في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هناك عدد لا يستهان به من الدول ذات السيادة والمعترف بها عل الصعيد الدولي والتي تتمتع بوجود خارطة حدود رسمية, إلا أن هذه  الحكومات ليس لها وضع فعلي, ويغلب في كثير من الأوقات، أن تسد ثغرات الحوكمة جهات فاعلة بديلة تؤدي وظائف من نوع الدولة بدلاً من المؤسسات الرسمية الضعيفة أو بجانبها, والنتيجة هي أوامر مختلطة حيث يكون التمييز بين الجهات الفاعلة الرسمية وغير الرسمية في الدولة غير واضحة الملامح، بالإضافة إلى الحدود بين فضاءات الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي وغير المشروع.

 

بقلم:د/ محمد شتاتو*

 

(موقع “أرتكل 19- article19 ” المغربي الناطق باللغة الفرنسية, ترجمة:أسماء بجاش-سبأ)

 

كافح صانعو القرار الدولي من أجل إقامة تسويات ولوائح سياسية في هذه السياقات, إذ افترض بناة الدولة في المستقبل خطأً وجود تمييز ثنائي بين فشل الدولة ونجاحها, فقد سعوا إلى إعادة خلق منهج نموذجي  للدولة “المرسومة”، دون الاعتراف بشكل نقدي بالشبكات الأكثر تعقيداً للجهات الفاعلة بصورة حقيقية على أرض الواقع.

 

وفي بعض الأحيان، يختار صانعو القرار الدولي أو يدعمون القادة الذين يفتقرون إلى الشرعية والقدرة والسلطة المحلية, وبالتالي فهذا يؤخر ويعمل على نشر التحولات العضوية المتواترة، وينتج أوامر هجينة، حيث تتكيف الجهات الفاعلة بحكم الأمر الواقع من خلال الاستيلاء على المؤسسات العامة وإنشاء مؤسسات موازية.

 

التسلسل الزمني للأعمال العدائية في اليمن:

 

يقع اليمن، البلد العربي الأكثر فقرا, على الجانب الشمالي من باب المندب وعلى مقربة من منطقة القرن الأفريقي, يحده من الشمال المملكة العربية السعودية ومن الشرق سلطنة عمان، كما يتشارك في حدوده البرية صحراء الربع الخالي وهي صحراء شاسعة غير مأهولة.

 

وعلى جانب المضيق الأفريقي، ترتبط إريتريا وجيبوتي والصومال باليمن عن طريق التجارة والدين والثقافة.

 

فأهم مناطق البلد، تفتقر للثروات الطبيعية مثل النفط والمعادن، كما يعاني البلد أيضاً من شحه في المياه والأراضي الصالحة للزراعة، ولكنها تحتل مكاناً استراتيجياً, فهي تطل على أحد أهم ممرات الشحن البحري في العالم.

 

كانت الاحتجاجات الشعبية التي جابت المناطق اليمنية في العام 2011 شبيهة بالمراحل الأولى من “موجة الربيع العربي” التي خيمت على مناطق عدة في المنطقة العربية, والتي تزامنت مع الثورة المصرية وغيرها من المظاهرات الحاشدة في العالم العربي في أوائل العام 2011.

 

كان اليمن بعد ذلك على موعد مع انهيار “الحوار الوطني” في العام  2014 الذي أعقب عملية الانتقال السلمي للسلطة في العام 2012, حيث تمكن آلاف المقاتلين التابعيين للحركة الحوثية من دخول العاصمة صنعاء وسيطرة على أجزاء شاسعة من شمال اليمن.

 

توالت الاحداث, وتوجهت الحكومة اليمنية المدعومة من المملكة العربية السعودية المعترف بها دولياً بالرغم من كونها غير شرعية، ممثلةً بالرئيس عبد ربه منصور هادي, في بادي الأمر إلى المناطق الجنوبية بالتحديد إلى مدينة عدن, التي اعلنها الرئيس هادي عاصمة مؤقتة للبلد, وفي مارس من العام 2015، ردت السعودية بإنشاء تحالف عسكري يضم في طياته دول عربية سنية, حيث أخذ هذا التحالف على عاتقه مهمة محاربة وصد التيار الحوثي.

 

تعرف الحركة الحوثية رسمياً تحت مسمى أنصار الله, وهي جبهة دينية وسياسية مسلحة تتألف بشكل شبه حصري من أبناء المذهب الزيدي.

