ولي نصر*
إن الشرق الأوسط العربي ضعيف للغاية ومنقسّم بحيث لا يدعم استراتيجية إدارة ترامب لاحتواء طموحات إيران.
كتب البروفسير ولي نصر، الباحث الأميركي في شؤون الشرق الأوسط، مقالة في صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية تناول فيها التوتر الأميركي – الإيراني في المنطقة ومساعي واشنطن لاحتواء إيران.
وقال نصر إنه في التصعيد السريع للتوترات والهجمات بين الولايات المتحدة وإيران هذا الشهر، حدد وزير الخارجية الأميركي مايكل بومبيو هدف أميركا بأنه “مواجهة واحتواء” الجمهورية الإسلامية. وقال حكام إيران إنهم لن يكونوا راضين حتى تغادر أميركا الشرق الأوسط.
وأضاف أن مواجهة واحتواء إيران قد تبدو فكرة حكيمة. لكن ما لم ينجح في الماضي لن ينجح هذه المرة. إذ يواجه الرئيس ترامب شرق أوسط مختلفاً تماماً عن الشرق الأوسط الذي تصارع أسلافه معه. وتابع قائلاً: “لعقود من الزمن، نجح الاحتواء في إبقاء إيران الثورية في مأزق لأن الولايات المتحدة كان يمكن أن تعتمد على سلسلة من الديكتاتوريات العربية القوية. ولكن بعد ذلك غزت الولايات المتحدة العراق وأزاحت صدام حسين من السلطة، الذي اعتمد عليه العالم العربي لكبح جماح إيران. واليوم، لم تقم أميركا بعد ببناء تحالف مستقر مع العراق الجديد، وما زالت مصر تلعق جراحها من الآثار المريرة لربيع عام 2011، وسوريا، وهي العملاق العربي الثالث، أصبحت دولة بالاسم فقط”.
لذا اختار السيد ترامب أن يتطلع إلى المملكة العربية السعودية ولإمارات الخليج الفارسي، التي عانت أقل (من الربيع العربي)، كي تحافظ على النظام القديم. لكن تلك الملكيات تحتاج إلى علاقات مع الدول العربية الكبرى، التي تعاني الآن من الفوضى. من دونها، تفتقر الملكية إلى القوة العسكرية لمساعدة أميركا على مواصلة صراعها المستمر منذ عقود مع إيران، ناهيك عن صد نفوذ طهران الإقليمي واحتوائه بنجاح. على سبيل المثال، تحولت المحاولة التي تقودها السعودية للتغلب على النفوذ الإيراني المتنامي في اليمن إلى مستنقع مكّن إيران من الحصول على موطئ قدم في شبه الجزيرة العربية.
إضافة إلى ذلك، فإن دول الخليج الفارسي التي تعتبرها أميركا خط الجبهة للاحتواء ليست موحدة ضد إيران. السعودية والإمارات العربية المتحدة تخوضان معارك مع قطر، التي فتحت شقوقاً بين ممالك الخليج، وقسّمت السنة في المنطقة وقوّضت أمل أميركا في أن تتحد ضد إيران الشيعية. إن مجلس التعاون الخليجي، الذي ساعدت أميركا في إنشائه كحصن إقليمي ضد إيران، موجود الآن بالاسم فقط. لا يزال المجلس متمسكاً بالحصار الذي تفرضه السعودية على قطر، جاعلاً عُمان والكويت تريان السعودية، وليس إيران، التهديد الأكثر إلحاحاً لهما. بالنسبة لقطر وعُمان والكويت، تعد إيران ثقل موازن ضروري لحمايتها من العبء الثقيل السعودي.
يمكن للممالك – السعودية وقطر وعُمان والكويت والإمارات – أن تقدم لأميركا قواعد عسكرية، ولكن كما أوضح الهجوم الذي شنته الطائرات بدون طيار على منشآت النفط السعودية بشكل واضح، فإن الأنظمة الملكية وحدها لا تضاهي إيران. كما أن هذه الملكيات، التي تشعر بالقلق من تكلفة الحرب على اقتصاداتها، قد باشرت في التحوط على رهاناتها. دولة الإمارات فتحت قنوات اتصال مع إيران من أجل تخفيف التوترات. ووفقاً لرئيس وزراء العراق، عادل عبد المهدي، فإن اللواء قاسم سليماني، قائد “قوة القدس” في “حرس الثورة “، عندما قتل في العراق بواسطة طائرة أميركية بدون طيار، كان يحمل رد إيران على رسالة من السعودية أرسلت إليها بواسطة عبد المهدي.
ستدعم الحكومات الملكية العربية الضغط الأميركي على إيران، لكنها ستتطلع أيضاً إلى تصعيد التوترات الخاصة بها مع طهران، من خلال ثقب فجوات في أي احتواء يتصور الأميركيون.
