لبنان بعد الكارثة: موقع إيراني متقدم في غرب آسيا
نصر الله ينشئ "مستودعات الغضب" بعد مستودعات الصواريخ
السياسية – وكالات :
طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني
لم يَرَ عناصر المنظومة الإيرانية في تطورات لبنان المتلاحقة منذ انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، سوى مؤامرة أميركية إسرائيلية عربية وغربية على نفوذ إيران ومشتقاتها في الإقليم، ومحاولة لإنهاء هذا النفوذ في لبنان، ضمن حملة عامة تستهدفه أيضاً في سوريا والعراق .
منذ اندلاع احتجاجات لبنان ضد السلطة السياسية المسؤولة عن الانهيار الاقتصادي والمالي في أكتوبر الماضي، تعامل معها حزب الله بدعم كلي من إيران ضمن سقفين، الأول توجيه رسالة إلى رئيس الوزراء سعد الحريري بهدف المزيد من تطويعه، والثاني منع تلك الاحتجاجات من التحول إلى انتفاضة شاملة ضد السلطة القائمة على أسس أنتجها اجتياح الحزب المذكور في بيروت في مايو (أيار) 2008، وتُرجمت في اتفاق الدوحة الذي ألغى أي قيمة لنتائج الانتخابات النيابية، ووضع الدستور اللبناني خارج الاحترام. وبينما كانت انتفاضة الشعب العراقي المتزامنة مع الانتفاضة اللبنانية تتخذ أبعاداً سياسية مباشرة ضد الهيمنة الإيرانية على العراق، حرص اللبنانيون على التخفيف من هذا المنحى، فلم يطرحوا شعارات تصادمية ضد أنصار إيران، ومع ذلك تحرك حزب الله في الشارع مُحاولاً قمع المنتفضين، خصوصاً في الأوساط الشيعية، ونظم جماعاته في مجموعات تهتف بشعارات مذهبية، (شيعة، شيعة)، في مواجهة العناوين الوطنية للمواطنين اللبنانيين.
تقسيم الجمهور اللبناني، ورفع مستوى التناحر الطائفي كان السبيل الأسرع إلى منع إجراء إصلاحات حقيقية تتيح إخراج لبنان من الأزمة العميقة، وهذه هي الخطة الإيرانية الفعلية لـ”دعم لبنان الشقيق”، وهو ما أظهرته الشهور اللاحقة على استقالة الحريري، فقد احتكر حزب الله الحكم عبر تشكيله حكومة حسان دياب، وفيها جمع أنصاره، الذين منذ مطلع العام الجاري لم يتقدموا خطوة على طريق إخراج اللبنانيين من الانهيار اللاحق بحاضرهم ومستقبلهم، فيما حوصرت السياسة والعلاقات الخارجية للبنان ضمن الحيِّز الذي تتيحه مصالح وارتباطات إيران، ما أبقى حكومة حزب الله خارج دائرة الحضور العربي والدولي، عاجزة عن البت في أبسط القضايا التي تفرضها الحاجة إلى تعاون يتيح عوناً عربياً ودولياً.
بكى حسن نصرالله لدى نعيه قاسم سليماني، وتحدث مبتسماً بعد تفجير بيروت ومينائها، وفيما ارتدى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ربطة عنق سوداء لدى حضوره إلى بيروت، خرج أنصار نصرالله، ومريدو إيران من الرسميين اللبنانيين بربطات ملونة.
لم تكن المسألة شكلية. في العمق لم ينظر هؤلاء إلى الكارثة الجديدة إلا من منظار الاستخدام السياسي. لم تُدَمّر عاصمة، ويُقتَل، ويُجرَح، ويُشَرّد مئات الألوف بسبب سلطة تحالف الفساد والميليشيا، وتركها أطنان المتفجرات في المرفأ المشرَّع الأبواب أمام حزب الله ومافيات الفساد، مثله مثل بقية المرافق والمعابر الشرعية، وغير الشرعية، وباتت المسألة في مسارعة العالم إلى تقديم المساعدة، والمشاركة في البحث عن أسباب الكارثة، وهكذا نسي الإيرانيون وأتباعهم ما حل بالشعب اللبناني، وباتوا على باب قوس أو ادنى من اتهامه بارتكاب التفجير لاستجلاب التدخل الخارجي!.
هذا ما فعلوه حقاً وحقيقة. وكالة “مهر” الإيرانية الرسمية اعتبرت أن ماكرون ما كان ليزور بيروت “لولا شعوره بأن ما تبقى له من أتباعٍ في لبنان، باتوا شحّاذين على الطرقات. وحكومة دياب هي حكومة مخلصة ستعمل حتى الساعة الأخيرة من زمن الصمود والتصدي، قبل أن يقرر أصحاب القرار الحقيقيين استبدالها بحكومة أخرى، فزمن الوصاية قد ولّى”.
هذه المقدمة الإيرانية المُصاغة في قُم، أعقبها شرحٌ تفصيلي يكشف عمق كره نظام الملالي للبنانيين. فالانفجار “المفاجىء في مرفأ بيروت أربك أجندة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، واستعجل حلفاء أميركا في استثمار هذه المأساة لقلب الأوضاع وتحميل حزب الله، والحكومة المسؤولية، والعودة إلى مقولة إخراج كل الرؤساء من الحياة السياسية بتفكير ساذج تقوده القوات، والكتائب، والاشتراكي، والحريرية الباطنية بدفع أميركي، وبعض الدول التي تحركت لاستيعاب محورٍ قويٍ على وشك السيطرة على غرب آسيا متجهٍ شرقاً بقوة، ما يعني خروجهم النهائي من المنطقة”!.
لم يجد الإيرانيون الذين سارعوا إلى إرسال “ظريفهم” إلى لبنان، يوم وصول وكيل الخارجية الأميركية إليه، في كل ما حصل سوى محاولة لنزع سيطرتهم عن “غرب آسيا”. والحقيقة أن هذه التسمية معبّرة، فلبنان ليس دولة ولا سوريا، وهما مجرد عقارات على ساحل المتوسط ينبغي الاحتفاظ بهما. ولهذه الغاية لم تكن إطلالة جواد ظريف ضرورية لإفهام اللبنانيين والعالم أن إيران ستقاتل بأظافرها للحفاظ على مواقعها في الغرب الآسيوي هذا. فالأمين العام لحزب الله، الشديد الإيمان والثقة برئيس الجمهورية اللبنانية، تحدث للمرة الثانية بعد انفجار بيروت مهدداً الذين أوردهم الإعلام الخامنئي بالاسم طالباً من أنصاره أن يحفظوا غضبهم لاستعماله في مرحلة لاحقة ضد هؤلاء.
هدد نصر الله عملياً بحرب أهلية للحفاظ على مكاسب إيران في غرب آسيا. لم يعد لبنان ذا شأن في خطابه، وهذه المرة أضاف إلى مستودعات السلاح والصواريخ التي يهدد بها إسرائيل عادة “مستودعات الغضب”، التي سيفتح أبوابها على اللبنانيين، إن استمروا في المطالبة بأبسط حقوقهم.