الأصفر الرنان والتكيف المرن
السياسية – مركز البحوث والمعلومات : خالد الحداء
خلال العقود الماضية سجلت أسعار الذهب الكثير من التقلبات في الأسواق العالمية وشكلت الأزمات والتوترات السياسية والاقتصادية داعماً مباشراً في هذا التصاعد، وخلال الأيام القليلة الماضية قفزت اسعار الذهب لتسجل ارتفاع قياسي “غير مسبوق” فوق مستوى 2000 دولار للأوقية، مستفيدا من تفشي جائحة كورونا في مختلف دول العالم، ومع إعلان روسيا عن تجريب لقاح جديد لفيروس كورونا انخفضت أسعار الذهب مجدداً إلى ما دون حاجز 2000دولار أمريكي.
كما هو معلوم، أن أسعار الذهب مرتبطة بصورة مباشرة بحالة الاقتصاد العالمي، حيث يكون إقبال الدول والأفراد على الاستثمار في الذهب محدود “إلى حداً كبير” عند انتعاش ونمو الاقتصاد والتجارة، وفي حالة كانت هناك هزات كبيرة للاقتصاد العالمي والتجارة الدولية، تنهار الثقة في مختلف التوجهات الاستثمارية وهذا يجعل الثقة بالعملات والأسهم وسوق المال تهتز باهتزاز العالم في تلك الأزمات.
وبالتالي فإن الإقبال على الذهب هو البديل الأكثر رواجا لكونه الاستثمار الاقوى والأمثل خلال الازمات ولكونه الملاذ الآمن، الذي يعوض الخسائر أو يقلل منها، ولا مبالغة في القول: أن الاحداث اثبتت أن الذهب كسلعة قادر على التكيف والتأقلم على اختلاف نوعية وشدة الأزمة بما فيها السياسية والاقتصادية والصحية والكوارث الطبيعية.
وينظر للذهب في وقتنا الحالي على اعتباره مخزون استراتيجي للدولة، يمكن استخدامه خلال الازمات المختلفة للقيام بعمليات الشراء والبيع لمختلف السلع عبر السوق العالمي، ولكن هذا الواقع لا يعكس ما كان عليه الوضع فيما سبق، حيث كانت أهمية الذهب مع بداية القرن العشرين تتمحور في كونه يمثل احتياطياً للبلد يستخدم في تغطية العملة الورقية “الاصدار النقدي” من خلال معادلتها بمقياس محدد (تحديد قيمة ثابتة للعملة بعيار ووزن معين من الذهب)، وبالتالي كان المعدن الأصفر ينتقل من الاحتياط إلى التداول وبالعكس من خلال صهر وسك الذهب، وكانت الأوراق النقدية بناء على هذه القاعدة ممثلاً ينوب عن الذهب، حيث كانت العديد من الشهادات الورقية “العملات الورقية” بمثابة حجة بملكية مقدار محدد من الذهب والذي كان محفوظاً لدى البنوك، وكان بمقدرة من يمتلك تلك العملات الورقية تحويلها إلى ذهب.
ولقيت العملات الورقية قبولاً واسعا لدى الناس لما تملكه من قوة شرائية “السلع والخدمات” على اعتبارها نائباً عن الذهب، وكان الاهتمام بالذهب خلال تلك المرحلة يعكس فكرة أن غنى الدولة يكون من خلال مقدار الاحتياط المتراكم لديها من المعدن النفيس.
غير أن هذه القاعدة في التعامل مع الذهب لم تصمد مع الحروب التي اجتاحت العالم وسارعت الدول الى تثبيت السعر الإلزامي للأوراق النقدية بعيدا عن ربطها بالذهب وبهذا أصبحت “النقود القانونية” تستمد قوتها من قانون الدولة وضمان الحكومة المصدرة لها إضافة إلى القبول العام.
وأدى هذا الواقع الجديد إلى فك الدول الكبرى وفي المقدمة الولايات المتحدة الأمريكية، ربط الدولار بالذهب في العام 1933 للتخلص من آثار الكساد العظيم، وتوالت الدول مع مرور الوقت في إيقاف نظام ربط الأوراق النقدية بالمعدن الأصفر لكونه نظام شديد ومعقد وغير قادر على التكيف مع المتغيرات السياسية والاقتصادية في ذلك الوقت.
