الرياض في خضم أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها؟
بقلم: كمال كاجة*
السياسية:
ترجمة: أسماء بجاش-سبأ
يضع الباحث كمال كاجة هذه الأزمة الناجمة عن حرب أسعار النفط التي بدأها ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان في منظورها الصحيح, قبل تحليل تأثيرها على العلاقات الثنائية الأمريكية -السعودية من جهة, وعلى الاقتصاد السعودي الذي يعاني بشدة جراء جائحة وباء “كوفيد-19″من جهة أخرى, حيث تأتي هذه الأزمة على الخلفية السلطوية التي لا تزال تزداد قوتها بصورة مستمرة.
في منتصف مايو المنصرم، أعلن وزير المالية السعودي محمد الجدعان عن سلسلة من الإجراءات, التي تعتبر جزء من سياسة التقشف التي يريد النظام السعودي تنفيذها, حيث يكمن الهدف من هذه السياسة في كيفية التعامل مع الأزمة الاقتصادية الكبرى الحاصلة في المملكة العربية السعودية.
وفي حديثه إلى وسائل الإعلام، قال الوزير السعودي أن الرياض لم تواجه أزمة بهذا الحجم منذ عقود, كما أشار أيضاً إلى أن هذه الإجراءات الجذرية يتم السعي من خلالها إلى حماية الاستقرار الاقتصادي والنقدي للمملكة على المدى المتوسط والمدى الطويل على حد سوأ.
والواقع أن المملكة التي تواجه أيضاً أزمة جائحة “كوفيد-19″، تشهد تباطؤاً حاداً في القطاع الاقتصادي، كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى في المنطقة, حيث أن الاقتصاد القائم على النفط الذي كان انخفاض أسعاره بسبب التباطؤ الحاد في النشاط قد أصاب الاقتصاد السعودي بشدة, حيث كانت الأزمة في السعودية بمثابة صدمة كبيرة للقادة السعوديين، وخاصة الأمير محمد بن سلمان الذي من المرجح أن يشهد التشكيك في مشروعه الشهير والمعروف باسم “رؤية 2030”, فهذا المشروع نشره الأمير بن سلمان من خلال وسائل اتصال هائلة, من أجل الإعلان عنه خاصة مع حلفائه الغربيين.
ولذلك، ينبغي دراسة أصل هذه الأزمة الناجمة عن حرب أسعار النفط التي أطلقها بن سلمان, هذا أولاً, وثانياً, تحليل تأثيرها على العلاقات الأمريكية السعودية, وثالثاً مدى تأثيرها على الاقتصاد السعودي, أما رابعاً, تأتي الأزمة على خلفية السلطوية التي لا تزال تقوى.
1- حرب أسعار النفط لمحمد بن سلمان:
في سبتمبر من العام 2016، توصلت السعودية وروسيا إلى اتفاق نفطي, حيث تم من خلال هذه الاتفاقية المعروفة باسم الاوبك+, اتفق زعيما البلدين على التخطيط المشترك لإنتاجهما من الذهب الأسود, وبموجب هذه الاتفاقية, اتفقت دول الاوبك وروسيا على خفض الإنتاج بمقدار 2.1 مليون برميل يوميا.
تخفيض فرضت الرياض حجمه الكبير, إذ وجاء الاتفاق هذا بعد عامين من شنها حرب أسعار في العام 2014, والتي سعت من خلالها إجبار الولايات المتحدة الأمريكية التي يتزايد إنتاجها من الغاز الصخري في الارتفاع، على الالتزام بالسياسة المشتركة لمنتجي النفط, وبالتالي, كانت خسارة للمملكة التي فشلت في إجبار المنتجين الأميركيين على خفض إنتاجهم، مما أجبرها في نهاية المطاف على إنهاء الحرب بعد انخفاض الأسعار.
ومع اقتراب اتفاق العام 2016 من نهايته، فشلت المفاوضات بين الرياض وموسكو للتوصل إلى اتفاق نفطي جديد.
ومن خلال هذه الاتفاقية، أرادت الرياض العمل على إجراء تخفيض كبير في معدل إنتاج النفط من أجل إبقاء أسعار النفط عند المستوى الذي يكون مقبول لديها.
