرئيس التركي هذا الاتفاق واعتبره “باطلا ولا قيمة له ولا يحق لليونان توقيع هذا الاتفاق”.
وفي نهاية مايو الماضي قالت تركيا إنها تعتزم البدء في التنقيب خلال الأشهر التالية في مناطق عدة أخرى في المتوسط ، مما أثار انزعاج اليونان وقبرص العضوتين في الاتحاد الأوروبي وكان قد تم منح عدة تراخيص لشركة تيركيش بيتروليوم التركية للنفط للتنقيب في شرق المتوسط، بما في ذلك قبالة سواحل جزيرتي رودوس وكريت اليونانيتين.
وتدهور الوضع عندما قامت تركيا في 10 أغسطس الماضي بنشر سفينة استكشاف ترافقها سفينتان عسكريتان في المنطقة المتنازع عليها في جنوب شرق بحر إيجه، حيث تتواجد البحرية اليونانية من أجل “مراقبة” الأنشطة التركية، وفق ما قالت أثينا التي تقول أن المنطقة التي نشرت فيها السفينة التركية تابعة لها وتعهدت بالدفاع عن سيادتها هو بالضبط ما كان وراء التصعيد الحالي.
وقد أجرى الجانبان مناورات عسكرية بالقرب من المنطقة المتنازع عليها في شرق البحر المتوسط، وبدأت تركيا السبت الماضي مناورات عسكرية جديدة في منطقة مقابلة لبلدة أنامور في جنوب تركيا، إلى الشمال من جزيرة قبرص، من المفترض أن تستمر أسبوعين كما أعلنت أنقرة أن تدريبات إطلاق النار ستجري يومي الثلاثاء والأربعاء في منطقة تقع إلى الشرق من هذا الموقع ، وفي المقابل انضمت فرنسا الأسبوع الماضي إلى مناورات عسكرية مع إيطاليا واليونان وقبرص في شرق البحر المتوسط، وزاد التصعيد الجمعة الماضية عندما أعلنت وزارة الدفاع التركية إن طائرات تركية مقاتلة اعترضت ست طائرات يونانية في اليوم السابق لدى اقترابها من المنطقة التي توجد فيها سفينة التنقيب التركية.
موقف فرنسي صارم
اتخذت فرنسا موقفا صارما خاصة بعد نشر سفينة التنقيب التركية في المنطقة المتنازع عليها وما رافقها من مناورات عسكرية تركية، وحدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطوطاً حمراء لتركيا في شرق المتوسط في خطوة يرى مراقبون أنها تستبق أي هجوم تركي محتمل على اليونان لا سيما بعد تشبث أنقرة بالتصعيد مع أثينا رغم الإنذارات الأوروبية.
وقال الرئيس ماكرون الجمعة إنه اتخذ موقفاً صارماً فيما يتعلق بأفعال تركيا في شرق البحر المتوسط لوضع خطوط حمراء ، لأن أنقرة تحترم الأفعال وليس الأقوال، وأضاف “عندما يتعلق الأمر بالسيادة في منطقة شرق المتوسط، يجب أن تكون أقوالي متسقة مع الأفعال، يمكنني أن أبلغكم أن الأتراك لا يدركون ولا يحترمون سوى ذلك… ما فعلته فرنسا هذا الصيف كان مهما، إنها سياسة تتعلق بوضع خط أحمر، لقد طبقتها في سوريا” فى إشارة إلى الغارات الجوية الفرنسية على ما يشتبه بأنها مواقع أسلحة كيماوية فى سوريا.
وكان الرئيس الفرنسي يشير إلى قيام باريس بتعزيز حضورها العسكري الخميس الماضي في شرق المتوسط دعما لليونان في مواجهة تركيا حيث نشرت فرنسا “مؤقتا” طائرتين حربيتين من طراز “رافال” وسفينتين من سلاح البحرية لإبراز “رغبتها فرض احترام القانون الدولي”، وفق ما قالت باريس.