ورغم تلك المتغيرات الجوهرية إلا أن أهمية الذهب في الواقع الاقتصادي والتجاري استمرت، وكان من الواضح أن هناك مساعي مستمرة من قبل الدول على زيادة احتياطياتها في البنوك المركزية، ولكن الديون المتراكمة على الدول بما فيها الدول الكبرى كان لها أثر عكسي في حجم الاحتياطات، حيث عملت البنوك المركزية على تغطية الديون الحكومية، (الناتجة عن الأزمات السياسية والاقتصادية واشتعال الحروب) من خلال خفض أرصدتها من مختلف المعادن بما فيها الذهب، وبالتالي تقلص رويدا رويدا استناد العملات الورقية على احتياطات الذهب في البنوك.
وفي ظل معطيات الحرب العالمية الثانية، كان المشهد في بعده الاقتصادي يوحي بفوضى نقدية وتجارية كبيرة وهو ما ساهم في المحصلة على خلق مزيد من الاضطرابات في الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية، ولتجنب مزيد من الأزمات كان من الضروري أن يتم التوافق على تنظيم التعاون المالي والنقدي ما بين الدول، وهذا ما تم فعلا من خلال مؤتمر (بريتون وودز) الذي عقد في 1944 في الولايات المتحدة الذي أسس القواعد لنظام نقدي دولي جديد “لتأمين الاستقرار والنمو للاقتصادي العالمي” يرتكز على أساس تحديد سعر لكل عملة مقابل كل من الدولار الأمريكي والذهب، على أن تلتزم الولايات المتحدة لمصارف الدول الأعضاء بتبديل ما لديها من الدولارات بالذهب وبمبلغ 35 دولاراً مقابل أونصة الذهب، وأصبحت أسعار الصرف ثابته وقابلة في نفس الوقت للتعديل، بمعنى أن النظام الجديد ” بريتون وودز” أعطى إمكانية تغيير أسعار الصرف بين الدول بالتفاهم وبالتالي فإن للدولة القدرة على تعديل قيمة عملتها في حالات معينة بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
تباينت ردود الافعال تجاه مقررات المؤتمر، إلا أن الثابت يشير إلى تعزيز الولايات المتحدة هيمنتها على النظام الاقتصادي العالمي بعد أن ساد الدولار الأمريكي السوق الدولية وتحوله كعملة مرجعية، وهو ما لم يلق قبولاً من قبل الاتحاد السوفيتي الذي رأي أن الاتفاق سوف يدفع بالاقتصاد الأمريكي للهيمنة المباشرة على الاقتصاد العالمي.
وبالعودة إلى الدور الذي لعبه الذهب في الاقتصاد العالمي ما بعد أتفاق (بريتون وودز)، كان من الطبيعي أن تنحسر أهميته أكثر فأكثر وأخذت أونصة الذهب مكانها في البنوك كاحتياطيات للدول، بعيدا عن أداء دور متقدم في الاقتصاديات المحلية والعالمية، وترافق ذلك مع اتفاق كبريات الدول على العمل دون انخفاض سعر الذهب عبر تقليص المعروض في السوق العالمي وعرضه بمقدار متفق عليه وهو ما ساهم في المحصلة على الحفاظ على استقرار سعر الذهب خلال السنوات التالية للاتفاق.
واستمر ارتباط الذهب بالدولار وبسعر ثابت خلال السنوات الممتدة من 1944 وإلى 1971، إلا أن المتغيرات الدولية وظهور قوى اقتصادية منافسة مثل اليابان والمانيا وغيرها من الدول، جعل الأمر أكثر صعوبة في الحفاظ على نظام “بريتون وودز”، وعند هكذا وضع كان قرار الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون وقف العمل بإمكانية تحويل الدولار الى ذهب، لينهي بذلك الارتباط الطويل الذي نشأ بين الدولار والذهب، ولتدشن العملات الورقية والذهب في ضوء ذلك القرار رحلة التعويم القائمة على آلية العرض والطلب.
