بقلم: ريتشارد لابيبير

( موقع”investigaction- انفستيج أكسيون” الفرنسي, ترجمة: أسماء بجاش – سبأ )

أصبح اليوم الوضع أكثر وضوحاً في سجل المواجهات بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية إيران الإسلامية, ويمكن أن نرى بشكل عام أن عملية الاغتيال المستهدف للجنرال الإيراني “قاسم سليماني” لا يحل من الأمر شيء – لا شيء على الإطلاق –  فهو لا يغير من حالة التوازن للقوة الثنائية بين واشنطن وطهران, فهذه القضية لن تؤدي سوى إلى تفاقم حدة قوس الأزمة في منطقتي الشرق الاوسط والأدنى.

وفيما يخص مسألة الدفاع الوقائي للولايات المتحدة الأمريكية، من الواضح أنهم لم يتمكنوا من الوقوف مكتوفي الأيدي بعد تدمير إحدى طائرات الدرون التابعة لسلاح الجو الأمريكي، خاصة بعد الهجوم الكبير والمدمر الذي استهدف مواقع تكرير النفط التابعة لعملاق الصناعة النفطية في المملكة السعودية “شركة أرامكو” والحليف التاريخي لـ واشنطن منذ توقيع اتفاقية كوينسي في فبراير من العام 1945.

ومع ذلك، كان من المتوقع أن خبراء وزارة الدفاع “البنتاغون” سوف ينظرون في كيفية الرد التي من شأنها على وجه التحديد تغيير الطريق، إن لم يكن تحوله في الحرب بين البلدين منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979.

وللأسف فان الخيال الخلاق لا يميز حقاً الفريق الحكومي الأمريكي الحالي الذي اختار أسوأ طريقة للعمل: الاغتيال المستهدف، وهو تكتيك تم اعتماده من قبل فصيل من الجنود الإسرائيليون الذين يتسمون بالوحشية منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي, وفي جميع حالات هذه المرحلة، يمكننا تقديم خمسة دروس مستوحاة من اغتيال الجنرال الإيراني.

1-   مشاعر وطنية وترسيخ لمبدأ مناهضة الولايات المتحدة الأمريكية:

النتيجة المباشرة الأولى لاغتيال قائد فيلق القدس – وهي فرقة تابعة للحرس الثوري الإيراني والمسؤولة أساسا عن العمليات العسكرية والعمليات السرية خارج الحدود الإقليمية- تكمن في التعبئة الشعبية القوية التي تعبر عن تعزيز الشعور الوطني الإيراني, حيث تستمد الهوية الإيرانية الحضارات والجذور والمعالم منذ 5 آلاف سنة من التاريخ, وبعد أن عمل القادة الغربيون على الزج بالعراق إلى شن حرب على جمهورية إيران الإسلامية حديثة الولادة للقضاء على المتغير الأنثروبولوجي الفارسي!

وتفسر هذه البيانات غير القابلة للضغط حجم الجنازة التي حظي بها قاسم سليماني والتي جرت في الفترة من 4 إلى 7 من يناير في كلاً من العراق: في بغداد وكربلاء ونجف هذا من جهة ومن جهة أخرى في إيران: في الأهواز ومشهد وطهران وقم وكرمان، مسقط رأس “سليماني”.

في طهران، تم وصف الحدث بأنه “الأهم في البلد بعد الموكب الجنائزي لآية الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية في يونيو 1989, والتي جمعت أكثر من 10 ملايين شخص”.

ومن جانبه, قال المتحدث باسم الحرس الثوري العميد رمضان شريف في 14 يناير 2020، ان قرابة 15 مليون شخص حضروا الجنازة التي امتدت لأكثر من 10 كيلومترات في شوارع طهران، حيث ودعت الحشود “بطلهم” وهم يهتفون “الموت لأمريكا، الموت لأمريكا!”.

ومحاطاً بالشخصيات الرئيسية في الجمهورية الإسلامية في جامعة طهران، أمّ المرشد  الأعلى، آية الله علي خامنئي الصلاة على التوابيت التي تحتوي على رفات الجنرال قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس جماعة الحشد الشعبي الموالية لإيران في بغداد وأربعة جنود إيرانيين آخرين, ثم غادروا المكان قبل أن تبدأ نعوش “الشهداء” في شق طريقها وسط الحشود.

وفي خضم ذلك، أقسمت زينب، ابنة الجنرال سليماني، أن “استشهاد والدها سيؤدي إلى تجدد عهد المقاومة وسيهز عروش أمريكا وإسرائيل”.