وقالت وزارة الدفاع الفرنسية إن الطائرتين ستبقيان “بضعة أيام” في جزيرة كريت، وذلك بعد نشرهما في قبرص بين الاثنين والأربعاء لإجراء تدريبات.
وانضمت الفرقاطة “لا فاييت” ليل الأربعاء الخميس في البحر المتوسط إلى حاملة المروحيات “تونير” التي ينتظر وصولها إلى بيروت لتقديم المساعدة بعد الانفجار الذي دمر جزءاً من العاصمة في الرابع من أغسطس الماضي ، و”لافاييت” أبحرت من لارناكا (قبرص) ونفذت قبل ذلك تدريبات مع البحرية اليونانية.
وانضمت فرنسا الأسبوع الماضي إلى مناورات عسكرية مع إيطاليا واليونان وقبرص في شرق البحر المتوسط وذلك في أعقاب إرسال أنقرة سفينة التنقيب “أوروتش رئيس” إلى المياه المتنازع عليها هذا الشهر.
وحذّرت فرنسا تركيا من أن شرق المتوسط لا يمكن أن يتحول إلى “ملعب لطموحات” البعض، وقالت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي إن “المتوسط يجب ألا يكون ملعباً لطموحات البعض، إنه ملكية مشتركة، واحترام القانون الدولي يجب أن يكون القاعدة وليس الاستثناء”.
تصعيد فرنسي في الجانب الأوروبي
ترافق الخط المتشدد الذي اتخذه ماكرون على الصعيد الفرنسي مع تصعيد في الإطار الأوروبي ، ودعا ماكرون الاتحاد الأوروبى لإبداء التضامن مع اليونان وقبرص فى الخلاف مع تركيا كما ضغط من أجل فرض مزيداً من العقوبات على مستوى الاتحاد الأوروبى، على الرغم من وجود انقسامات داخل التكتل بشأن تلك القضية.
وقال ماكرون “لا أرى أن استراتيجية تركيا فى السنوات القليلة الماضية تتسق مع استراتيجية دولة حليفة فى حلف شمال الأطلسى، وذلك عندما تجد دولة تتعدى على المناطق الاقتصادية الخالصة أو تنتهك سيادة دولتين عضوين فى الاتحاد الأوروبي”، واصفا إجراءات تركيا بأنها استفزازية.
وأضاف ماكرون:”بدأت ألمانيا وشركاء آخرون يتفقون معنا على أن أجندة تركيا تثير المشاكل الآن”. ومضى يقول “منذ 6 أشهر كان الناس يقولون إن فرنسا وحدها هي التي تنحى باللائمة على تركيا فى الأحداث، الآن يرى الجميع أن هناك مشكلة”.
وفي تجاوب مع دعوات ماكرون قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعد محادثات أجرتها معه إن جميع دول الاتحاد الأوروبي ملزمة بدعم اليونان في أزمة شرق المتوسط، وأوضحت ميركل أن من واجب دول الاتحاد النظر لحقوق وتصريحات اليونان بجدية ودعمها عندما تكون محقة.
كما هدد الاتحاد الأوروبي الجمعة بفرض عقوبات على تركيا بسبب عمليات التنقيب التي تجريها في شرق المتوسط، وقال منسق الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل «اتفقنا على أنه في غياب التقدم من جانب تركيا، قد نضع قائمة بمزيد من القيود التي يتوقع مناقشتها خلال (اجتماع) المجلس الأوروبي في 24 و25 سبتمبر».
وعن طبيعة العقوبات قال بوريل إنه قد يتم توسيع نطاقها لتشمل سفنا أو غيرها من الأصول المستخدمة في عمليات التنقيب، إضافة إلى حظر استخدام موانئ ومعدات الاتحاد الأوروبي وفرض قيود على «البنى التحتية المالية والاقتصادية المرتبطة بهذه الأنشطة».
وأضاف أنه قد يتم النظر كذلك في فرض عقوبات واسعة ضد قطاعات بأكملها في الاقتصاد التركي، لكنه أشار إلى أن ذلك لن يتم إلا فى حال لم تثبت التدابير المحددة ضد عمليات التنقيب فعاليتها.