بدورها، إيران ليست التحدي نفسه الذي واجهه الاستراتيجيون الأميركيون خلال فترة الاحتواء. صحيح أن الأيديولوجيا الثورية الإيرانية أصبحت الآن مجوفة في الداخل، حيث سئم الإيرانيون من القمع والصعوبات الاقتصادية والعزلة الدولية. لهذا السبب تبنوا الاتفاق النووي لعام 2015 كبداية لنهاية النظام القديم. وفي الآونة الأخيرة، خرجوا إلى الشوارع مطالبين بالتغيير. وربما يكون ذلك قد أقنع واشنطن بأن “الجمهورية الإسلامية” تتأرجح، وأن المزيد من الضغوط يمكن أن تسقطها. لكن الدولة الإيرانية ليست ضعيفة كما تشير تقديرات واشنطن، ومقتل الجنرال سليماني عزز فقط حكام إيران. لقد رأوا الحشود الهائلة التي تجمعوا حداداً على الجنرال باعتباره تفويضاً، مما منحهم الثقة في قدرتهم على مواجهة الولايات المتحدة.
لم يدرك الرئيس ترامب تماماً أن موقف إيران في المنطقة أقوى اليوم مما كان عليه عندما بدأت الولايات المتحدة في احتواء تهديدها. لإيران علاقات ثقافية عميقة مع المسلمين الشيعة في المنطقة، الذين يتطلعون إلى طهران للحصول على الدعم عندما يصلون إلى السلطة في النظام الإقليمي الجديد. لقد اعتمدت إيران منذ فترة طويلة على شبكة من الميليشيات والعملاء في جميع أنحاء المنطقة لدرء الضغوط الأميركية.
وبالإضافة إلى ذلك، وحيث أن الشرق الأوسط العربي قد انهار، تحولت الميزة العسكرية إلى المنظمات الإرهابية والميليشيات التي يمكنها شن الحروب الأهلية وحركات التمرد، وبعيداً عن القوات التقليدية المدربة على كسب المعارك بين الجيوش القائمة. وقد أفاد ذلك إيران من خلال السماح لها بإجراء استثمارات إستراتيجية في الميليشيات وإجراء حروب بالوكالة في العراق وسوريا واليمن.
وفي تطور آخر، أهدر الرئيس ترامب عام 2018 انتصار أميركا في احتواء طموحات إيران النووية عندما سحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المتعدد الأطراف الذي تم توقيعه مع إيران في عام 2015. والآن، تعود إيران إلى برنامجها النووي، وكانت تستثمر أيضاً بشكل كبير في الصواريخ والطائرات بدون طيار وقدرات الإنترنت. وفي الآونة الأخيرة، كان من الواضح أن إسقاط إيران لطائرة أميركية بدون طيار والهجمات على منشآت النفط في المملكة العربية السعودية كان بمثابة إشارة إلى أميركا بأن إيران لا تزال لديها أسهم في جعبتها.
الاحتجاجات الأخيرة المناهضة لإيران في العراق ولبنان قد كشفت عن تصدعات في إستراتيجية إيران الإقليمية. لكن مقتل الجنرال سليماني ساعد إيران على استعادة مكانتها في العراق، وصرف الانتباه عن سعي إيران للحصول على مزيد من القوة الإقليمية وركز حماس الرأي العام على السلوك الأميركي.
بالنسبة لحكام إيران، الذين يخشون تهديداً وجودياً من الولايات المتحدة، قد يكون القتال بلا نهاية صحيحاً، على الأرجح في شكل تحريض على التمرد في جميع أنحاء المنطقة، وليس على شكل حرب عامة. إن قرار أمريكا بقتل الجنرال سليماني في العراق قد أعطى إيران بالفعل فرصة، كما يتبين من غضب البرلمان العراقي من أن أميركا قد اختارت تسجيل انتصار على إيران على الأراضي العراقية.
إذا نظرنا إلى الأمام، إليك ما يمكن أن نتوقعه من إيران: فهي ترى الآن أميركا تهديداً أكبر من أي درجة من الفوضى الإقليمية. بالنسبة لإيران، حتى شبح “داعش” و”طالبان” وهما يسيطران على أجزاء كبيرة من الشرق الأوسط وجنوب آسيا لا يبدوان سيئين للغاية بالمقارنة مع تهديد الولايات المتحدة. لذلك إذا بقيت أميركا في المنطقة، فسيتعين عليها مواجهة عدم الاستقرار والحروب بالوكالة والإرهاب واللاجئين والأزمات السياسية في مناطق شاسعة من أفغانستان إلى بلاد الشام.
لمواجهة إيران واحتوائها الآن، سيتعين على الولايات المتحدة إعادة القوة والاستقرار إلى العالم العربي. لقد أدرك الرئيس باراك أوباما أنه من الحكمة تخفيف التوترات مع إيران أكثر من محاولة محاربتها في عالم عربي محطم. إذا تصاعد النزاع وخرج عن السيطرة، فقد يعني ذلك حرباً أخرى لا نهاية لها، هذه المرة مع بلد يقطنه 80 مليون نسمة، غاضب وموحد.
قد يرى الرئيس ترامب وحلفاؤه لعبة حافة الهاوية كانتصار، لكنها ستثبت أنها لعبة مكلفة جداً. لأي استراتيجية ستستمر، يجب على السيد ترامب أن ينظر إلى ما وراء “المواجهة والاحتواء”، خشية أن يغرق أميركا في مستنقع جديد في الشرق الأوسط.

*ولي نصر أستاذ دراسات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية في جامعة جون هوبكينز للدراسات الدولية.
* ترجمة: هيثم مزاحم
* الميادين نت
* تم نقل المقالة حرفيا من المصدر ولا يعبّر بالضرورة عن رأي الموقع