وبعد أن اعتاد الأمير محمد بن سلمان على الانقلابات المذهلة منذ صعوده إلى السلطة، قرر في 8 من مارس المنصرم, إنهاء الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين البلدين في العام 2016, حيث بدأ الأمير الشاب حرباً حقيقية لأسعار النفط, وذلك من خلال إغراق السوق العالمية بالنفط السعودي، من خلال زيادة الإنتاج السعودي إلى مستوى غير مسبوق بلغ 12 مليون برميل يومياً.
كما قرر الأمير محمد بن سلمان أيضا خفض أسعار النفط السعودي من أجل منافسة إنتاج النفط الروسي, وفي هذا التجاذب، أراد بن سلمان معاقبة روسيا لرفضها التوصل إلى اتفاق بشأن خفض إنتاجها، مع السعي للدفاع عن حصة المملكة في السوق, والهدف يكمن في سعي محمد بن سلمان إلى إجبار روسيا على العودة إلى طاولة المفاوضات.
وبيد أن هذه الاستراتيجية قد تعثرت جراء الرفض الروسي, حيث قال فلاديمير بوتين إنه لا ينوي التحدث مع القادة السعوديين, وأن روسيا يمكن أن تتحمل أسعار النفط أقل من 30 دولاراً لمدة عشر سنوات.
ومن خلال رفض موسكو الاتفاق على خفض حصتها الإنتاجية من الذهب الاسود، حيث أرادت الحفاظ على حصتها في السوق, أضف إلى ذلك, فقد أرادت موسكو أيضاً تقويض إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية من الغاز الصخري الذي يحتاج إلى سياق يتسم بارتفاع أسعار النفط, وفي نفس الوقت إجبار الولايات المتحدة على خفض إنتاجها النفطي.
رأى بعض المحللين أن معارضة روسيا لاتفاق نفطي جديد, هو انتقام من العقوبات التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على شركة النفط الروسية العملاقة “روسنفت” ومشروع البناء المقترح لخط أنابيب “نورد ستريم 2” لتزويد القارة الأوروبية بالغاز الروسي.
وفي حين تتوقع السعودية سعراً لبرميل النفط يبلغ 80 دولاراً لإغلاق ميزانيتها، تراهن روسيا على سعر نفطي يبلغ نحو 40 دولاراً.
أصبح الاقتصاد الروسي، الذي أعيد هيكلته بصورة جزئيه في العام 2015, قادراً على التعامل مع العقوبات الغربية بعد ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014, وأكثر تنوعاً من الاقتصاد السعودي، على الرغم من أنه لا يزال أكثر ريعاً.
وهكذا أدت إعادة الهيكلة الجزئية للاقتصاد وتنويعه إلى تخفيض حصة النفط في الميزانية الروسية, وفي السنوات الأخيرة تمكنت موسكو من الحصول على احتياطي مالي من العملات الأجنبية, والذي لا يأتي حصرا من عائدات النفط, كما تمكنت أيضاً من إنشاء صندوق ثروة سيادية بقيمة 100 مليار دولار.
يأتي قرار مير محمد بن سلمان ببدء حرب الأسعار هذه, على خلفية انتشار وباء “كوفيد-19″، الذي أبطأ العالم.
وقد أدى هذا الوباء أيضا إلى انخفاض الطلب العام, بسبب انخفاض النشاط الاقتصادي العالمي، ولاسيما نشاط جمهورية الصين التي تستهلك قرابة 14 % من إجمالي إنتاج النفط في العالم.
تفاقم الوضع أكثر فأكثر بعد أن توقف النقل الجوي وهو مستهلك رئيسي للذهب الأسود, كما كان لمقامرة محمد بن سلمان لثني روسيا إلى جانب انخفاض الطلب العالمي في أعقاب الأزمة الصحية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا، تأثير مدمر على أسعار النفط, في حين فتح الأخير عند أخر أدنى مستوى له.
وفي أعقاب تدخل الرئيس دونالد ترامب، توصلت أوبك وروسيا ودول منتجة أخرى إلى اتفاق في 12 أبريل 2020 لخفض الإنتاج بمقدار 9.7 مليون برميل اعتباراً من مطلع مايو 2020، أي ما يعادل حوالي 10% من العرض العالمي.
ومع ذلك، لم يكن هذا الاتفاق كافياً لوقف انخفاض أسعار النفط التي وصلت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق.
