أمريكا والسيناريوهات المحتملة في الأزمة السورية
السياسية – خالد الحداء:
دخلت الأزمة السورية والمنطقة عموما منعطفا جديدا مع بدء سريان قانون “قيصر” الذي يُدشن من خلاله مرحلة جديدة من المساعي الأمريكية الحثيثة لفرض رؤيتها على مستقبل الحل للأزمة السورية، ولم يكن مستغربا أن تذهب أمريكا من خلال قانون “قيصر” إلى تشديد العقوبات على الخصوم بما فيهم الحكومة في دمشق وداعميها الروس وإلإيرانيين، ولكن ما يلفت الانتباه في هذا القانون هو ذلك الاندفاع الأمريكي “المقصود” في توسيع دائرة العقوبات لتشمل مختلف الجهات الدولية الراغبة في المشاركة في مشاريع إعادة اعمار سوريا مستقبلاً.
حيث يشير القانون إلى “فرض العقوبات على إي جهة دولية وأي شخص باع أو قدم خدمات أو تكنولوجيا أو معلومات أو دعماً مهماً أو أي دعم آخر يسهل بشكل كبير صيانة أو توسيع الإنتاج المحلي للحكومة السورية في مجال الغاز الطبيعي أو البترول أو المنتجات البترولية”، ومن الواضح أن النص السابق وغيره من النصوص في القانون الأمريكي تسعى إلى قطع الطريق أمام مختلف الكيانات الدولية “حكومات – شركات – منظمات”، وهي رسالة تهديد وردع مفادها أن الانخراط مستقبلاً في إعادة إعمار سوريا سوف يواجه بعقوبات غير مسبوقة، وتشير التقديرات الاقتصادية بحسب الأمم المتحدة، أن كلفة الحرب في سوريا بسبب الدمار الفيزيائي “البنى التحتية” والفرص الضائقة، تقدر بحوالي 400 مليار دولار أمريكي، وبأن فترة التعافي “الانتعاش” بحاجة لفترة زمنية قد تمتد إلى أكثر من 10 سنوات.
جدير بالذكر، أن إقرار قانون “قيصر” استغرق سنوات لكي يصبح نافذا بعد أن ظل محل نقاش في مجلسي النواب والشيوخ، وكان من الواضح أن إدارة الرئيس بارك اوباما لم تكن متحمسة للقانون بالنظر للوقائع على الارض ” خلال تلك المرحلة” والتي كانت تشير إلى فوضى عارمة تجتاح سوريا، لا سيما مع سيطرت الجماعات المتطرفة على مساحات واسعة في الشمال والشرق السوري ، ويُعتقد أن تأجيل الموافقة على قانون “قيصر” منذ 2014 كان مرتبط بمجموعة من الأسباب منها:-
– عدم تشكل رؤية واضحة ومحددة للأزمة السورية.
– التعامل الأمريكي منذ البدايات الأولى للأزمة في العام 2011 عانى من الإرباك والتخبط والتراخي.
– ساهمت الهواجس والدوافع الأمريكية “الغير محددة” في المضي نحو اتخاذ مجموعة من القرارات المتضاربة.
– أعتقد الأمريكيين خلال السنوات الأولى للأزمة امتلاكهم “منفردين” لمفاتيح الحل بعيدا عن مختلف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية.
ولكن، الأحداث المتسارعة دفعت الرئيس دونالد ترامب إلى التوقيع على نفاذ القانون، لا سيما أن المتغيرات على الجغرافيا السورية والوضع في المنطقة برمته لم يعد يخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية، والتي تضررت نتيجة التفوق الروسي الواضح بالإضافة الى نجاح النظام السوري في العودة مجددا وبقوة الى واجهة الاحداث.
وينظر للقانون على اعتباره محاولة أمريكية جديدة لخلط الأوراق مجددا للحيلولة دون إيجاد الحل للأزمة السورية بعيدا عن الاجندة الأمريكية، وبالتالي فإن فكرة العقوبات الاقتصادية من خلال “قانون قيصر” ربما تشكل حلاً أخيراً بعد ان استنفذت واشنطن أغلب الحلول الممكنة.