ويأتي التوجه الفرنسي نحو الاتحاد الاوربي في حين اعتبر ماكرون حلف الناتو التي تركيا عضو فيه في “حالة موت دماغي” لفشله في الحيلولة دون وقوع حوادث مماثلة بين أعضائه.
تحدي تركي….
أظهرت تركيا تحدياً واضحاً للتهديدات والتحذيرات الفرنسية الأوروبية ، وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده ستواصل حماية حقوقها ومصالحها في كل وقت وفي أي مكان ، مؤكداً أن تركيا ستفعل كل ما يتطلبه الأمر للحصول على حقوقها كاملة في البحرين الأسود والمتوسط وبحر إيجه.
ووجه أردوغان التحذير إلى الدول المناهضة لتركيا مطالبا إياها بالعمل على تفادي الأخطاء التي قال إنها “قد تودي بهذه الدول إلى الانهيار” وتوعد من “يجرؤ” على مهاجمة السفينة تركية التي تعمل على التنقيب عن الغاز والنفط في مياه شرق المتوسط بدفع “ثمن باهظ”.
كما ردت تركيا على التلويح الأوروبي بفرض عقوبات عليها بالقول أن الاتحاد الأوروبي ليس لديه “سلطة” لمطالبة تركيا بوقف أبحاثها في شرق البحر الأبيض المتوسط، متهمة الاتحاد بـ”زيادة التوترات” في المنطقة.
وأوضح بيان أصدرته وزارة الخارجية التركية أن أنقرة تتوقع أن يقوم الاتحاد الأوروبي بدور “الوسيط المحايد” في النزاع.
وقال رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب أن «اليونان دولة تحاول دائما إثارة وتصعيد الأوضاع شرقي البحر المتوسط، دون أن تضع بالحسبان (حجم) قدراتها وقوتها» ونوه إلى أن تركيا لم تعد كما كانت في السابق حيث عززت قدراتها الاقتصادية والعسكرية لتحمي مصالحها.
ورد وزير الدفاع التركي خلوصي أقار بتصريحات أكد فيها أن بلاده أصبحت اليوم “فاعلاً حقيقياً في الساحة الدولية وأن على الجميع أن يدرك ذلك”.
وقال فؤاد أوقطاي نائب الرئيس التركي “لا نتردد في حماية حقوقنا ومصالحنا وأكثر من يعلم ذلك اليونان وفرنسا”، وقال “أمتنا لا تقيم وزنا لأي شيء عندما يتعلق الأمر باستقلالها وحريتها، ولا تتوانى عن دفع أي ثمن مقابل صونهما “.
صراع فرنسي تركي متجدد في شرق المتوسط
يأتي الخلاف الفرنسي التركي حول اليونان ليضيف فصلاً جديداً من فصول الصراع بين البلدين في شرق المتوسط، فقد عرفت العلاقات الفرنسية التركية الكثير من التوتر خلال الأشهر الماضية على خلفية قضايا مختلفة من بينها الدور التركي في الشمال السوري إضافة إلى التدخل التركي العسكري في ليبيا والذي لم تخفِ فرنسا معارضتها له منذ البدء.
وبعد نحو أسبوعين من التصريحات والاتهامات المتبادلة شهدت الأيام القليلة الماضية تصاعداً في وتيرة الحرب الكلامية بين فرنسا وتركيا حول الدور الذي تلعبه كل منهما في الملف الليبي وسط مخاوف من أن تتحول ليبيا إلى ساحة للصراع بين باريس وأنقرة خاصة في ضوء امتلاك كل منهما لمصالح استراتيجية في هذا البلد الذي تمزقه الحرب.
وجاءت أحدث حلقة في مسلسل التصعيد بين البلدين على لسان وزارة الجيوش الفرنسية التي أعلنت في يوليو الماضي قرار باريس الانسحاب مؤقتاً من عملية للأمن البحري لحلف شمال الأطلسي في البحر الأبيض المتوسط “حتى يتم تصحيح الوضع”.