 

يمثل أعضاء فرع المذهب الزيدي في الإسلام الشيعي ما يزيد قليلاً عن نصف سكان اليمن البالغ عددهم 28 مليون نسمة, وهم يعتقدون -وهذا شيء غير قابل للنقاش- أن السلطة المركزية في العاصمة صنعاء والتي يسيطر عليها المذهب السني لطالما عملت على تهميشهم منذ إنشاء الجمهورية العربية اليمنية في العام 1962.

 

كان مطلبهم الرئيسي هو إنشاء كيان مستقل ذو أغلبية زيديه ولهذا ليس من المستغرب أن يروا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية حليفاً طبيعي لهم، بالرغم من كون الدعم الإيراني لهم محدوداً بسبب الصعوبات اللوجستية, حيث تتمثل مشكلتهم الرئيسية في الحصار الذي أطبقته دول التحالف العربي على ميناء الحديدة, كما أمطرت مقاتلات دول التحالف هذا البلد بوابل من الهجمات البرية والبحرية.

 

ومع ذلك، كانت نتيجة “عاصفة الحزم”وهو الاسم المأساوي للعمليات العسكرية التي تقودها الرياض على اليمن بمثابة فشل ذريع ومهين, حيث نتج عنها حتى الآن، حصد أرواح 3 ألآلاف جندي سعودي, في حين جرح قرابة 20 ألف آخرين، على الرغم من محاولاتهم الحثيثة لتجنب القتال على الأرض.

 

استقرت الحرب في مستنقع ضحل بتكلفة باهظة تجرع ويلاتها الشعب اليمني, حيث يعتبر سلاح الجو السعودي غير كفؤ بصورة صارخة, بمعنى أن الطيارين السعوديين يقودون طائرات من صنع الولايات المتحدة الأمريكية باهظة الثمن، ولكن  يبدو أنهم لا يمتلكون القدرة على ضرب أي أهدافاً باستثناء المدنيين, كما لا يختلف هذا الوضع مع القوات البرية السعودية أيضاً.

 

وفي المقابل, أصبحت حركة أنصار الله الحوثية قوة حازمة ومتشددة ومتصلبة في كافة ميدان العمليات القتالية.

 

وبالنظر إلى العجز الذي أصاب صناع القرار في البلاط الملكي السعودي في إنهاء الحرب التي تسببت في وقوع البلد في مستنقع أسوأ أزمة إنسانية في العالم اليوم، بدأ نظرائهم في دولة  الإمارات العربية المتحدة، الحليف الأقرب للرياض، في تغطية ظهورهم, فقد اختاروا السير قدماً في مسيرة دعم الميليشيات السنية الموالية للرئيس هادي, حيث أن بعضهم لا يزال يدعي أنه “الجيش اليمني”، كما أنهم لا يزالون  يقدمون في الوقت نفسه كافة أوجه الدعم للانفصاليين في جنوب اليمن والذين انقلبوا على النظام الذي تسيطر عليه السعودية والآن تمكنوا من السيطرة على عدن العاصمة المؤقتة.

 

يتكون المجلس الانتقال الجنوبي من أتباع التيار السني الذين يكنون الكره والضغينة للحركة الحوثية, بيد أنهم اختاروا -المجلس الانتقالي- الانفصال عن حكومة الرئيس هادي, لأنهم لطالما أرادوا استعادة الاستقلال الذي عاشتهُ الأجزاء الجنوبية من اليمن حتى أعلان توحيد شطري البلد الشمالي والجنوبي في العام 1990, تحت مسمى الجمهورية اليمنية.

 

يرى قادة المجلس الانتقالي الجنوبي أن اليمن الموحد قد واري الثراء، ومن الصعب جدا أن نرى من يستطيع طردهم من عدن, فالرئيس هادي ومرشديه السعوديون لا يستطيعون كسر شوكة الحركة الحوثية في الشمال، والآن ليس في مقدرتهم خوض حرب على جبهتين.

 

ومن الناحية السياسية، لطالما عمل السعوديون على تأطير الصراع الدائر في اليمن بالطابع الطائفي – السنة الوهابية في مواجهة الخونة الشيعة – مما جعل من الحل السلمي لهذا الوضع الحاصل في اليمن شبه مستحيل, والمذنب الرئيسي في كل هذا هو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

 

يرى بروس ريدل من معهد بروكينغز*2 ” أن ذلك يرتبط بالقرار المتهور, والذي نص على التدخل العسكري وفشل عملية التخطيط وسوء إدارة التحالف، وفي مقابل  نتج عنه تجويع الملايين من المدنيين الأبرياء”.

