السياسية: خالد الحداء

يستمر انتشار وباء كورونا على مستوى العالم بعد أن كان محصورا إلى حدا ما على الصين وبعض الدول، وبعد مرور قرابة شهرين على الوباء هناك من يرى أن ما تم خلال الفترة السابقة يشير أن أزمة كورونا يأتي في إطار المؤامرة، الغربية والأمريكية، على الصين بهدف إضعافها وإبعادها من خريطة المنافسة للقوى الدولية الكبرى.

وعلى الرغم من الجدل الدائر تجاه تلك التفسيرات تجاه الأزمة إلا أن الشواهد على الأقل حتى الآن تشير إلى أن ما ترافق مع أزمة فيروس كورونا “المستجد” من الصعب قبوله في اطار المؤامرة، خاصة أن التداعيات المختلفة وفي مقدمتها الصحية لن تتوقف بالتأثير على الصين، ولكنها سوف تمتد إلى العديد من الدول حول العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية تحسبا لانتقال فيروس كورونا.

حيث تشير أخر المعلومات أن الوباء يضرب في كل اتجاه وأصبح من الصعب ايقافه خاصة مع استمرار حركة السلع والخدمات والأفراد بين مختلف دول العالم، وأعلنت حالة الطوارئ من قبل منظمة الصحة العالمية على نطاق دولي واسع لمواجهة انتشار الفيروس، وهو ما سبب حالة من التوجس والرعب على مستوى العالم.

ولم يقف تأثير كورونا على المستوى الصحي ولكن التبعات كانت واضحة على الاقتصاد العالمي عموما والصيني تحديدا، فأغلب المؤشرات تؤكد بأنه سيترك آثارا سلبية على الاقتصاد الصيني وسيؤدي إلى تباطؤ في مختلف المؤشرات.

كشفت الأزمة التي تعيشها الصين بسبب فيروس كورونا على القيمة الكبيرة التي يمثلها الاقتصاد الصيني بالنسبة للعالم، وكيف تأثرت الأسواق العالمية والاقتصاديات الكبرى لما يتعرض له الاقتصاد الصيني جراء توقف بعض أنشطته الاقتصادية بسبب أزمة الصحية.

الاقتصاد الصيني وأزمة كورونا

يرجح العديد من الخبراء أن تكون الآثار الاقتصادية الناجمة عن تفشي الفيروس بالغة الخطورة، بما يؤدي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة تقارب 1.2٪، ويقدر الناتج المحلي للصين بحوالي 13.6 تريليون دولار في عام 2018، بما يمثل نسبة 15.8% من الناتج المحلي العالمي، ويعد اقتصاد جمهورية الصين الشعبية ثاني أكبر اقتصاد عالمي في الوقت الحالي، حيث تجاوز الناتج المحلى الإجمالي الاسمي للصين نظيره الايطالي عام 2000 وفرنسا في عام 2005 و المملكة المتحدة في عام 2006 والمملكة المتحدة في عام 2007 قبل تجاوز اليابان في عام 2009 مما جعل الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.

وثمة تقديرات أولية عن تأثير أزمة كورونا على الاقتصاد الصيني تؤكد على تضرر كبريات الشركات وهو ما يشكل  ضربة في العمق للاقتصاد الصيني نتيجة تراجع الإنتاج.

وفي ظل عدم سيطرة الصين على أزمة كورونا سيكون الاقتصاد في أزمة حقيقية، وسينال من وضعها على خريطة القوى الاقتصادية الكبرى، وسيتجاوز الحديث عن تراجع قيمة المؤسسات المالية والإنتاجية في الصين كثيرا مما يذكر عن توقعات الأجل القصير، فضلا عن أن الفيروس سيكون قد نال من نسبة لا يستهان بها من الموارد البشرية في الصين، وهي عماد التنمية والنشاط الاقتصادي هناك.

ويعتبر الاقتصاد الصيني أسرع اقتصاد كبير نامٍ والأسرع في الثلاثين سنة الماضية بمعدل نمو سنوي متوسط يتخطى10%، فبكين أكبر مصدّر وثاني أكبر مستورد في العالم، وتشير أرقام البنك الدولي إلى أن حصة الصين من الصادرات السلعية في العام 2018 بلغت 2.4 تريليون دولار بما يمثل نسبة 12.2% من إجمالي الصادرات السلعية للعالم، ومع احتياطيات للنقد الأجنبي “الأكبر في العالم” الذي تجاوز 3.1 تريليون دولار.