ويرى عديد المراقبين أن هناك علاقة ترابط ما بين إرهاصات تشكل نظام عالمي جديد ،التي بدأت فعلا في الظهور، وما بين ضبابية الحل للأزمة السورية خاصة في ظل مساعي كل طرف على فرض رؤيته للحل بعيدا عن بقية الأطراف، وبناء على هذه المعطيات هناك سيناريوهان أمام الأمريكيين الأول: صراع مفتوح واستنزاف بلا افق، الثاني: التوصل إلى تفاهمات مع الجانب الروسي، سوف يمهد الطريق إلى خروج سوريا والمنطقة من أتون صراع استمر ما يقارب العقد من الزمن.
السيناريو الأول/ الرهان على النفس الطويل
كما ذكرنا سابقا إن اشتداد الشكوك وحالة عدم اليقين بشأن مستقبل الأزمة السورية تعطي تصورا عن مدى فقدان السيطرة من قبل الولايات المتحدة، وانعكاسا لهذه الواقع لم يكن مستغرباً اندفاع واشنطن وبقوة في صلب الصراع من بوابة قانون “قيصر” في محاولة غير مضمونة النتائج، ويحتمل هذا السيناريو أن تستمر الولايات المتحدة في عرقلة أي محاولة روسية لإنهاء النزاع والاستفادة من المكاسب من دون الرضوخ للشروط الأميركية، وتراهن واشنطن من تطبيق قانون “قيصر” على عامل الوقت لا سيما أن هناك مشاكل اقتصادية روسية (ناتجة عن تراجع اسعار النفط بعد انخفاض الطلب العالمي بسبب جائحة كورونا)، قد تنعكس على مقدرة موسكو في تنفيذ مخططاتها بشأن إعادة إعمار سوريا.
ويفترض هذا السيناريو، أن تطبيق القانون الأمريكي سوف يضاعف الضغوط على طرف النظام وداعميه “الروسي والإيراني” بصورة غير مسبوقة ، وتراهن الولايات المتحدة على الدعم الأوروبي للعقوبات الاقتصادية، لا سيما مع تقارب وجهات نظر الطرفين على ضرورة تكثيف الضغوط للوصول إلى تسوية شاملة للأزمة.
وتسعى الولايات المتحدة حسب هذا التصور، إلى أن تترافق العقوبات الاقتصادية مع تكثيف الضغوط السياسية على الحكومة السورية من خلال قطع الطريق أمام أي تطبيع سياسي ودبلوماسي مع الدول الأوروبية والعربية، بالإضافة إلى العمل على توحيد صفوف المعارضة السورية للحيلولة دون تشتتها أو قبولها بالحلول التي تتعارض مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وفيما يخص الجانب العسكري سوف يكون التوجه نحو حرمان الحكومة السورية وحلفائها من السيطرة على أي مساحات جغرافية جديدة في الشمال والشرق السوري، من خلال تعزيز التواجد العسكري الأمريكي المباشر لتأمين السيطرة على حقول النفط والغاز، وضمان سيطرت الحلفاء في قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على مساحات كبيرة على الحدود مع العراق من جهة، وتعزيز المصالح المشتركة مع الجانب التركي في محاولة للحد من التعاون ما بين أنقرة وموسكو في الملف السوري من جهة أخرى.
وخلاصة هذا السيناريو، أن من الخطأ النظر للعقوبات الاقتصادية والمتمثلة بقانون “قيصر” على أنها تشكل امتداد لسلسلة العقوبات الأمريكية السابقة على الحكومة السورية ، ولكن الاعتقاد هو أن المصالح الأمريكية سوف تتضرر بشدة حال انفردت روسيا بالحل في سوريا، وبالتالي فأن تشديد العقوبات وفي اطارها الزمني الممتد لـ 5 سنوات سوف يقلب الطاولة في سوريا باتجاه الحلول المتوافقة مع الرؤية الأمريكية.