ومن بين صور القادة التي تم تشويهها من قبل الحشود, صور للرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الذي أظهرت كلماته الأخيرة “تضامناً كاملاً” مع واشنطن، بل وسيئة إلى حد ما مع العديد من الإيرانيين.

في مدينة الأهواز, احتشد مئات الآلاف من الناس, بالرغم من كون هذه المدينة شهدت احتجاجات منتظمة ضد النظام، ومن جانبهم, يعترف المعارضون بأن هذا الحشد الضخم ما هو إلا تجمع يتكون من أصحاب الشركات التابعة للنظام أو الموظفين الحكوميين تم الدفع بهم للمشاركة في هذا الحدث.

ومع ذلك, لم تختفي المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها السكان ولا المظالم ضد السلطة التي تسيء معاملة معارضيها.

أشاد الإيرانيون, خلال هذا الحشد الكبير, أولاً بالزعيم العسكري الذي تمكن من النأي ببلادهم من الهجمات الإرهابية لتنظيم الدولة الإسلامية المتواجد على الأراضي العراقية الدولة المجاورة لهم, كما أنهم يقدرون له عدم تطلعه إلى أي طموحات سياسية.

أيقظت الخطب النارية واللاذعة للرئيس ترامب – التي اعلن من خلالها عزمه على مهاجمة المواقع الثقافية الإيرانية – القومية القوية والمقرونة بالاستياء الشديد المناهض ومعادي للولايات المتحدة.

أربعون يوماً قبل الانتخابات التشريعية في ايران، من الوارد جداً أن تصب عملية اغتيال الجنرال سليماني في مصلحة التيار المحافظ والمعادي لأي عملية تقارب مع الغرب, أضف إلى أن عملية الاغتيال هذه, ستخاطر بتعزيز قبضة قوات الأمن على المتظاهرين في المستقبل، الذين سيتهمون بأنهم “عملاء للشيطان الأمريكي العظيم”. أحسنت دونالد ترامب!!!!

2-   الاستجابة الأيديولوجية وحرب الاتصالات:

جرت العادة أن تكون الردود الإيرانية على العلاقات الدولية غير فورية ومباشرة, ومع ذلك، وعلى الرغم من كل الأزمات التي تواجهها طهران, فقد اسقطت الدفاعات الجوية الإيرانية الطائرة الأوكرانية من طراز “بوينغ 737”  في 8 يناير من العام الحالي, حيث كانت الطائرة في رحلة متوجهة من طهران إلى العاصمة الأوكرانية كييف, والتي كان على متنها 176 شخصا، بينهم 138 مسافر إلى كندا, ولم ينج منهم أحد.

يعد هذا اول حادث دموي قاتل فى تاريخ الخطوط الجوية الدولية الأوكرانية والأكثر دموية فى إيران بعد حادث طائرة “اليوشن آى ال – 76 “.

ففى 19 فبراير من العام 2003، تحطمت طائرة من طراز “إليوشن” (آى ال-76) تابعة لسلاح جو الحرس الثوري الإيراني بالقرب من مدينة كرمان فى جنوب شرق إيران, حيث أسفر الحادث عن مقتل جميع ركاب الطائرة البالغ عددهم 275.

وفي اليوم التالي للواقعة، قال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إن الطائرة أسقطت بصاروخ أرض جو من طراز تور- إم 15، وذلك بناء على معلومات من الاستخبارات الأمريكية.

وفي 11 يناير المنصرم، اعترفت طهران في الأخير بأنها من يقف وراء إسقاط الطائرة, ولكن عن طريق الخطأ, حيث وقع الحادث حينما كانت الدفاعات الجوية في حالة تأهب قصوى جراء التوترات المتزايدة التي تخيم على واشنطن وطهران.

وبحسب المعلومات الصادرة عن “المرصد الجيوستراتيجيprochetmoyen-orient.ch”، فإن هذا الهجوم الدموي تم عن طريق إطلاق قوات الحرس الثوري خارج سلسلة قيادة الجيش الوطني المضاد للطائرات.

ومن جانبه, دعا الرئيس حسن روحاني على الفور إلى تشكيل محكمة خاصة تضم قضاة رفيعي المستوى وخبراء منتقين بعناية (…) – فالعالم بأسره سوف يتابع- حيث يسعى الرئيس روحاني من هذه الفرصة المؤسفة إلى إضعاف خصومه المحافظين.

ومع ذلك، فإن الرئيس لديه القليل من الشرعية لمحاولة وضع خطى الحرس الثوري في المقدمة، ولاسيما وأن من يقوم بالعمل ليس سوى القاضي إبراهيم الريسي، الذي يُنظر إليه على أنه الخليفة المحتمل للمرشد خامنئي.