وبدا التأثير الاقتصادي الفوري للأزمة واضحا، حيث تأثرت العديد من القطاعات المرتكزة على حركة البضائع والأفراد – مثل السياحة وشركات الطيران ومشغلي سفن الرحلات البحرية وخطوط الشحن التجارية، وجعلت الأزمة سلسلة التوريد العالمية الخاصة بالعديد من المنتجات المهمة تحت الملاحظة وقد تتوقف أغلب الإمدادات الخاصة بالهواتف المحمولة والمعالجات الدقيقة وقطع الغيار لصناعة السيارات في أي وقت في حال تفاقمت الأزمة، ويمكن للفيروس أن يتسبب بزيادة في التراجع الاقتصادي للصين التي سجلت نمواً بنسبة 6.1 في المائة العام الماضي.

ويرى محللون أن الأثر الاقتصادي لفيروس كورونا قد يكون أقوى من أثر فيروس “سارس” وخفضت العديد من الوكالة الدولية توقعاتها لنمو الاقتصاد الصيني إلى 4% مقابل 5.6% في توقعات سابقة للربع الأول من العام الحالي، وتتوقع “أوكسفورد إيكونومكس” انخفاض النمو الصيني إلى 5.4% خلال العام 2020، وهو الأدنى لها منذ العام 1990.

ومع اشتداد الأزمة قد تتعرض السياسية الاقتصادية الصينية إلى انتكاسة في المساعي الهادفة إلى جعل الصين سوقاً موجهة للعالم أو مصنعاً للعالم وفي هذا الاطار، خرجت العديد من التوجهات المنادية بضرورة مراجعة بعض السلوكيات والأفكار التي سادت في خلال السنوات الماضية، مثل أن الصين هي مصنع العالم الذي يمكنه أن يقدم منتجاً رخيصاً في كل الأوقات، يُعتمد عليه لخفض التكلفة في الصناعات المتوطنة في بلدانها الأم، وأيضاً مقولة إن الصين حلقة أساسية لا غنى عنها في حلقات التوريد العالمية للسلع وقطع الغيار.

وتعتقد تلك التوجهات بأن الوقت قد حان للتفكير بضرورة الاعتماد على أكثر من مصدر، وليس فقط المصدر الصيني، هذه الدعوات من شأنها أن تؤثر على نمو الاقتصاد الصيني، وبما يدفع إلى عودة الصناعات الكبرى كالسيارات والإلكترونيات والهواتف النقالة إلى الاعتماد على نفسها أكثر في بلدانها الأم، ما سيؤثر اجمالا بصورة سلبية على تمدد العولمة وتعاون الاقتصادات العالمية.

وتُشكل أزمة كورونا صدمة إضافية غير منتظرة للاقتصادي الصيني، خاصة بعد تصاعد التوترات التجارية في عامي 2018 و2019 مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي ظل هذه الأزمات، تظهر الصين استعداداً لإنعاش نشاطها الاقتصادي من خلال العديد من الإجراءات، حيث ضخ المصرف المركزي الصيني 156 مليار يورو من السيولة في النظام المالي، وخفض معدلات فائدة القروض القصيرة الأجل للمصارف التجارية.

وتسعى الصين إلى تفادي التباطؤ الملحوظ في النمو الاقتصادي، واتخذت في هذا السياق مجموعة من التدابير التحفيزية قصيرة الآجل انطلاقا من أن أزمة كورونا لن تطول قد لا تتجاوز شهرين ومن ثم سيتعافى الاقتصاد الصيني، خاصة وأن الخطط متوسطة وطويلة المدى ما تزال تسير بشكل طبيعي جدا والاقتصاد الصيني مرن جدا للتعاطي مع هذه المشاكل أو الثغرات التي تطرأ بين فترة وأخرى، ويشير بعض رجال الاقتصاد والمال بأنه ربما يكون لهذا الفيروس فرصة لتطور صيني أكبر من خلال الاهتمام والحذر تجاه التفاصيل الداخلية أكثر من الاهتمام بالتصدير إلى الخارج.