ففي 20 أبريل 2020، انخفضت أسعار النفط الخام في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 37.63 دولار للتسليم في مايو للمرة الأولى في تاريخها, حيث لم تبلغ هذا المستوى قط عندما لم تعد مرافق التخزين قادرة على مواجهة فائض العرض.
2-التوترات في العلاقات الأمريكية السعودية:
وفي حين أن الولايات المتحدة كانت دائماً على علم بالاستراتيجية النفطية لحليفتها السعودية، قد يتساءل البعض, عما إذا كان قرار محمد بن سلمان بإغراق سوق النفط – الذي تسبب في انخفاض الأسعار إلى مستوى تاريخي – لم يحظ بتأييد ترامب قبل أن يتراجع الأخير؟
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الانخفاض الذي طال أسعار النفط كان موضع ترحيب في البداية من قبل الرئيس الأمريكي ترامب، الذي لم يتوقف منذ انتخابه عن انتقاد منظمة الأوبك وغيرها من المنتجين, حيث لطالما دعاها إلى خفض الأسعار, كما عرض الرئيس الأمريكي خفض الأسعار على أنه فرصة للولايات المتحدة لملء احتياطياتها الفيدرالية بالنفط الرخيص، الأمر الذي سيفيد دافع الضرائب الأمريكية, وقال: “سوف نملأها إلى حافة الطريق، مما يوفر على دافع الضرائب الأمريكي مليارات ومليارات الدولارات”.
ومع ذلك، عندما اقترب سعر البرميل من 20 دولاراً في نهاية مارس 2020، هدد منتجي الغاز الصخري في الولايات المتحدة، الرئيس ترامب من التراجع, حيث خاطر هؤلاء المنتجون المثقلون بالديون بجر ملايين الوظائف إلى حد الإفلاس وتهديد السجل الاقتصادي للرئيس ترامب، الذي تعرض بالفعل لانتقادات شديدة بسبب تعامله مع جائحة وباء “كوفيد-19” قبل بضعة أشهر من الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2020.
وقد أثار الانخفاض الحاد في أسعار النفط وعدم قدرة الأسواق على الاستقرار غضب الرئيس ترامب, بل إنه باعتباره المدافع القوي عن الأمير محمد بن سلمان، ذهب إلى حد تهديد الرياض بفرض رسوم جمركية مرتفعة جداً على صادراتها النفطية إلى الولايات المتحدة.
كما قدم العديد من أعضاء مجلس الشيوخ تشريعاً، يدعون فيه إلى انسحاب السعودية من أنظمة صواريخ الباتريوت الأمريكية المضادة للصواريخ، للتعبير عن غضبهم من حرب الأسعار التي أججها ولي العهد السعودي.
وخلال مكالمة هاتفية مع الأمير محمد بن سلمان في 2 أبريل، أفادت التقارير أن الرئيس ترامب، كان غاضب, حيث أشطط غضباً على الأمير بن سلمان وهدده بعدم معارضة مبادرة أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي إذا لم تعمل الرياض على تخفض إنتاجها النفطي لوقف انخفاض الأسعار.
في 7 من نفس الشهر، نفذت الولايات المتحدة تهديدها بإزالة بطاريتين مضادتين للصواريخ من طراز باتريوت ونظامين آخرين للدفاع الجوي تم نشرهما في سبتمبر 2019 في المملكة العربية السعودية, حيث تقرر نشر هذه الأنظمة في أعقاب غارة جوية شنها الحوثيين من اليمن الجار الجنوبي للمملكة مستخدم طائرة بدون طيار, وذلك في منتصف سبتمبر من العام المنصرم على منشئتي بقيق وخريص اللتان تعتبران قلب المجمع النفطي السعودي, كما سحبت الولايات المتحدة سربين من الطائرات المقاتلة و300 من أفراد الجيش الأمريكي.
جاءت هذه المعلومات، التي كشفت عنها صحيفة “وول ستريت جورنال”، بمثابة صدمة لصناع القرار السعودي, حيث سلطت الضوء على التوترات الحاصلة في العلاقات الأمريكية السعودية بسبب حرب الأسعار التي قادها محمد بن سلمان, ومن جانبها, بررت الولايات المتحدة الانسحاب بالحد من خطر الهجمات الإيرانية على المصالح الأمريكية.