رداً على التصريحات النارية للرئيس ترامب عندما هدد باستهداف 52 هدفاً إيرانياً, غرّد الرئيس الإيراني على موقع التواصل الاجتماعي تويتر في 6 يناير،: “لا تهدد أبداً الأمة الإيرانية”, مشيراً إلى أن من يشير إلى الرقم 52, عليه أن يتذكر الرقم “290.” # IR655″.

وبالإشارة إلى الرقم “290” والكلمة الرئيسية “IR655”, يشير الرئيس الإيراني إلى مأساة طائرة الإيرانية إيرباص، التي أسقطت في يوليو من العام 1988 بصاروخ أطلقته سفينة حربية أمريكية من منطقة الخليج والتي أودت بحياة 290 شخصا.

ففي 3 يوليو 1988، أثناء الحرب الإيرانية العراقية، تم اطلاق صاروخين من طراز استاندارد 2 من طراد يو إس إس وينسس السفينة الحربية الاميركية التي تقوم بالحراسة في مضيق هرمز نحو الطائرة الإيرانية التي اقلعت من مطار بندر عباس الدولي والمتجه إلى دبي, حيث حصدت هذه الكارثة أرواح 290 شخص كانوا على متن الطائرة بينهم 66 طفلاً.

ومن جانبها, نفت الولايات المتحدة الأمريكية مسؤوليتها على الفور, وسرعان ما أن انتهى الأمر بالرئيس “ريغان” بالتعبير عن “أسفه” لهذه المأساة الإنسانية الرهيبة, حيث عللت السلطات الأمريكية ما حدث بـ “خطأ تقديري, إذ اعتقدت القوات البحرية الأمريكية أنها كانت طائرة عسكرية إيرانية من طراز “إف -14” وكانت بصدد مهاجمة المدمرة يو إس إس وينسس وأن العملية التي قامت بها كانت دفاعاً عن النفس.

استغرق الأمر عدة أيام حتى تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بالخطاء, إذ لطالما دعم الرئيس رونالد ريغان ونائبه جورج بوش الأب أولاً رواية قائد الطراد الأمريكي، حيث زعم أن الرحلة كانت خارج مسارها الجوي، ولكن انتهى الأمر في نهاية المطاف بأن الطاقم قد خدع جراء وقوع لبس في مدى ارتفاع الطائرة, ومن جانبها, لا تزال طهران مقتنعة بأن إطلاق الصواريخ كان عملاً حربياً, فهي لم تصدق بتاتاً رواية أن الطائرة أُسقطت عن طريق الخطأ, حيث قال الرئيس روحاني في وقت لاحق من شهر أبريل من العام المنصرم: “من يستطيع أن يتقبل فكرة الخلط بين طائرة إيرباص في مرحلة الصعود ومسار طائرة إف-14″, مضيفاً:”اردتَ أن تقول للشعب الايراني ليس لدينا خط أحمر (…) كما أننا نقتل الأطفال (…) ونقتل النساء (…) ونستهدف الأبرياء.

وفي الشهر نفسه أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن تصنيف الحرس الثوري الإيراني كـ”منظمة إرهابية خارجية”.

وافقت الولايات المتحدة في فبراير من العام 1996، على دفع مبلغ 131.8 مليون دولار لإيران من أجل وقف الدعوى التي رفعتها إيران في العام 1989 ضد الولايات المتحدة في محكمة العدل الدولية, كما أعربت عن أسفها للخسائر في الأرواح البشرية، بدون أن تعتذر رسمياً.

ولكن بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على ذلك الحادث، لا تزال طهران تنتظر اعتذاراً رسمياً من واشنطن, في حين قال جورج بوش الأب إنه “لن يعتذر أبداً”.

واليوم، لا تزال هذه المأساة تطارد الذاكرة الجماعية لإيران، كما هو الحال بالنسبة لحادثة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران في العام 1979، والذي تم خلاله احتجاز “52” دبلوماسياً لمدة 444 يوماً.

يفترض أنه لم يصب أي جندي أمريكي في عملية “الشهيد سليماني” التي نفذها الحرس الثوري  الإيراني في 8 يناير, حيث  سقط ما مجموعه 22 صاروخ أرض – أرض على القواعد الأمريكية في العراق – عين الأسد وإربيل- إذ يتمركز بعض الجنود الأمريكيين البالغ عددهم 5200 جندي والذين تم نشرهم رسمياً في العراق.

