عبدالله علي صبري

بات اللعب على المكشوف، فالمؤامرات والأطماع الخارجية في اليمن تتكشف يوما بعد آخر، ولغة الدبلوماسية التي تتصف بالكياسة والنعومة في العادة، غدت وقحة وفجة أكثر من أي وقت مضى، فيما يتعلق بالملف اليمني.

هذا ما ينطبق على التصريحات الأخيرة للسفير البريطاني في اليمن مايكل آرون، الذي حمل وعودا صريحة للحراكيين بالانفصال عن دولة الوحدة، فتلقفوه مبتهجين حتى زعم أحدهم أن الجنوب قد تحرر على عكس الشمال الـ ” مرتهن ” بنظره. وهكذا تنقلب المفاهيم، فالقوى الوطنية التي وقفت كالطود الشامخ تناهض العدوان وتصد عن اليمن آفة الغزو والاحتلال، أضحت في قفص الاتهام، أما الذين رهنوا قرار البلاد وفتحوا الأبواب للغزاة والمحتلين، وينتظرون إعلان دولتهم الموهومة ليسوا إلا أحرارا ومناضلين يتعين أن نرفع لهم القبعات احتراما..

وديعة آرون

تصاعد النشاط البريطاني في اليمن بلغ درجة الجنون حد وصف الأمريكي جون بالتون، وهو ما لا يخفيه السفير آرون الذي ظهر مؤخرا في حوار لموقع ” المشهد اليمني “، لا تنقصه الصراحة أو البجاحة، سيان.

زعم آرون أن مشروع انفصال جنوب اليمن سيكون ممكنا، لكن بعد فترة انتقالية تلي الحرب القائمة. ومع أنه لا يبدو أن ثمة نهاية مرتقبة قريبة للعدوان على اليمن، إلا أن البريطانيين قد حسموا أمرهم، فوحدة اليمن لم تعد ثابتا لديهم، خاصة وقد كشر ” الانتقالي الجنوبي ” عن مخالبه المصطنعة، فخلط الأوراق على ما يسمى بالحكومة الشرعية في كثير من المناطق والمحافظات الجنوبية تحت مسمى ” الإدارة الذاتية “، التي قد تصبح ” حكما ذاتيا “، بحسب مخطط فك الارتباط مع الشمال.

كشف السفير عن علاقة وثيقة تجمع الانتقالي الجنوبي بلندن، وعن تسهيلات سياسية وإعلامية تمنحها الأخيرة لعناصر الحراك الجنوبي الأكثر تطرفا، ما داموا ماضين في مشروع الانفصال، والارتماء في أحضان الخارج، وصولا إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني. ولأن مشروع انفصال الجنوب يخدم القوى الاستعمارية الجديدة والقديمة، فلا مانع لدى البريطاني من تقديم نصائح علنية للحراك الجنوبي، بحيث لا تغدو أي خطوة مستعجلة نحو الانفصال، بمثابة القفز في المجهول.

النصيحة التي يمكن اعتبارها إملاءً مفضوحا تتعاطى معه نخبة الحراك بأدب جم، تتمحور حول نقطتين رئيستين:
الأولى: أن توقيت الانفصال ليس مناسبا في اللحظة الراهنة، فخطوة كهذه يتعين أن تأتي وقد توقفت الحرب، وانخرطت القوى السياسية الفاعلة في إدارة مرحلة انتقالية جديدة.

الثانية: أن قوى الحرك الجنوبي لن يكون في مقدورها تنفيذ الانفصال بالقوة أو السياسة، إلا إذا كانت جزءا فاعلا فيما يسمى بالشرعية والحكومة المعترف بها دوليا.

دعم الانفصال من حيث المبدأ، أما التنفيذ فحين ميسرة.. هذا ملخص ما يمكن أن نسميه بـ ” وديعة آرون “، فإذا ساير الحراك الجنوبي الشرعية، وتعامل بواقعية مع خطوة الانفصال التي يجب أن تنتظر الوقت المناسب، فإن بريطانيا لن تتأخر عن دعم “أصدقائها” في الانتقالي الجنوبي والاعتراف بشرعية دولة الجنوب مستقبلا.