3 – تأثير هذه الحرب على الاقتصاد السعودي:
أضر قرار الأمير محمد بن سلمان شن حرب أسعار النفط هذه باقتصاد المملكة بشدة، الذي كان يواجه، مثل دول أخرى في جميع أنحاء العالم، جائحة وباء “كوفيد-19”, حيث كان لهذا الانهيار الكبير في الطلب العالمي، بسبب فيروس كورونا، إلى جانب حرب الأسعار التي أطلقها الأمير بن سلمان، تأثير خطير على الاقتصاد السعودي.
يعاني الاقتصاد بالفعل من الاستراتيجيات السيئة التي ينتهجها محمد بن سلمان الذي يعتمد على حوالي 90٪ من إردات المملكة على النفط, حيث كانت شركة النفط السعودية العملاقة أرامكو قد أعلنت في وقت سابق بالفعل عن انخفاض حاد في معدل أرباحها بنسبة وصلت إلى 25% خلال الربع الأول من العام 202, والتي بلغت 16.6 مليار دولار مقارنة مع انخفاض العام 2019 والذي بلغ 22.2 مليار دولار.
ومن جانبه, عزا الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو أمين ناصر الخسائر إلى تراجع الطلب العالمي الناجم عن وباء “كوفيد-19”.
كان رهان محمد بن سلمان على خصخصة 2% من أرامكو لجمع ما بين 22 و23 مليار دولار فاشلاً بسبب تراجع أسهم الشركة السعودية العملاقة, وبالتالي اضطر بن سلمان، الذي قدر قيمة أرامكو بـ 2 تريليون دولار، إلى خفض رقمه إلى 1.7 تريليون دولار.
ويرجع هذا الفشل إلى عدم ثقة المستثمرين الأجانب في السوق الاستثمارية السعودية وعدم حماسهم لها، جراء حالة عدم استقرار التي تعصف بالمنطقة في أعقاب هجمات الطائرات بدون طيار على مجمعات أرامكو في بقيق وخريص, حيث أدت الهجمات التي أعلن الحوثيون مسؤوليتهم عنها إلى خفض إنتاج المملكة من النفط إلى النصف.
كما لم يعد المستثمرون يؤمنون برغبة محمد بن سلمان في الإصلاح, بعد حادثة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في مدينة اسطنبول التركيه, مطلع أكتوبر من العام 2018, حيث أدى هذا الجرم إلى تشويه بشكل دائم صورة محمد بن سلمان كأمير إصلاحي.
كما تسببت الأزمة الصحية الناجمة عن الفيروسات التاجية والتي تسببت حتى الآن في تلوث أكثر من 120 ألف شخص ووفاة أكثر من 900 شخص، في تباطؤ ملحوظ في الاقتصاد السعودي, كما أن إغلاق الأماكن المقدسة (مكة والمدينة)، بعد انتشار الفيروس التاجي، حرم المملكة من عائدات كبيرة من الحج الأصغر (العمرة).
ومن المرجح أن يحرمها هذا الإغلاق أيضاً من العائدات الهائلة التي تجنيها من الحج السنوي الأكبر (الحج)، الذي سوف يصادف أوخر يوليو وأوائل غسطس 2020، حيث تستقبل المملكة خلاله نحو خمسة ملايين حاج من جميع أنحاء العالم.
وقد أكد صندوق النقد الدولي تباطؤ الاقتصاد السعودي، الذي توقع انكماشاً في الناتج المحلي الإجمالي السعودي بنسبة 2.3% وانخفاضاً بنسبة 4% في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي في أبريل 2020.
ومن جانبها, أعلنت الرياض بالفعل عن عجز في الميزانية العامة للمملكة, حيث بلغ العجز قرابة 9 مليارات دولار خلال الربع الأول من هذا العام، وهو رقم من المرجح أن يزداد في الاتساع.
ولتعويض هذا العجز الذي ينمو بشكلٍ ملحوظ منذ العام 2014، قررت الحكومة السعودية اعتماد مجموعة من التدابير, ومن بينها، قررت المملكة التي يستمر دينها الخارجي في الارتفاع، اقتراض 58 مليار دولار من الأسواق الدولية.
يتزامن ذلك مع انهيار احتياطي المملكة من النقد الأجنبي، بسبب سياسات محمد بن سلمان, حيث يبلغ احتياطي المملكة حوالي 464 مليار دولار، وهو ما يبعد كثيراً عن 737 مليار دولار, الذي كان لديها في العام 2014.