 

 

رجل في موقع أحدى الغارات الجوية التي تشنها دول التحالف, والتي استهدفت مبنى كلية المجتمع في محافظة صعدة شمال اليمن, في 12 أبريل 2018/رويترز/تصوير: نايف رحمة

 

 

 

 

 

 

حرب أهلية مدمرة:

 

على الورق وأمام الكاميرات فقط, لا يزال صناع القرار في دولة الإمارات متحالفين مع نظرائهم السعوديين، فهم  براغماتيون – مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة- بشكل بارز, كما أنهم غير واثقين من الأمير محمد بن سلمان.

 

تريد دولة الإمارات أن يكون لها نصيب من كعكة عدن, التي تمر معظم التجارة بين أوروبا والصين واليابان وبقية آسيا عبر مضيق باب المندب المطلة عليه.

 

يمكن أن ينتج عن إغلاق هذا الممر البحري الاستراتيجي منع ناقلات النفط وسفن الحاويات الخليجية المحملة بالبضائع الصينية من الوصول إلى قناة السويس, والذي من شأنه سيتم تحويلها إلى الطرف الجنوبي للقارة الأفريقية, وبالتالي ارتفاع كبير في معدل وقت العبور وتكاليفه.

 

سحب النظام الإماراتي معظم وحدته العسكرية في الآونة الأخيرة، مما سمح لـ «المجلس الانتقالي الجنوبي» بمهاجمة القوات “الوحدوية” للأسف, وهكذا فقد نظام هادي الآن مصداقيته بشكل دائم.

 

وبعد أن خسر نفوذه في مدينة عدن، أصبحت حكومة هادي عارية من أي أشكال الحكومة العاملة, كما تم طي صفحة التحالف السعودي الإماراتي، على الرغم من أن كلا الجانبين يدعيان خلاف ذلك.

 

ومن المستحسن أن تتقبل الإدارة الأمريكية وباقي دول العالم، ولاسيما تلك البلدان التي من المحتمل أن تكون الأكثر تضرراً جراء إغلاق مضيق باب المندب، الواقع الجديد والسعي إلى التوصل إلى اتفاق مع الانفصاليين في جنوب اليمن, فقضية تفكك البلد أصبحت بمثابة شيء وشيك وطبيعي في آن واحد.

 

ويجب قبول هذا الوضع الجديد وإدارته تماماً كما لا يمكن تجنب تفكك السودان المطلة على البحر الأحمر, حيث تمت إدارته بنجاح في نهاية الطريق.

 

وهكذا, سيعاني السعوديين وولي العهد الأمير محمد بن سلمان من ضربة قاصمة أخرى في مدى مصداقيتهم ليس أمام المنطقة فحسب, بل أمام العالم بأسره وهو أمر جيد جداً.

 

ليس لدى الإدارة الأمريكية على وجه الخصوص أي سبب لدعم النتيجة في اليمن، باستثناء النتيجة التي تبشر بالاستقرار الإقليمي وتدفق سيل عارم من الرحلات التجارية المتواصلة.

 

اللعبة الخطيرة التي انتهجتها الحركة الحوثية:

 

يتبع حركة أنصار الله الحوثية استراتيجية معقدة في حربهم التي لا تزال تحكى فصولها منذ خمس سنوات مع السعودية وحلفائها.

 

فمن ناحية، تعاون الحوثيون أخيراً مع عملية السلام التي تشرف عليها الأمم المتحدة, حيث عملوا على سحب بعض قواتهم من ميناء الحديدة.

 

ومن ناحية أخرى، شنوا هجوم بواسطة سرب من الطائرات المسيرة بعيدة المدى, حيث تم استهداف منشآت نفطية سعودية في المنطقة الشرقية في تصعيد كبير في معركتهم لشن حرب داخل الأراضي السعودي وحلفائها.

 

تمكن المبعوث الخاص إلى اليمن من جمع فرقاء الأزمة اليمنية على طاولة المفاوضات في 13 من ديسمبر من العام 2018,  في العاصمة السويدية ستوكهولم, لخلق فرص مواتية للسلام في مدينة الحديدة الساحلية, وبالفعل وافق أنصار الله على تسليم الميناء الرئيسي في شمال البلد, بالإضافة إلى ميناءين آخرين أصغر والبدء بعملية لتبادل الأسرى وغيرها من تدابير بناء الثقة لإنهاء الصراع.

 

ومن الناحية العملية، قاوم أنصار الله الانسحاب حتى اللحظة الأخيرة, بيد أن الأمم المتحدة صادقت في مايو من العام 2019 على أن الانسحاب قد تم على الأرض رغم أن الحكومة اليمنية المدعومة من الرياض لا تزال تنتقد عملية الانسحاب باعتباره غير مكتمل, وبالرغم من عمليات الانسحاب إلا أن القتال استمر في المدينة.