الوحدة ليست قرآنا

وردا على سؤال الموقع الإليكتروني اليمني، بشأن المرجعيات الثلاث لعملية السلام في اليمن، جاء رد السفير البريطاني مفاجئا، إذ قال :” المرجعيات الثلاث ليست قرآنا”، وهذه المرونة التي افتقدناها في مناسبات سابقة باتت متوفرة اليوم، ليس من أجل الدفع بالسلام أو الاستقرار في اليمن، بل لأن المرجعيات الثلاث تتحدث عن اليمن كدولة واحدة موحدة ومستقرة، ولا مانع من القفز عليها في سبيل إنفاذ الانفصال..!

علما أن المرجعيات الثلاث محل نظر في الأصل، فالمبادرة الخليجية انتهت عمليا، وما عاد يصلح منها كمرجعية سوى مبدأ التوافق في إدارة شئون البلاد، والقرار 2216 الصادر عن مجلس الأمن عام 2015م، جاء ليشرعن للحصار، بذريعة الحؤول دون وصول الأسلحة لطرف صنعاء، أما العمليات العسكرية لتحالف العدوان السعودي الأمريكي، فلا تستند لأي مرجعية من المرجعيات الثلاث، ولولا اختلال التوازن الدولي لصالح السعودية، لما أمكن لهذه الحرب أن تدوم شهرا واحدا، وهذا أكبر ما كان يطمح إليه النظام السعودي حين باشر عمليات ما يسمى بـ ” عاصفة الحزم “.

وبالنسبة لمخرجات الحوار الوطني- وهي المرجعية المتوافق عليها- فإن أكبر ما تضمنته بشأن القضية الجنوبية ينحصر في التوافق على مبدأ ” الدولة الاتحادية “، أما أقاليم هذه الدولة فلا زالت محل خلاف القوى السياسية منذ مؤتمر الحوار، وإلى حين الانتهاء من أعمال لجنة صياغة الدستور، وقبلها لجنة تحديد الأقاليم.

مخطط صهيوأمريكي

هكذا يتبين أن الحديث عن “يمن موحد ومستقر” في البيانات والخطابات الدبلوماسية الغربية يأتي من باب ذر الرماد في العيون، وإلا فالمخطط الصهيوأمريكي لا يمكن أن يستثني اليمن. وإذ تسعى وأمريكا وإسرائيل إلى تفكيك وتفتيت دول المنطقة وتفجيرها من الداخل، فقد اتجهت الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية بالاعتماد على وسائل دبلوماسية وناعمة، إلى محاولة تقسيم وتجزئة اليمن تحت يافطة الفيدرالية، وسعى المخرج إلى فرض فكرة الأقاليم الستة ولم يسمح بأي نقاش موضوعي أو علمي بشأنها حتى اليوم.

مجريات العمليات العسكرية للعدوان سعت في كثير من الأوقات إلى تبني قواعد اشتباك تؤدي إلى فرض الأقاليم بالقوة العسكرية، إلا أن عملية البنيان المرصوص للجيش واللجان الشعبية في مطلع العام الجاري، قطعت الطريق على ما يسمى بـ ” إقليم سبأ”، الذي تمركزت فيه قوات ما يسمى بالشرعية ومليشيا الإصلاح، وراهنت على استمرار السيطرة عليه طوال السنوات الأولى للحرب.

إلا أن المحافظات الجنوبية حتى اللحظة لا تزال في وضع يسمح بتمرير مخطط التقسيم أو الانفصال، فالأصوات المعتدلة في الجنوب لا تقبل بأقل من إقليمين في إطار دولة اتحادية، وهو ما يعني منح الجنوب نوعا من الحكم الذاتي، في سيناريو قد يكون أسوأ من الانفصال نفسه.

هذه الوضعية أوحت للعدوان ولقوى الهيمنة في العالم، ومن بينها بريطانيا أن قواعد الاشتباك لا يمكنها ولا يجب أن تتعدى الخطوط الفاصلة بين الشمال والجنوب. وحين يهدد المبعوث الأممي ويقول أن تحرير محافظة مارب غير مقبول، فإنما يقصد أن قواعد الاشتباك لا يجب أن تتعدى مارب، وهذا ما فهمته القيادية السياسية في صنعاء فردت على نحو مباشر وعلى لسان الرئيس مهدي المشاط ، الذي قال في تصريح الأسبوع الماضي: “لقد أخذنا على أنفسنا عهداً والتزاماً مبدئيا وأخلاقياً ودينياً أمام شعبنا بأن نحرر كافة الأراضي المحتلة في بلدنا، وسنثبت على هذا العهد إن شاء الله، وسنأخذ على عاتقنا تحرير كل شبر من هذا الوطن”.