وفي مواجهة هذا الوضع، أعلن وزير الاقتصاد السعودي، محمد الجدعان، في 11 مايو المنصرم, عن خطة تقشف سوف تنتهجها المملكة بصورة غير مسبوقة لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد السعودي, حيث تشمل هذه الخطة مضاعفة معدل ضريبة القيمة المضافة بصورة ثلاثية أي من 5 إلى 15%, ابتدأ من يوليو 2020.
ومن المؤكد أن زيادة معدل ضريبة القيمة المضافة الثلاثية سوف يتسبب في ارتفاع الأسعار والذي سوف يؤثر في المقابل على القوة الشرائية للشعب السعودي, كما تشمل الخطة أيضا إلغاء البدل المخصص للموظفين العموميين اعتبارا من يونيو 2020 لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة, وهذا البدل يبلغ نحو 267 دولارا للفرد، وهي متاحة لنحو 1.5 مليون موظف حكومي, وأخيراً، تدعو الخطة إلى خفض الإنفاق العام، المخصص لعدة قطاعات عامة وبعض المشاريع في إطار “رؤية 2030″، التي تم تخفيضها الآن بمقدار 8 مليارات دولار, حيث تهدف المملكة إلى توفير 26 مليار دولار لمعالجة العجز في الميزانية.
وفي حين اختارت معظم الدول تقديم المساعدات إلى الشعب من أجل دعم قوتها الشرائية وبالتالي تجنب انهيار الاستهلاك، فقد اختارت الحكومة السعودية سياسة تقشف شديدة سيكون لها تأثير اجتماعي كبير وسيكون للتباطؤ الاقتصادي إلى جانب سياسة التقشف، تأثير خطير على سوق العمل في السعودية, البلد الذي ترتفع فيه معدلات البطالة, حيث يشكل فيه أكثر من نصف السكان من فئة الشباب.
إن الأزمة الاقتصادية الجاثمة على المملكة تهدد خطة محمد بن سلمان “رؤية 2030″، بما في ذلك خطته لبناء مدينة نيوم المطلة على البحر الأحمر، وهي مدينة مستقبلية سوف يكلف بنأها أكثر من 500 مليار دولار, فهذه الخطة هي في صميم استراتيجية الفوز بالسلطة لمحمد بن سلمان والتي نشر لها ولي العهد وسائل اتصال هائلة من أجل الدعاية له إلى حلفائه الغربيين.
ومن المرجح أيضاً أن تؤدي الحرب في اليمن إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في المملكة, نظراً لكون الحرب التي يشنها محمد بن سلمان في اليمن منذ أواخر مارس من العام 2015 والتي تقدر تكلفتها بالنسبة للمملكة بخمسة مليارات دولار شهرياً, فهذا المبلغ يشكل هاوية مالية للمملكة.
وعلى الرغم من هذا الوضع، يرفض الأمير محمد بن سلمان وضع حد لهذا الصراع الذي خلق حالة من الفوضى وأسوأ أزمة إنسانية على حد وصف الامم المتحدة, حيث تم شن هذه الحرب دون هدف حقيقي يذكر، ومن المرجح أن تكلف المملكة ثمنا باهظا, حيث أن عجز الجيش السعودي عن تحقيق نصر حاسم على الحوثيين الذين لا يترددون الآن في ضرب أهداف استراتيجية في عمق المملكة، يشكل تحدياً أمنياً كبيراً لصناع القرار السعودي.
وعلى الرغم من المبالغ الضخمة التي ابتلعت عقود شراء الأسلحة دون فعالية حقيقية على الأرض، لم يعد صناع القرار في الرياض قادرين حتى على تأمين أراضيهم من التهديدات القادمة من اليمن، التي تتقاسم مع المملكة الحدود, حيث تقدر المسافة بينهما 1800 كيلومتر.
4- الأزمة على خلفية سلطوية:
تأتي الأزمة الاقتصادية في المملكة وسط تعزيز الأمير محمد بن سلمان قبضة على السلطة وتشديد القمع ضد معارضيه, فهذه الحملة القمعية تؤثر اليوم على العائلة المالكة السعودية التي لم تعد محصنة ضد قبضة الحديدية للأمير الشاب.