وفي وقت سابق، أشاد المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي بما وصفة بـ “صفعة في الوجه” للولايات المتحدة الأمريكية, كما حذر من أن هذه الضربة “ليست كافية”, حيث أشار إلى أن الوجود الفاسد للولايات المتحدة في المنطقة يجب أن ينتهي.

ومن جانبه, أضاف وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف قائلاً: “لا نبحث عن تصعيد أو حرب، لكن إذا لزم الأمر سندافع عن أنفسنا”.

وبحسب مصادر مختلفة من “prochetmoyen-orient.ch”, تم نقل عشرات الجرحى من الجنود الأمريكيين بواسطة طائرات هليكوبتر للطوارئ إلى أقرب مستشفيات في إسرائيل …

وعلى خلفية حرب الاتصالات هذه، فإن رد الحرس الثوري الإيديولوجي يحجب واقعاً تكتيكياً غير ملموس والذي يعتبر أوسع نطاقاً.

ففي حقيقة الأمر، فإن الرد الإيراني الحقيقي لم يبدأ بعد, أضف إلى ذلك، لن يكون بما تحمله الكلمة من معنى “إيرانياً” صارماً أو متناظراً من خلال هدفه وطريقة عمله.

3-   جهاز الدولة الإيراني لا يقتصر على “نظام الملالي”:

قبل سنوات قليلة، رأت صحيفة لوريان لو جور” اليومية التي أصبحت نشرة أبرشية لليمين واليمين المتطرف في لبنان, أنها كانت بارعة عندما كانت تُظهر ذكائها من خلال إبراز عنوانها الرئيسي ” مولو الملالي”.

منذ ذلك الحين، تدفقت عناوين الصحف الإعلامية البارزة والعريضة، حيث لم تعد وسائل إعلامنا تتحدث إلا عن “نظام بشار الأسد” أو عن “نظام الملالي”, لماذا لا نتحدث أيضاً عن “نظام دونالد ترامب” أو “نظام بنيامين نتنياهو” وحتى عن “نظام إيمانويل ماكرون”؟

هذا التخصيص المثالي حقاً-  بمعنى الفلسفة السياسية المثالية-  لا يزال يدعي أن “الموضوعات” وحدها هي التي تصنع التاريخ بدون شعوبها، ولكن وفقا لإرادتهم الحرة أو سعادتهم الطيبة، يُنكَر أي نوع من الواقع على العملية التاريخية وبالتالي بُعدها “المثالي”!

وعلى غرار جميع الثورات، بما في ذلك الأمثلة الفرنسية والروسية والصينية والنيكاراغوية، فقد تحولت الثورة الإيرانية من خلال تطوير بعض تجاوزاتها الإيديولوجية بشكلٍ تدريجي.

ومن دون وصف كل الهيكلية الدستورية والمؤسسية في إيران، لا بد من القول بأن أجهزة الدولة الإيرانية لا تُختصر في “نظام الملالي”.

وللأسف، فإن “خطأ” إسقاط الطائرة الأوكرانية المعترف بها رسمياً من قبل السلطات الإيرانية على أعلى مستوى يوضح مدى التطور بطريقة عرضية, حتى أن وكالة الأنباء الرسمية للحرس الثوري تحدثت بشكلٍ صريح عن “التوتر” مع الأدميرال علي شمخاني رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي.

ومن جانبه، انتهز رئيس البرلمان الذي يتمتع بنفوذ كبير “علي لاريجاني” الفرصة ليوجه بعض الانتقادات الصريحة والعلنية لرئيس الجمهورية حسن روحاني، في حين أن الأجهزة الخاصة- وبعضها في أيدي الحرس الثوري، في حين أن البعض الآخر يبقى أكثر ارتباطا بالجيش التقليدي- تُلقي باللوم على بعضها البعض في قضية إسقاط الطائرة.

وفي أعقاب هذه الأزمة، يُمكننا قياس تنوع أجهزة الدولة في البلد- على عكس جميع حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة- الذي يجري بانتظام انتخابات عامة (رئاسية وتشريعية).

عاصر كاتب هذه السطور بعض الحملات الانتخابية في إيران والتي تميزت بحرية النقاش وافتتاح وسائل الإعلام الرئيسية والاجتماعات العامة التي نُظمت في كل من المدن الكبرى والريف المترامي الأطراف.

إن الحلقات الأخيرة من التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران تسمح لنا بقياس تطور المؤسسات الإيرانية التي لا تُختزل إلى “نظام الملالي”, وهذا الأخير لا علاقة له بـ “النظام الوهابي لمحمد بن سلمان”.