وقالت الوزارة الفرنسية إنه من غير المعقول لها أن تبقي على سفنها ضمن العملية التي تشمل مهامها التأكد من عدم خرق حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا “مع حلفاء لا يحترمون الحظر”، وهو ما اعتبر إشارة واضحة إلى تركيا التي تتهمها فرنسا بخرق هذا الحظر المفروض من الأمم المتحدة منذ أعوام.
وتشير تلك التصريحات إلى الحادثة التي وقعت قبالة السواحل الليبية في ١٠ يونيو الماضي والتي شكلت الشرارة التي أشعلت التوتر بين البلدين، وقد حدث الأمر عندما ذهبت الفرقاطة الفرنسية كوربيه لتفتيش سفينة شحن تركية ترفع علم تنزانيا للتحقق مما إذا كانت تقوم بتهريب أسلحة إلى ليبيا.
وفي السابع عشر من يونيو وخلال اجتماع لوزراء الدفاع في حلف الناتو، اتهمت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي تركيا باستهداف فرقاطتها أثناء قيامها بعملية التفتيش، وهو الأمر الذي نفته أنقرة بدورها قائلة على لسان مسؤول في وزارة الدفاع التركية إن الزعم الفرنسي “ليس له أساس” وغير مدعوم بأي أدلة ملموسة.
النفي التركي للحادثة، التي قال حلف الناتو إنه يحقق فيها، أُتبع في الثاني من يوليو بمطالبة بالاعتذار أطلقها وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو من برلين، حيث قال خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الألماني إن فرنسا لا تقول الحقيقة للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، مضيفاً أن عليها أن “تعتذر بلا شروط”.
وكانت فرنسا قد صعدت موقفها تجاه التدخلات التركية في ليبيا منذ مطلع يونيو واصفة إياها بـ”غير المقبولة”، في حين دان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان “الدعم العسكري المتزايد” لتركيا لحكومة الوفاق الليبية، المعترف بها دوليا، والتي تمكنت بفضل الدعم التركي هذا من استعادة السيطرة على مدينة طرابلس وضواحيها بالكامل، بل والتوجه نحو مدينة سرت شمال وسط البلاد بنية انتزاعها من قوات شرق ليبيا بزعامة القائد العسكري خليفة حفتر.
بدورها قالت وزارة الخارجية التركية في بيان ، إن المزاعم الفرنسية حول موقف أنقرة تجاه ليبيا تعد مؤشراً جديداً على “سياسة فرنسا المظلمة وغير المبررة تجاه ليبيا”، مضيفة أن أكبر عقبة أمام إحلال السلام والاستقرار في ليبيا هي الدعم الذي تقدمه فرنسا وبعض الدول لحكومة شرق ليبيا.
وتنفي باريس الاتهامات الموجهة إليها بدعم خليفة حفتر بينما تواجه انتقادات لعدم إدانتها لتوريد الأسلحة لحفتر من قبل داعميه الإقليميين وبخاصة الإمارات التي قالت الأمم المتحدة إنها تنتهك حظر الأسلحة المفروض على ليبيا.
وفي سياق التوتر المتكرر بين البلدين، دانت باريس أيضا الضربة الجوية التي نفذتها تركيا في العراق، في حين اتهم الرئيس التركي نظيره الفرنسي بأن له أهدافاً “استعمارية” في لبنان، من جهته لم يتوان ماكرون عن إدانة الطموحات الإقليمية لتركيا، واتهامها بـ”انتهاك” سيادة اليونان وقبرص وبأن لها “مسؤولية إجرامية” في النزاع الليبي.
ختاما ينبغي الإشارة إلى أن موقف فرنسا الداعم لليونان والرافض للخطوات التركية في شرق المتوسط يتوافق مع مواقف الإمارات ومصر وإسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي التي أعلنت رفضها لما اعتبرته توسعا تركيا في عهد الرئيس أردوغان الذي يتبنى سياسات لا تروق لها لا في سوريا ولا في ليبيا، ويدخل في تحالفات مع روسيا تشكل تهديداً لمصالحها الاقتصادية.
سبأ