ففي 9 مارس 2020، أمر الأمير محمد بن سلمان باعتقال ثلاثة من كبار الأمراء السعوديين في عمل مفاجئ ووحشي, وهم الأمير أحمد بن عبد العزيز (عم الأمير محمد بن سلمان)، وولي العهد السابق وابن عم الأمير محمد, الأمير محمد بن نايف، وشقيقه الأمير نواف، حيث تم توجيه التهم لهم بـ “التحريض على انقلاب بهدف الإطاحة بالملك وولي العهد”.
ويواجه هؤلاء الأمراء الثلاثة الذين ينتمون إلى عشيرة السدرية القوية التي ينتمي إليها الملك سلمان وولي عهده والذين يُحتمل أن يتنافسوا على العرش السعودي، عقوبة السجن مدى الحياة أو قد تصل إلى حد عقوبة الإعدام, ومن المعروف أن الأمير أحمد لطالما انتقد سياسات ولي العهد الجديد، لاسيما فيما يتعلق بالحرب في اليمن.
بعد فترة وجيزة من مكوثه في إنجلترا، عاد الأمير أحمد إلى المملكة في سياق تميز بتفكك قضية خاشقجي, حيث فسرت عودته إلى المملكة السعودية على أنها استعداد للأمير لإظهار دعمه للنظام الملكي الذي كان يواجه ضغوطاً رهيبة بسبب اغتيال الصحفي السعودي المعارض في تركيا.
ومن جانبه، كان ولي العهد السابق، الأمير محمد بن نايف، قيد الإقامة الجبرية منذ “عملية التطهير” التي قام بها محمد بن سلمان في نوفمبر من العام 2017.
فمن خلال القبض على هؤلاء الأمراء الثلاثة، كسر محمد بن سلمان بشكل لا يمكن إصلاحه الإجماع التاريخي لتوازن القوى التقليدية التي لطالما ميز الملكية السعودية منذ نشأتها في العام 1932, بينما كان يسعى لإزالة العوائق الأخيرة قبل مسيرته نحو كرسي العرش، كما أراد أيضاً أن يحذر العائلة المالكة من أنه لن يتسامح مع أي انتقاد أو معارضة لسياسته وأنه لن يتردد في استخدام القوة المفرطة ضد أي مجرم، حيث أن وضع الأميرة بسمة بنت سعود بن عبد العزيز, خير مثال على ذلك, إذ لطالما انتقدت الأميرة علناً سجل المملكة في مجال حقوق المرأة، وفي فبراير من العام 2019, تم اعتقال الأميرة مع إحدى بناتها بناءاً على أوامر من ولي العهد, وفي 17 أبريل 2020.
نشرت الأميرة بسمة تغريده لها ناشدت فيها الملك سلمان ولي عهد إطلاق سراحها بسبب تدهور صحتها في السجن, قائلة إنها لم تتلق الرعاية الطبية المطلوبة.
إن تعطشه للسلطة، منذ اعتلاء والده لعرش المملكة وصعوده السياسي النيزكي، دفعه إلى الرغبة الدائمة في تعزيز موقعه، حيث سعى إلى وضع بين يديه كل مقاليد السلطة, والهدف النهائي له يكمن في أن يكون قلب القوة الوحيد النابض.
ولتحقيق هذا الهدف، شن بن سلمان حملته الشرسة ضد أي معارضة لسلطته وطموحاته، بغض النظر عن ماهيتها، بينما كان يسعى كذلك إلى الظهور بمظهر الأمير الإصلاحي في نظر حلفائه الغربيين.
بل إن قبضته على السلطة امتدت إلى موقع التواصل الاجتماعي, التي تمارس عليها رقابة صارمة، من خلال عدم قبول أي انتقاد.
وهذا ما يفسر حملة الاعتقالات التي يقوم بها الأمير محمد بشكلٍ منتظام ضد معارضيه الذين ينتمون إلى الطيف السياسي السعودي برمته, حيث طالت حملة اعتقالات التي بدءها منذ العام 2017، العديد من الشخصيات البارزة في حركة الصحوة الإسلامية، مثل الشيخين عائض القرني و سلمان العودة الذي لا يزال في السجن.