بالمقابل هناك من وجه العديد من الانتقادات واصفا تلك الإجراءات بالمتسرعة وغير الملائمة، باعتبارها سوف تنتج فوائد محدودة ومخاطر كبيرة من الأضرار الجانبية والعواقب غير المقصودة، علاوة على ذلك، فالعديد من تلك الإجراءات لا تتماشى مع مسار الإصلاحات طويلة الآجل التي تحتاجها الصين وتسعى إلى متابعتها بصورة مستمرة، خاصة وأن بكين تنتهج سياسة مدروسة، إذ يحكم ذلك خطط واستراتيجيات طويلة الأمد تأخذ بعين الاعتبار معدل النمو وحجم التضخم ونسب البطالة في البلاد.

الاقتصاد العالمي وأزمة كورونا

شكل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تواجه الصين مع انتشار فيروس كورونا الجديد تأثيرا كبيرا على الاقتصاد العالمي نظراً لما يمثله اقتصاد الصين، ولكن لم يقف التأثير على ذلك خاصة مع تفشي الوباء إلى عشرات الدول وفي مقدمتها دول ذات تأثير كبير على الاقتصاد العالمي ” كوريا الجنوبية – اليابان – ايطاليا ” وهو ما يعني تعاظم الأزمة وتمددها من الصين إلى المحيط العالمي وبالتالي تأثير يشمل الاقتصاد العالمي بصورة أكبر.

وفي هذا السياق، شهدت البورصات في أميركا وأوروبا وفي آسيا ومنطقة الشرق الأوسط، تراجع ملحوظ، حيث انخفضت الأسهم العالمية إلى أدنى مستوياتها في أربعة أشهر تحت ضغط انتشار فيروس كورونا.

كذلك كان النفط من أسرع السلع التي تأثرت بصورة سلبية في السوق الدولية، حيث انخفض سعر برميل النفط لما دون سقف الـ60 دولارا، بل ذهبت منظمة أوبك إلى أبعد من ذلك من خلال التأكيد إلى أن التداعيات السلبية لأزمة كورونا سوف تستمر بالنسبة لأسعار النفط على مدار عام 2020.

والواضح أن تفشي فيروس كورونا سوف يشمل العديد من القطاعات على المستوى العالمي منها رحلات الطيران المغادرة من الصين نحو دول وهي شبه خالية من المسافرين، إن الانخفاض العام في مستويات السفر الذي قد ينتج عن هذه الأزمة من شأنه أن يخفض من استهلاك الوقود، وهو أمر بالغ الأهمية بما يتعلق بتوقعات نمو الطلب على النفط خلال الخمس سنوات المقبلة، ومن المرجح أن يحد الفيروس من الطلب على النفط خلال عام 2020، ويشكل وقود الطائرات ما يعادل ثلثي هذه الخسارة.

في الوقت ذاته، أشارت وكالة الطاقة الدولية على أن العالم يواجه زيادة كبيرة في المعروض من النفط الخام، في حين تستمر مخزونات النفط الأمريكية في الازدياد، من المتوقع أن تستأنف الكويت استخراج النفط من المنطقة المشتركة مع المملكة العربية السعودية بحلول شهر مارس – بعد أكثر من أربع سنوات من توقف الحقل عن الإنتاج.

وينظر العديد من الخبراء أن الآثار السلبية ستكون خطيرة على الدول المنتجة للنفط التي تعتمد بدرجة كبيرة على النفط الخام لتحقيق التوازن في ميزانياتها العمومية، والتي لم تتمكن إلى الآن من الانتقال نحو اقتصاد قائم على المعرفة وتحقيق تنوع في اقتصادها.

بالإضافة إلى أن أضرار الاقتصاد العالمي وخسائر الشركات سوف يشمل أغلب الدول لأن المرض يؤثر على الإنتاج والاستهلاك أي على الاقتصاد العالمي، فعلى سبيل المثال الصين تشتري نصف الإنتاج العالمي من النحاس والألمنيوم والحديد الخام حتى تنتج السلع المتعددة، فعندما تمتنع الدول الأخرى عن التصدير للصين ستنخفض عوائدها المالية، وبالتالي لن يكون بمقدور تلك الدول الوفاء بالتزاماتها المختلفة.