السيناريو الثاني / اتفاق مع الروس
يرى العديد من المحللين أن الولايات المتحدة لم تلجأ لفرض قانون “قيصر” سوى بعد أن أيقنت أنها في مأزق حقيقي ولم تعد قادرة على تحمل تبعاته والمتمثلة في انقلاب موازين القوى، خاصة وأن مسار الأحداث إلى ما قبل سريان قانون “قيصر” الأمريكي كانت تشير بوضوح بأن الأهداف الاستراتيجية من التدخل لم تحقق بالشكل المطلوب في سوريا والمنطقة عموما، وأن البدائل المتاحة أمريكيا لم تكن في وارد الانخراط والمغامرة في حرب عسكرية مفتوحة لأنها لن تكون مضمونة النتائج في صراع “مركب ومعقد” خرج عن السيطرة منذ سنوات.
ويفترض هذا السيناريو أن دخول قانون “قيصر” حيز التنفيذ سوف يُعيد تشكيل قواعد اللعبة في الملف السوري وبما يسهم في إعادة شيء من التوازن ما بين الأطراف المنخرطة في الصراع السوري، والرهان الأمريكي على هذا الاحتمال يرتكز على العديد من الاعتبارات:
– صعوبة تحويل روسيا انتصاراتها العسكرية إلى مكاسب سياسية واقتصادية تضمن من خلالها مصالحها في سوريا.
– صعوبة الانفراد بتفاصيل الحل السياسي حسب الرؤية الروسية.
– سيطرت القوات الأمريكية المباشرة على أهم حقول النفط والغاز في سوريا، بالإضافة إلى سيطرت الحلفاء الأتراك والأكراد على مساحات واسعة في الشمال والشرق السوري.
– الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يشهدها الاقتصاد الروسي بسبب تأثيرات فيروس كورونا وتراجع أسعار النفط والغاز.
– اخطاء الأمريكيين وحلفائهم ساهمت في تحقيق روسيا لتلك النجاحات بمعنى أنها لم تكن نتيجة لاستراتيجية روسية مسبقة.
– التفاهمات الروسية من كلاً من الأتراك أو الأكراد والقيام بدور الوسيط بينهما قد يكون تكتيك مرحلي ناجح، ولكنه من الصعب الركون عليه، لا سيما أن ” الأتراك والأكراد” يرتبطان بتحالفات استراتيجية مع واشنطن.
ويفترض هذا السيناريو أن العقوبات الأمريكية سوف تجبر موسكو على الدخول في تفاهمات مع مختلف الأطراف المنخرطة ف الأزمة وبرعاية أممية للخروج من المستنقع السوري، ومن أجل الحفاظ على ما يمكن من مصالحها الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية في سوريا.
وفيما يخص إعادة الاعمار تسعى الولايات المتحدة إلى غلق الباب أمام تحقيق أي مكاسب للروس، فكما ذكرنا سابقاً أن تكلفة الدمار الفيزيائي “البنى التحتية” والفرص الضائقة تقدر بحوالي 400 مليار دولار أمريكي، ولن يكون بمقدور الحكومة السورية دفع تلك التكاليف، وعلى ما يبدو أن الرهان الأمريكي يسعى إلى ربط أي استجابة لإعادة الإعمار بصفقة متكاملة مع الروس من أجل الانخراط في تسوية سياسية مقبولة من قبل جميع الفرقاء السوريون.
وهكذا يتبين أن كلا من السيناريوهان وارد الحدوث، ولكن بالمقابل لا ضمانات لتحقيق واشنطن مبتغاها من قانون “قيصر” كون العقوبات لا تحمل توافقا دولياً من جهة ولقدرة موسكو وطهران على الالتفاف على العقوبات المفروضة، ولا بد من التأكيد في ختام هذا الطرح أن تعقيدات الأزمة السورية كانت وراء الفشل الأمريكي في حسم الصراع لصالحها، وقد تكون ذات التعقيدات وراء الإرباك الحاصل في الحسابات الروسية ، وربما تكون هذه الحقائق هي المقدمة في دخول موسكو مع واشنطن في مفاوضات للوصول إلى تفاهمات تسمح بتحقيق تسوية شاملة للأزمة السورية.