نأمل أن نتمكن في النهاية من الخروج من مستنقع الكراهية في إيران، وهو موقف أساسي- تم تغذيته منذ العام 1979- بواسطة موكب من المنظرين المحافظين الجدد من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وفرنسا في تحدٍ للتاريخ وتراجعه وتقدمه ومراوغته.

4-   حرب أهلية شاملة جديدة في العراق:

يعيدنا الدرس الرابع إلى الميدان العسكري, إذ يجب أن نبدأ بالتذكير بأنه منذ الغزو الأنجلو-أمريكي للعراق في العام 2003 (العدوان الذي بدأ دون موافقة مجلس الأمن الدولي)، لم يعد للدولة العراقية أي وجود، بعد أن انهارت بشكل صحيح في العديد من الإقطاعيات في أيدي الميليشيات والمافيا التي تعيش تحت سلطة الأغبياء!

وبعد مرور سبعة عشر عاماً على غزو العراق، لا تزال غالبية المدن الرئيسية في العراق تفتقر لمقومات الحياة الأساسية من الماء والكهرباء, وذلك من أجل حرب كان من المفترض أن تجلب في طياتها الديمقراطية وحقوق الإنسان والازدهار، وها هي قد نجحت في ذلك!!!

وفي هذا الفضاء، ينبغي أن نتذكر أيضاً أن وزارة الدفاع الأمريكية لا تزال تصنف عدد القتلى والجرحى في هذه “الحرب الإنسانية المفترضة” على أنه “دفاع سري”.

وبعبارة أخرى، وكما هو الحال اليوم، لا يزال من غير المعلوم عدد الضحايا المدنيين والعسكريين الذين تسببت في سقوطهم هذه الحرب غير القانونية وغير الضرورية، كما حاول وزير الخارجية الفرنسي آنذاك دومينيك دو فيلبان التنبؤ في خطابه التاريخي أمام مجلس الأمن في 14 فبراير 2003.

وبحسب آخر الأخبار ووفقاً لعدة مصادر من ” prochetmoyen-orient.ch” يرى مستشارو رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي أن “الأمريكيين يرفضون الانصياع وراء العقل والتعاون مع السلطات العراقية، محتجين بتأجيج حرب جديدة في البلد من خلال رفضهم احترام القانون الذي يتطلب منهم سحب قواتهم المسلحة, حيث سيواجهون مقاومة شعبية مسلحة قوية ومشروعة, حتى وإن كان بعض العراقيين (في إقليم كردستان) ينوون خرق القانون والقبول بالوجود الأمريكي في منطقتهم, بيد أنهم سيدفعون ثمن هذا القرار غالياً”.

وبالفعل, دعا البرلمان العراقي الولايات المتحدة الأمريكية إلى مغادرة البلد، وطي صفحة الاتفاق بين العراق والقوات الأمريكية لمكافحة الإرهاب, وفي اتصال هاتفي مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، دعا عادل عبد المهدي إلى ضرورة وصول وفد لتنظيم الانسحاب الكامل لجميع القوات الأمريكية من البلد.

لم يمضِ وقت طويل على رد الخارجية الأمريكية، ولكن بطريقة متناقضة تماماً, حيث قالت الولايات المتحدة الأمريكية أنها لن تسحب قواتها من العراق، مع احترامها لسيادته وقراراته”. وهذا جلياً للعيان!!!

ومن جانبه, اتخذ الرئيس دونالد ترامب موقفاً أكثر صرامة, حيث أشار إلى أنه في حال طرد المسؤولين العراقيين الولايات المتحدة الأمريكية من البلد سوف يفرض عليهم عقوبات لم يروها من قبل, حيث ستكون العقوبات الإيرانية ضئيلة بجانبها, كما شدد على أن القوات الأمريكية لن تنسحب بشكل كامل من العراق ما لم يتم تعويض الجيش الأمريكي عن النفقات الباهظة التي دفعها في بناء القاعدة الجوية هناك, حيث وقال “أنفقنا كثيرا من الأموال في العراق ولدينا قاعدة جوية كلف بناؤها مليارات الدولارات.. لن نغادر قبل أن يردوا لنا ما دفعناه, كما هدد ايضاً بتجميد حساب البنك المركزي العراقي في البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك برصيد 35 مليار دولار”.

اجتمعت الفصائل العراقية التي حاربت تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية أو ما يُعرف بتنظيم داعش في سوريا والعراق بالجنرال الإيراني إسماعيل قاني الذي تم تعيينه مؤخراً قائداً لقوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني خلفاً للجنرال قاسم سليماني, حيث دعوا إلى تقديم الدعم العسكري والمالي لمحاربة “قوات الاحتلال الأمريكية”.