الجنوب والدولة الوهم

لكن بمعزل عن إرادة صنعاء، تتوهم نخبة الحراك الجنوبي أن مشروعها المتمثل في الانفصال وإعلان دولة رخوة في الجنوب، لن يمر إلا عبر المزيد من الولاء والانبطاح للغزاة المحتلين والقوى الكبرى، بل وبالتطبيع مع الكيان الصهيوني. وقد كشفت وسائل إعلام إسرائيلية مؤخرا عن “أصدقاء إسرائيل الجدد” في اليمن. وقالت صحيفة ” إسرائيل اليوم ” إن دولة جديدة أُعلنت قبل بضع أسابيع خلف أبواب مغلقة في الشرق الأوسط، في إشارة إلى المجلس الانتقالي الذي أعلن عن إدارة ذاتية في عدن وعدد من المحافظات الجنوبية بقيادة عيدروس الزبيدي، وأردفت الصحيفة، أن المجلس الانتقالي لديه موقف إيجابي تجاه إسرائيل.

وكان هاني بن بريك القيادي في الانتقالي الجنوبي قد قال في تصريح مثير للجدل أن المجلس لا يكن العداء لأي دولة أو ديانة أو شخص في العالم، داعيا الفلسطينيين للعيش بسلام إلى جانب الإسرائيليين، فيما قال الخضر السليماني، مدير مكتب العلاقات الخارجية للمجلس الانتقالي، إن المجلس جزء لا يتجزأ من المنظومة العربية، وأبدى استعداد المجلس لإقامة علاقة مع “إسرائيل” إذا لم يتعارض ذلك مع مصالحه الوطنية، حسب تعبيره.!!

لكن ما سر هذا التهالك على استعادة ما كان يعرف بالدولة اليمنية الجنوبية ؟ وفي هذا التوقيت بالذات ؟
لا شك عندي ان للأمر علاقة بمفاعيل ثورة 21 سبتمبر 2014م، وهيمنة أنصار الله على المشهد السياسي اليمني، وإعلانهم الصريح العزم على تحرير القرار اليمني من الوصاية الخارجية، وتموضع صنعاء في محور المقاومة والمجابهة مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي استثار واشنطن وتل أبيب والعواصم الحليفة والتابعة لهما.

وإذ تدرك إسرائيل خطورة استقرار الدولة اليمنية تحت سلطة أنصار الله مع الهيمنة على باب المندب، فإنها تسعى حثيثا لتمكين الحراكيين في الجنوب من الانفصال وإعلان دولة مستقلة عن الشمال، لأنها تعي تماما أن الدولة المرتقبة لن تتوافر لها عوامل القوة والاستقلال، ما يجعلها تندرج تحت مفهوم الدولة الوظيفية، على غرار الدولة في جنوب السودان، وعلى غرار ما فعلته بريطانيا مع إمارات الخليج العربي، التي جرى اصطناع معظمها وتحويلها إلى دول ترعى مصالح الغرب في النفط وفي تأمين إسرائيل.

الأخطر من ذلك، أن وهم وحدة الجنوب كهوية يراهن عليها الحراك، لن تبقى كذلك، فالمشروع الصهيوأمريكي مع المخطط البريطاني يقضي بتفجير الهويات الصغرى ، وهذا ما نراه في اعتصام وحراك المهرة، الذي يرفض حتى الآن الانضمام إلى المجلس الانتقالي الجنوبي، و ما حدث مؤخرا من تظاهرات كبرى في المكلا وإن كانت في إطار دعم ” الانتقالي الجنوبي ” إلا أنها تنطوي على مطلب صريح فحواه، تمثيل حضرموت في الحكومة المرتقبة المزمع تشكيلها وفقا لاتفاق الرياض، الأمر الذي استجابت له الرياض حين دعت مؤخرا عددا من أعيان حضرموت للتشاور معهم بشأن المشاركة في السلطة، في إذكاء ممنهج للمناطقية، وتهيئة الجنوب نفسه للمزيد من التجزئة والتشرذم.

* المصدر : المسيرة