كما امتدت حملة محمد بن سلمان إلى شخصيات في الحركة الليبرالية السعودية، فضلاً عن نشطاء حقوق الإنسان وحقوق المرأة، مثل الناشطات إسراء الغغم، ولجين الهذلول وسمر البدوي, شقيقة المدون السعودي رائف البدوي، القابع في السجون السعودية منذ العام 2012.
إن اعتقال هؤلاء النشطاء الذين يتم احتجازهم في ظروف صعبة للغاية، توضح الطريقة الوحشية التي يتصور بها الأمير محمد بن سلمان السلطة ويمارسها, فهذه الوحشية تسببت في وفاة الأكاديمي والناشط السعودي الكبير في مجال حقوق الإنسان عبد الله الحامد في 24 أبريل من هذا العام, حيث توفي هذا الأخير، الذي ظل مسجوناً منذ العام 2012، في السجن نتيجة لتدهور صحته, حيث أكد الخبر حساب “معتقلي الرأي” على منصة التواصل الاجتماعي “تويتر” الذي يدافع عن حقوق المعتقلين في المملكة، وفاة الناشط عبد الله الحامد في أحد سجون المملكة, واتهمت الرواية النظام السعودي بالإهمال الطبي المتعمد، زاعمة أن إدارة السجن تركت الحامد في غيبوبة لعدة ساعات قبل نقله إلى المستشفى، وهكذا ارتقت روحه إلى السماء.
كما يواجه محمد بن سلمان احتجاجاً قبلياً واسعاً, ولكن هذه المرة، تم أثارته من قبل مشروع نيوم الرائد, حيث أثارت عملية بناء هذه المدينة المستقبلية في محافظة تبوك الشمالية الغربية والمطلة على البحر الأحمر موجة من الاحتجاجات في أعقاب قرار الحكومة السعودية تشريد وتهجير قبيلة الحويطات بالقوة, فهذه القبيلة التي عاشت في هذه المنطقة منذ قرون، هي قبيلة سعودية مهمة تمتد جذورها إلى الأردن وفلسطين ومصر.
اشتدت وطأة هذه الاحتجاجات في الآونة الأخيرة, حيث اتخذت منعطفاً دموياً بعد أن اغتالت قوات الأمن السعودية عبد الرحيم الحويطي، الناشط القبلي المعارض لمشروع نيوم.
ووفقاً للرسائل ومقاطع الفيديو المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، أعرب – عبد الرحيم الحويطي- عن رفضه لعملية التهجير من منزله لبناء المدينة الضخمة، المطلوبة من قبل محمد بن سلمان.
وقد أدى مقتل الناشط إلى ارتفاع معدل التوترات المحلية حول مشروع نيوم, كما أدى إلى حملة تضامن مع الحويطي على وسائل التواصل الاجتماعي, وقد انتقد رواد الشبكة العنكبوتية بشدة عملية القتل وقرار الحكومة السعودية بتشريد سكان قبيلة الحويطات.
تواجه المملكة العربية السعودية تحديات اقتصادية هائلة، ولا بد أن تكون لها عواقب اجتماعية كبيرة, فالمملكة على أعتاب تغيرات اجتماعية واقتصادية هائلة, ومن المرجح أن يكون لها تأثير سياسي, فالأزمة في المملكة تخاطر بإزعاج العقد الاجتماعي السعودي الشهير, عقد تعهد النظام السعودي من خلاله بتقديم الخدمات للسكان مثل التعليم والصحة والإسكان ووظائف القطاع العام، وفي المقابل سيواصل الشعب السعودي تقديم الولاء والطاعة والإذعان للنظام الملكي من خلال التخلي عن أي شكل من أشكال المشاركة السياسية في السلطة.
ومن المرجح أن يزداد هذا الوضع بسبب نهج محمد بن سلمان وطريقته الدموية في قيادة السلطة، التي يتمثل هدفها الأخير في الاستقرار على كرسي العرش السعودي، ولكن بأي ثمن؟ السياسات التي تسببت في هدر ثروة المملكة والحد من نفوذها الإقليمي.
* موقع” دبلوويب- diploweb” الفرنسي
*كمال كاجة: باحث في الجغرافيا السياسية يحمل درجة الدكتورة, كما يعمل محلل في مرصد العالم العربي الإلكتروني من 2016 إلى 2019.
* المادة الصحفية تم ترجمتها او نقلها حرفيا من المصدر وبالضرورة لا تعبر عن الموقع