وفي السياق نفسه، أصدر الزعيم الشيعي النافذ مقتدى الصدر أوامره بإعادة تنشيط “جيش المهدي”, وهي عناصر إسلامية حصدت أرواح العشرات من الجنود الأمريكيين خلال حرب الخليج الثانية قبل تفكيكها في العام 2008 .

ومن جانبه, وعد الجنرال الايراني بمساعدتهم وتأييد قرار البرلمان العراقي ومحاربة قوات الاحتلال الأمريكية.

ومن المقرر أن يزور إسماعيل قاني العراق قريباً, حيث يعمل قرابة 100 مستشار إيراني في مركز القيادة ومراقبة الأمن في بغداد مع نظرائهم السوريين والروس المكلفين بمكافحة تنظيم داعش.

وفي النهاية، لن تتمكن طهران من أعطاء واشنطن رداً مماثلاً على عملية اغتيال الجنرال سليماني.

إن الردود الحقيقية، التي قيل إنها لم تُبَد، سوف تظهر بشكل غير متناظر ومتعدد الأشكال، إن لم يكن سراً، ليس في العراق وسوريا فحسب، بل أيضاً قد يكون الرد في اليمن أو أفغانستان.

نجح دونالد ترامب كذلك في خلق بيئة تصالحية, لم يكن من الوارد تصورها قبل بضعة أشهر فقط بين حركة طالبان السنية المتطرفة جداً في افغانستان ومختلف الجماعات المسلحة الشيعية المشاركة في المنطقة.

يجب على الإيرانيين الذين لا يزالون يلعبون بشكل مثير للإعجاب على التقويمات الانتخابية للدول الغربية، أن يفعلوا كل ما في وسعهم لعرقلة إعادة انتخاب دونالد ترامب, لفترة رئاسية جديدة!

بعد الحرب الأهلية الشاملة في سوريا – التي خسرت فيها كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الإسرائيليون والأوروبيون ودول الخليج – بدأت مواجهة جديدة مماثلة شملت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبدرجة أقل الصين ودول المنطقة في العراق.

5-    خصخصة الحروب الأمريكية:

إن تطور الحرب الأهلية الشاملة في العراق يُعتبر بمثابة مثال رمزي آخر على خصخصة الحروب الأميركية.

إنه ليس سبقاً صحفياً:

1-   يؤرق مضجع الرئيس دونالد ترامب فكرة خسارته الانتخابات الرئاسية المزمع أجراؤها في نوفمبر من العام الحالي, وللقيام بذلك، لابد من ثلاثة مصنفات ملهمة رئيسية.

2-   نأى بنفسه عن سلفه باراك أوباما من خلال التراجع عن كل ما يمكن أن يفعله.

3-   في التقاليد الأكثر إخلاصا في الغرب، يتم استعراض الأعمال البطولية أمام الناخبين, منها تصفية زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي والجنرال الإيراني سليماني, وهذا ما فعله سلفه أوباما عندما تم تصفية زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في مايو من العام 2011.

ومن هذا المنطلق، يمكن اليوم لدونالد ترامب أن يقول كما أعلن جورج دبليو بوش أن “المهمة أُنجزت” في “الحرب على الإرهاب” التي بدأت خلال الفترة الأخيرة من فترة ولايته.

ونتيجة لذلك تمكن دونالد ترامب من القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح بأن يخضع العالم لأعمال مأساوية تسعى لتدمير هذا الكون, وبالنسبة إلى جانب “التواصل” فإن الحاصل على أرض الواقع مختلف تماماً.

وعلى الرغم من أنه تم الإعلان على نطاق واسع بسحب بعض الوحدات من أفغانستان وسوريا وأماكن أخرى، إلا أن الرئيس الأمريكي يعرف تماماً أنه لا يستطيع التخلي عن المسرح الأول لطالبان والثاني للجيش السوري.

وبعد وقوع الكوارث مرارا وتكرارا وإهدار مليارات الدولارات في أفغانستان، يمتلك البنتاغون شبكة من “المقاولين من الباطن” (كما يطلق عليهم الصحفيون الباريسيون “الببغاوات الجيدة”)، وبعبارة أخرى المرتزقة، “كلاب حرب” كما كانت تسمى في أيام بوب دينارد, هو مرتزق فرنسي شارك في العديد من الانقلابات في أفريقيا، وغالباً ما كان بموافقة الحكومة الفرنسية.