 

أنشأت الأمم المتحدة هيئة ميناء موثوق بها في مدينة الحديدة  للأشراف على عمليات دخول المواد الغذائية والأدوية الأساسية التي يحتاجها اليمنيون لإنهاء الكارثة الإنسانية في البلد, حيث يعاني معظم سكان اليمن من سوء التغذية, في حين أصبحوا لقمة سائغة أمام الأمراض والأوبئة.

 

سلطت الهجمات التي شنتها الطائرات بدون طيار على المنشآت النفطية السعودية في صيف العام 2019 الضوء على مدى تصميم حركة أنصار الله على زيادة الضغط على الرياض.

 

ومن جانبها, أشارت الأمم المتحدة في وقت سابق, أن مجموعة الطائرات بدون طيار تجاوزت الحالات المؤكدة السابقة لصواريخ اليمنيين وغارات الطائرات بدون طيار, حيث أنه من شبه المؤكد أن القادة في  إيران وحزب الله قدموا – لأنصار الله – مساعدة تقنية وتشغيلية مهمة.

 

كما أشار الحوثيون ايضاً إنهم يتلقون مساعدات محلية من أنصارهم في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، التي تضم عدداً كبيراً من أنصار التيار الشيعي.

 

يؤكد أنصار الله على حقهم الكامل في استهداف المنشآت السعودية نظراً للحرب الجوية التي تقودها ضد أهداف في اليمن وغالباً ما تكون هذه الأهداف مدنية, كما زعم أنصار الله أيضاً أنهم أصابوا أهدافاً في العاصمة أبو ظبي من قبل.

 

تدور المعركة في اليمن وشبه الجزيرة العربية على خلفية تصاعد التوترات بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية ضد إيران.

 

إن التخريب الغامض الذي طال الناقلات النفطية في ميناء الفجيرة الإماراتي والانتشار السريع لمنظومة صواريخ الدفاع الجوي من نوع باتريوت وحاملة الطائرات يو إس إس أبراهام لينكولن في المنطقة هي مظاهر أخرى لتوجه متزايد الخطورة نحو الصراع الذي بدأه قرار إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي والذي ابرام في منتصف يوليو من العام 2015.

 

يرى محللون سياسيون أن الحركة الحوثية لم تلعب أي دور في التخريب الذي ألحق أضراراً بالغة بناقلتي النفط السعوديتين، مؤكدين على أنه عمل عسكري إيراني بنسبة خالص.

 

تحظى الحركة الحوثية بدعم من طهران، ولكنهم يعتبرون أصحاب القرار في الأول والأخير, حيث أن تأثير طهران على استراتيجية الحوثيين محدود جداً, إذ لطالما تجاهل أنصار الله النصح الإيراني فيما مضى.

 

يلقي السعوديون باللوم على إيران في كل الصعوبات التي يواجهونها، بما في ذلك مستنقع الحرب في اليمن, إذ دعت افتتاحية بارزة في الصحافة السعودية في الآونة الأخيرة إلى شن غارات جوية أمريكية على أهداف في إيران لمعاقبة صناع القرار الإيراني.

 

ينظر إلى ولي العهد السعودي بأنه الصقر الرئيسي في كل ما يحدث, ولكنه حريص كل الحرص وبشكل خاص على عدم تحمل أي مسؤولية عن القرارات الكارثية فيما يخص التدخل العسكري في اليمن منذ العام 2015 وكذلك عملية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في 2 أكتوبر 2018, في القنصلية السعودية في مدينة اسطنبول التركية.

 

يراود الأمير محمد بن سلمان خيالات واسعة بأنه جنرالاً عسكرياً عظيماً، ولكن لا ينبغي أن تؤخذ نصيحته بشأن القضايا التي تخص الحرب والسلام على محمل الجد نظراً لمحدودية خلفيته.

 

ومع ذلك، سيكون من الحكمة أن تفتح الإدارة الأمريكية حواراً مباشراً مع الحوثيين لفهم سلوكهم بشكل أفضل.

 

لطالما أعتبر انصار الله أنهم معادلة صعبة في المنطقة التي تخيم عليها التوترات والصراعات, كما أن الحوار معهم من شأنه أن يبعث برسالة إلى الرياض مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تنجر إلى حرب كارثية مع الجمهورية الإسلامية في إيران لخدمة المصالح السعودية.

 

 

* المقال تم ترجمته حرفياً من المصدر وبالضرورة لا يعبر عن رأي الموقع.