الصين وأمريكا واستمرار الصراع

تباينت ردود الفعل منذ بداية انتشار فيروس كورونا في الصين فهناك من سعى إلى اظهار التضامن ولو في حده الأدنى بالمقابل كانت هناك بعض التصريحات السلبية والجافة والبعيدة عن ابسط معاني التضامن تشير ،الصادرة عن واشنطن، إلى أن الأزمة لا تعنيها وبأن لديها القدرة الكاملة للتعامل مع الأزمة في حال اقترابها من حدودها.

والواضح أن تلك التصريحات لم ترتق إلى مستوى المخاطر الذي يمثله المرض، وهو ما يعني أن الوضع كان يستوجب استنهاض كافة الجهود العلمية والمالية لمواجهة كورونا حتى لا يصبح وباء عالميا، فضلا عن أن المصالح الاقتصادية لباقي بلدان العالم مع الصين وفي مقدمتها واشنطن، تفرض أن تتشارك الجهود لإنقاذ الصين بغض النظر الأزمات المختلفة.

والواضح منذ البدايات الأولى للأزمة كانت تشير إلى عجزا في تقدير المخاطر الناتجة عن تحول المرض إلى وباء، وبأن التوجه  العالمي كان يغلب عليه سياسة النأي بالنفس والتخندق في موقع الدفاع، بعيدا عن توحيد الجهود للقضاء على الوباء والحد من تأثيره على مختلف المجالات وفي مقدمتها الاقتصاد.

ولهذا كانت ردة الفعل قوية عندما رفعت الصين مستوى التحدي إلى مستوياته عالية أمام شعبها والعالم، ومن هنا يمكن فهم لماذا تبذل كل هذه الجهود من أعلى الهرم في الدولة الصينية إلى مختلف مكونات الشعب في مشهد تكاملي وكأنهم جنود في المعركة تحت إمرة القيادة التي تعمل بجد في المجالات الطبية واللوجستية بهدف تخطي الأزمة.

وكان من اللافت حول ما أعلنته الحكومة الصينية عن عدم التعاون الأمريكي مع الصين في هذه الأزمة حيث أكدت الصين أن واشنطن لم تقدم أي مساعدة للصين بعد تفشي الوباء بل تعمل جاهدة على نشر الذعر، وشددت على أنه “سنفوز بالحرب على الوباء وسنحمي المواطنين والأجانب داخل حدودنا”. وتشير هذه التصريحات إلى عمق الأزمة ما بين الطرفين بالرغم من المخاطر التي تحيط بالجميع جراء انتشار فيروس كورونا  “اقتصاديا” بين الطرفين.

بالمقابل سعت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال رئيسها دونالد ترامب إلى اظهار تحكمها بالوضع بقوله “أن فيروس كورونا الجديد تحت السيطرة في الولايات المتحدة” وهنا إشارة إلى قدرات واشنطن في تعزيز جاهزيتها لاحتواء الفيروس عبر تكثيف لإجراءات الرصد والتأهب والاحتواء، ولكن في حال فشلها سوف تسير على خطى الصين في ما يتعلق بتدابير إغلاق المدارس والشركات، وإلغاء الرحلات الجوية، ناهيك عن إصابة مئات الآلاف من الأشخاص بالفيروس، وموت الآلاف بسببه، وسيترتب على ذلك تلقي الاقتصاد الأمريكي ضربة قوية.

وفي سياق متصل، يبدو إن حالة عدم اليقين بشأن السيطرة على أزمة كورونا تستوجب الاستعداد في الصين والعالم للسيناريوهات الأكثر سلبية خلال العام الحالي 2020.

أخيراً، من الصعب تحديد نهاية لهذا الوضع الاستثنائي توقيتا وتداعيات، فالأمر برمته مرتبط بمسار انتشار الفيروس، فعلى الرغم من المؤشرات الإيجابية عن تراجع انتشار العدوى داخل الصين، إلا أن ذلك التحسن يقابله تفشي للفيروس في دول أخرى مثل ايطاليا وإيران، وبالتالي: تمثل حالة عدم اليقين بشأن السيطرة على أزمة كورونا في الوقت الحالي الحقيقة التي لا مفر من الاعتراف بها ويبقى الحل معتمدا على مدى قدرة العالم في التعاون الفعال بهدف السيطرة على الأزمة ووقف تداعياتها المدمرة التي لن تستثني أحدا.