في العراق، يعتبر هذا الاستبدال بمثابة الإستراتيجية الأكثر إتباعاً لأن الجنرالات في الولايات المتحدة الأمريكية يعرفون تمام المعرفة أنهم لا يستطيعون المغادرة، الأمر الذي من شأنه أن يفتح آفاقاً تؤرق مضجع الكثير من الدول السنية الحليفة – بما في ذلك الأردن – والذي من شأنه تشكيل “ممر شيعي” يربط بلاد فارس الازلية بالفضاء اللبناني المتوسطي عبر العراق، على وجه الخصوص.

إذاً، من واشنطن، ما الذي يمكن عمله لإرضاء الرأي العام في أميركا؟ في واقع الأمر، ينذر بعودة ما بين 5 إلى 6 آلاف جندي من الجيش الرسمي لإفساح المجال لـ 15 إلى 20 ألف من المرتزقة الموجودين بالفعل من الشركات العسكرية الأمريكية الخاصة ، مثل بلاك ووتر وآخرون.

وهذا المبدأ ليس بالجديد ولكنه قد يصبح أكثر انتشارا لأسباب مختلفة, حيث أن كتاب آلان جوكسي “حروب الإمبراطورية العالمية” قد سلط الضوء على هذا الأمر في وقت مبكر من العام 2012, فقد حلل آلان جوكسي بدقة متناهية جميع أبعاد الإمبراطورية العالمية لليبرالية الجديدة، التي تتجاوز الإمبراطورية الأمريكية التي

تهدف إلى عولمة الاقتصاد والتمويل وتجميع أرباح غير محدودة، لإثراء الأغنياء، وإفقار الفقراء.

وهكذا فإن الريع الجديد الذي لم يتم تأميمه قد يكرس سيادة الشركات على حساب الوظيفة الوقائية للدول.

أدى هذا التغيير السياسي العميق إلى تحويل البعثات العسكرية إلى مذاهب للشرطة, كما أن إنشاء ترسانة إعلامية جديدة بدأت بظهور (طائرات بدون طيار وذخائر خاصة)، يمكن استخدامها ضد الانتفاضات الشعبية في بلدان الجنوب والشمال.

كما أظهر كتاب آلان جوكسي كيف أدت “الثورة الإلكترونية” إلى كل من الإدارة المعلوماتية لـ “الأسواق”، وإضفاء الطابع ألالكتروني على الحروب وخصخصتها.

تتجمع التغيرات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية في إطار تسريع القرارات التي تمحو الزمن الطويل للسياسة وتصنع نظاماً غير قادر على تنظيم التمويل والعنف على حد سواء.

أكد برودون أن “الملكية هي السرقة” واليوم يمكننا أن نقول أن: “الخصخصة هي أيضاً السرقة”.

إن خصخصة الحرب تقلل من هذا المنطق إلى ما لا نهاية من خلال جذور الرأسمالية العسكرية التي تضع الآن القواعد المعاصرة:

“حرب الجميع ضد الجميع” وبكل الوسائل، ” الحرب خارج الحدود “، يعتبر تماما كما وصفه دليل اثنين من الضباط برتبة كولونيل من القوات الجوية الصينية في العام 1973.

إن المجمع العسكري الصناعي للولايات المتحدة الأمريكية والذي يعمل فيه الملايين من الموظفين والمقاولين من الباطن في حاجة بصورة دائمة إلى حروب جديدة “خارج الحدود” لضمان بقائها وتواترها.

وبحسب فريق ترامب، يجب أن تفرض خصخصة الحروب الأهلية الشاملة في العراق وكذلك تلك الموجودة في أفغانستان وسوريا واليمن ودول الساحل وليبيا، نفسها على منطقة الشرق الأدنى والشرق الأوسط بأكمله.

وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تتمتع بالاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة، بدأت بفك الارتباط العسكري الرسمي من أجل الاستعانة بمصادر خارجية لتدخلاتها الخاصة في المنطقة مع حلف شمال الأطلسي الذي سيصبح حلفاً أطلسياً شرق أوسطياً!

ومن المظاهر الأخرى لخصخصة الرأسمالية العسكرية معرفة أن وظيفة حلف شمال الأطلسي هي، قبل كل شيء، فرض المعدات الأميركية على الجيوش البديلة للدول الأوروبية بما في ذلك تركيا.

لا يمكن استنساخ هذه الآلية الشريرة وتبرر عقلانياتها التكنولوجية والتجارية والجيوسياسية وحدها.

كما أنه يتطلب بعداً دينياً مسيحياً بصورة صحيحه، كما رسم ماكس فيبر ببراعة في مقاله “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” في وقت مبكر من العام 1904-1905, فما هو جيد للولايات المتحدة هو جيد للبشرية بأسرها !

مع القديس ترامب، نصلي لعودة المسيح:

إن البعد الديني والمسيحى للحروب الأمريكية موجود، في الواقع!

نتذكر جورج دبليو بوش عندما تم تصويره وهو يصلي في المكتب البيضاوي وسط موظفيه, واليوم، أصبح الأمر أكثر خطورة بكثير.

فهذا الجنون الديني لم يعد بالضرورة يظهر أمام عدسات الكاميرات! لكن صانعي القرار الرئيسيين في فريق ترامب لم يعودوا يخفون انتمائهم إلى التيار “الإنجيلي”. جنون هائج!!!

كما أن هناك شبكة إعلامية تقوم بتبرير جميع أنواع الحروب تحت مسمى الدوافع الدينية، إن لم تكن مسيحية, وفي هذا الصدد، ينبغي للمرء التمعن عند قراءة المنشورات والمقالات الممتازة والتي لا غنى عنها لجون ف. ويتبيك.

من هم هؤلاء “الإنجيليون”؟ طائفة تعود أصولها إلى الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر وما يسمى بحركات “الصحوة” التي تلت ذلك.

يتقاسم المسيحيون الإنجيليون الأهمية التي يُبَدونها على التحوّل الفردي كمسألة اختيار شخصي بعد “اللقاء مع المسيح”, حيث أن معظمهم من المؤيدين، إن لم يكن للصهيونية المتطرفة، فهم مقتنعون بأنهم سوف يتمكنون من تحقيق تحويل شامل لليهود من أجل تشجيع عودة المسيح.

ففي فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أصبح هناك اتجاه قوي جداً في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال ما يسمى بحركة “اليهودية المسيحية”, حيث يقدم أتباعه أنفسهم على أنهم يهود يؤكدون رسالة يهوذا (يسوع).

الفرقة الأكثر شهرة تسمى “يهود من أجل يسوع”, يتم تجميع معظم المجتمعات اليهود المسيح في التحالف اليهودي المسيحي الدولي، ومقرها في الولايات المتحدة الأمريكية, في حين أن الفرع الفرنسي من التحالف يعرف باسم (التحالف الفرنكوفوني لليهود المسحيين), واليوم تشكل هذه الشريحة المتميزة 24% من ناخبي دونالد ترامب.

من ريغان إلى بوش الابن، صوت الإنجيليون بأغلبية ساحقة لصالح الحزب الجمهوري, ففي العام 2016, وبفضل جيري فالويل جونيور – رئيس جامعة الحرية الإنجيلية والمقرب من دونالد ترامب- تم إقامة تحالف بين المرشح الجمهوري والمسيحيين الإنجيليين.

وفي المقابل نتج عن هذا التحالف أن صوت معظم هؤلاء الناخبين البيض لصالح دونالد ترامب بنسبة بلغت 81 ٪  مقارنة بـ 16 ٪ لصالح هيلاري كلينتون.

في يناير من العام المنصرم، في القاهرة، وفي إطار جولته في منطقة الشرق الأوسط والخليج، أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الذي تم تعيينه في 13 مارس 2018 ليحل محل لريكس تيلرسون امام الملأ أنه ” مسيحي إنجيلي “.

وعلى غرار نائب الرئيس مايك بنس، يرى مايك بومبيو أن الأيديولوجية الإنجيلية مصدر أساسي للإلهام.

وفي منتصف المدة، أصبحت مسألة تأثير الإنجيليين المحافظين أكثر أهمية، نظراً لأن  البقاء السياسي للرئيس ترامب يعتمد عليهم أكثر فأكثر.

ومع اقتراب موعد الانتخابات النصفية، أكد الإنجيليين في أكتوبر من العام 2018 دعمهم لدونالد ترامب، على الرغم من بعض بوادر التآكل التي بدأت بظهور بين الأوساط النسائية.

أظهر استطلاع للرأي نشره “معهد أبحاث الدين العام” في أوائل أكتوبر من العام المنصرم, أن 72٪ من البروتستانت الإنجيليين يحملون أراء إيجابية تجاه دونالد ترامب.

وفي البرازيل، أيد هؤلاء الإنجيليون أنفسهم انتخاب الفاشي جير بولسونارو، تحت مبرر تحالف من “التطرف الديني مع رؤية استبدادية وشمولية للعالم”, باختصار, للتعجيل بعودة المسيح، دعونا نصلي للقديس ترامب.

* المقال تم ترجمته حرفياً من المصدر وبالضرورة لا يعبر عن رأي الموقع.