وخلال نصف قرن من الزمن تفاوتت أسعار الذهب بصورة كبيرة، لارتباطها بالأحداث السياسية والاقتصادية والكوارث الطبيعية ولتأثرها المباشر بأسعار الدولار والنفط وزيادة الاستثمار ومعدل التضخم واحتياطيات الذهب وتغير معدلات الفائدة في كبرى البنوك المركزية.
وفي هذا السياق، وبلغة الأرقام سجل التاريخ للذهب متغيرات سعرية كثيرة ما بين صعود وهبوط واستقرار، ولكن هذا المسار الطويل يشير في الأغلب إلى طفرات أكثر منها عثرات حيث كان سعر الاوقية الواحدة يشير إلى 36 دولار في العام 1971، وخلال السنوات التالية ارتفع السعر إلى ما يقارب 140 دولار للأوقية الذهب مع السماح للأمريكيين بحرية الاحتفاظ بالسبائك الذهبية، وكان للأزمات السياسية والاقتصادية التي اجتاحت العالم في ذلك الوقت تأثيراً إيجابياً في تحقيق الذهب لقفزات كبيرة “الحرب الباردة والحرب العربية مع الكيان الاسرائيلي والتدخل السوفيتي في افغانستان واندلاع حرب الخليج الأولى” إلى أن وصل سعر الأوقية الواحدة 590 دولار، وفي العقد التالي ومع انهيار الاتحاد السوفيتي كان من الواضح أن انخفاض حدة الصراع عالميا سوف ينعكس سلبياً على أسعار المعادن حيث انخفضت سعر الأوقية إلى ما دون 390 دولار، وحافظ الذهب على سعر ثابت نسبيا خلال نهاية التسعينيات وبداية العقد الأول من الألفية الثالثة.
ولكن الوضع تغير نسبيا مع تصاعد التوتر في الشرق الأوسط وإعلان الولايات المتحدة أنها بصدد شن حرب جديدة على العراق “الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003” وفي ضوء تلك الأحداث، عاد الذهب إلى مسار الصعود ليتعدى حاجز 500 دولار في أوقية الذهب، وفي العام التالي 2006 واصل الذهب رحلة الصعود ليتخطى حاجز 700 دولار مستفيدا من تراجع سعر الدولار.
ومع بداية أزمة الاقتصاد العالمي في العام 2008 كان الذهب مع سيناريو غير متوقع، حيث تخطى سعر الأوقية حاجز ألف دولار للمرة الأولى في التاريخ، وفي العام التالي فقزت الأسعار إلى ما فوق 1200 للأوقية ، ومع استمرار الأزمة العالمية في ضرب الاقتصادات الكبرى وبروز أزمة منطقة اليورو، كان مستثمري الذهب مع قفزة تاريخية أخرى، بعد أن حقق المعدن الأصفر أعلى مستوياته عند سعر 1920 دولار للأوقية الواحدة، قبل أن يتراجع خلال الأعوام 2012 – 2015 مع تعافي الاقتصادات الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا واسيا وبـ 1090دولار للأوقية، وعاد من جديد للارتفاع في عامي 2016 و2017و بـ 1358 دولا للأوقية، ومع تصاعد التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في العام 2019 حقق الذهب مكاسب جديدة وبسعر 1553 دولار للأوقية.
ومع تفشي وباء كورونا في بداية العام 2020 وتحوله إلى جائحة عالمية، شهدت أسعار الذهب في البداية العديد من التقلبات ما بين تراجع ومن ثم صعود، وبمرور الوقت وتصاعد المخاوف من حدوث موجة ثانية من تفشي وباء كورونا دون أن يكون هناك مؤشرات على قرب إنتاج لقاح أو علاج للقضاء على فيروس كورونا، سجلت بيانات بورصة الذهب العالمية ولأول مرة تخطي حاجز 2000 دولار للأوقية مع توجه الدول والأفراد للاستثمار وبكميات وفيرة في المعدن النفيس، قبل أن تنخفض أوقية الذهب إلى 1950 دولار مع إعلان روسيا الاتحاد عن نجاحها في تطوير لقاح يوفر المناعة ضد فيروس كورونا، وعليه يبقى المسار المستقبلي للوضع الصحي على مستوى المعمورة العامل الأكثر تأثيرا في حفاظ أوقية الذهب على مكاسبها التاريخية.