ترامب والرسوم الجمركية.. نهاية الهيمنة الأمريكية وبداية لعالم متعدد الأقطاب
السياسية || محمد محسن الجوهري*
القومية الاقتصادية التي أعلنها ترامب بتبنيه رسوما جمركية إضافية على قرابة مائة دولة في العالم، لها تداعيات سلبية على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
فأمريكا قوة اقتصادية تحكم العالم، وتستثمر الكثير من عائدات الدول الأخرى، وأي إجراءات باتجاه الحمائية الاقتصادية ستعزز من عزلة البلاد، وتقلل من تأثيرها العالمي، كما ستسبب بتراجع الهيمنة الأمريكية على أغلب الأنظمة السياسية في العالم.
الخطوة ليست وليدة اللحظة، فمنذ وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم عام 2017، بدأت الولايات المتحدة تتجه نحو تبني ما يُعرف بالقومية الاقتصادية، وهي رؤية تقوم على تعزيز الاقتصاد الوطني من خلال تقليص الاعتماد على التجارة الخارجية، وفرض قيود على الواردات لحماية المنتجات المحلية. إحدى أبرز تجليات هذا التوجه كانت فرض رسوم جمركية إضافية على سلع قادمة من عشرات الدول، وعلى رأسها الصين، والاتحاد الأوروبي، وكندا، والمكسيك. كان الهدف المعلن من هذه السياسات هو تصحيح الميزان التجاري المختل، وإعادة الصناعات الأمريكية التي خرجت إلى الخارج، بالإضافة إلى خلق وظائف جديدة في الداخل الأمريكي.
لكن هذه الإجراءات أثارت جدلًا واسعًا ليس فقط داخل الولايات المتحدة، بل في أوساط الاقتصاد العالمي. فالولايات المتحدة ليست مجرد دولة ذات اقتصاد قوي، بل هي الدولة التي تهيمن على المنظومة المالية العالمية من خلال الدولار، وأسواق المال، وسلاسل التوريد العابرة للقارات.
تبني الحمائية بهذا الشكل أدى إلى ردود فعل واسعة من قبل دول أخرى، حيث فرضت الصين على سبيل المثال رسومًا مضادة على المنتجات الأمريكية مثل فول الصويا، ما أضر مباشرة بالمزارعين الأمريكيين الذين يُعدون من القاعدة الانتخابية الأساسية لترامب. كما تراجعت صادرات الشركات الأميركية بسبب هذه القيود، ما دفع بعضها إلى نقل مصانعها إلى الخارج لتجنب الضرائب المتبادلة، وهو ما يتناقض مع الهدف الأساسي من السياسات الحمائية.
على المستوى الجيوسياسي، أسهم هذا التوجه في تقليص النفوذ الأمريكي العالمي. فبدلًا من لعب دور الدولة القائدة لنظام التجارة الحرة، أصبح يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها دولة تسعى لتحقيق مصالحها القُطرية على حساب النظام العالمي الذي كانت قد أسسته بنفسها منذ الحرب العالمية الثانية. هذا الانكفاء ساهم في تقوية تحالفات جديدة خارج الهيمنة الأمريكية، مثل توقيع اتفاقيات تجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي، أو تعزيز منظمة "بريكس" التي تسعى لفك الارتباط بالدولار، وهو ما يشير إلى بداية تشكل نظام عالمي أكثر تعددية.
وفي هذا التراجع، قد يجد العالم فرصًا كان يحول دونها النفوذ الأمريكي طويل الأمد. من الناحية الاقتصادية، يعطي تراجع الهيمنة الأمريكية للدول النامية والناشئة مساحة أوسع لتصميم سياسات أكثر استقلالًا، بعيدًا عن اشتراطات المؤسسات المالية التي تهيمن عليها واشنطن مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
أما من الناحية السياسية، فإن ضعف قبضة الولايات المتحدة على الأنظمة الحليفة أو التابعة قد يفتح المجال أمام شعوب تلك الدول لإعادة التفاوض حول علاقاتها الإقليمية والدولية، دون خوف من "الغضب الأمريكي". كذلك، فإن وجود قوى اقتصادية متعددة مثل الصين والهند والبرازيل قد يسهم في خلق نوع من التوازن، ما يحدّ من قدرة أي دولة على فرض رؤيتها الأحادية على بقية العالم.
وعلى الرغم من أن بعض القطاعات الأمريكية شهدت تحسنًا طفيفًا، مثل صناعة الصلب التي استفادت من تراجع الواردات، فإن الصورة العامة تشير إلى أن الأضرار كانت أوسع من الفوائد. فالاقتصاد الأمريكي لا يعيش في عزلة، بل يقوم على التداخل والتشابك مع باقي اقتصادات العالم. وتاريخيًا، السياسات الحمائية لم تُثبت فعاليتها على المدى الطويل، كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي حين أدى قانون "سموت-هاولي" إلى اندلاع حرب تجارية عالمية فاقمت الكساد الكبير.
تجربة ترامب في تطبيق القومية الاقتصادية تقدم مثالًا حيًا على المفارقة بين الشعارات السياسية وواقع الاقتصاد المعولم. فبينما قد تكسب هذه السياسات دعمًا شعبيًا في الداخل، خاصة في أوساط الطبقة العاملة، فإنها قد تؤدي إلى تراجع نفوذ الدولة على الساحة العالمية، وهو ما حدث بالفعل جزئيًا خلال سنوات حكمه. أما العالم، فربما يرى في هذا التراجع فرصة لإعادة تشكيل موازين القوى، وبناء نظام دولي أكثر توازنًا وتنوعًا، تكون فيه القرارات الكبرى نتاج تفاهمات جماعية، لا إملاءات من طرف واحد.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب