مبارك حزام العسالي*


وقف اليمن، ومعه شعوب حرة أُخرى، ليقول للعالم: إن فلسطين لن تُترك عزلاء في مواجهة الثعلب النووي. يُراد من "منزوع السلاح" ضمانًا للكيان الصهيوني بأن لا ينهض الفلسطيني يومًا بانتفاضة أَو مقاومة استباحة


من يتأمل الطروحات التي تُسوَّق اليوم تحت عناوين "حل الدولتين" و"التسوية التاريخية" يدرك أن الأمر ليس سوى وصفة جديدة لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الشعب الفلسطيني، وإعطاء شرعية متجددة للكيان الصهيوني.

إن الحديث عن "دولة فلسطينية" منزوعة السلاح بجوار كيان يمتلك ترسانة نووية متكاملة، يشبه تمامًا أن تضع دجاجة إلى جانب ثعلب في قفص واحد، ثم تُطالب الدجاجة بأن تثق في "الضمانات الدولية"!

هذا الطرح ليس بريئًا، ولا يمكن قراءته بمعزل عن ميزان القوى غير المتكافئ.

فالفلسطيني الذي حُرم من أرضه، وشُرّد من وطنه، ويُحاصر في غزة ويُقتل في الضفة، يُطلب منه أن يقبل بدولة ممسوخة، بلا سيادة، بلا جيش، بلا سلاح، وبلا حق حقيقي في الدفاع عن النفس.

بينما يُترك للكيان الصهيوني كامل ترسانته النووية والصاروخية، وطائراته الحربية، وأجهزته الاستخباراتية، ليظل المتحكم الفعلي في رقاب الناس وأرضهم وحدودهم ومقدساتهم.

إن المطالبة بتجريد الفلسطيني من السلاح تعني في جوهرها المطالبة بتجريد الضحية من حقها في الحماية، والإبقاء على الجلاد متسلحًا بكل أدوات البطش.

وهذا منطق مقلوب يتعارض مع أبسط مبادئ العدالة، بل يتناقض مع نصوص القانون الدولي ذاته الذي يقر بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال بكافة الوسائل المشروعة.

لقد أثبتت التجارب أن أي "سلام" يُبنى على اختلال القوة مصيره الانهيار.

فما معنى أن يعيش الفلسطيني في دولة مُعلّبة بحدود مرسومة على الورق، بينما المجال الجوي تحت سيطرة الصهاينة، والبحر مرهون بقطعان الأساطيل، والمعابر بيد الاحتلال؟ إنها ليست دولة بل كانتونات محاصرة، أشبه بمخيم كبير تحت لافتة "الاستقلال".

يُراد من "منزوع السلاح" أن يكون ضمانًا للكيان الصهيوني بأن لا ينهض الفلسطيني يومًا بانتفاضة أَو مقاومة.

ويُراد من "التجريد" أن يصبح الأمن الفلسطيني مرهونًا برضا العدوّ، تمامًا كما يُراد للفلسطيني أن يأكل ويشرب بإذن من المحتلّ، وأن يتنفس في مساحة ضيقة مرسومة وفق هوى الغاصب.

إن أخطر ما في الأمر أن هذه الطروحات تأتي برعاية أمريكية وأُورُوبية، وتُمرّر عبر قنوات عربية رسمية تطبّع وتسوّق الوهم للشارع.

يُقال للفلسطيني: "خذ دولةً بلا سلاح.. مقابل أن نعترف بك".

بينما الحقيقة أن الاعتراف الذي يُطلب منه هو أن يعترف بشرعية وجود الكيان الغاصب فوق أرضه المسلوبة.

المعادلة شديدة الانحياز: دولة صهيونية مسلّحة حتى أسنانها، تملك القنبلة النووية، وتتحَرّك بحرية في سماء المنطقة وبحارها، وإلى جانبها دولة فلسطينية عزلاء، ممنوعة من امتلاك بندقية أَو حتى رصاصة.

فأي عدل هذا؟ وأي مستقبل يُراد للشعب الفلسطيني سوى الاستسلام تحت لافتة "السلام"؟

إن ما يُطرح اليوم ليس حلًّا، بل فخًّا سياسيًّا.

يُراد للفلسطيني أن يوقَّعَ بيده على وثيقة استسلام، وأن يُجرّد من كُـلّ أسباب القوة.

لكن التاريخ علّمنا أن الشعوب لا تُهزم بالقوة وحدها، وأن إرادَة المقاومة قادرة على قلب المعادلات مهما كانت الفوارق في السلاح والعتاد.

لقد وقف اليمن، ومعه شعوب حرة أُخرى، ليقول للعالم: إن فلسطين لن تُترك عزلاء في مواجهة الثعلب النووي.

فكما أسقطت غزة أُسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، وكما أربكت عمليات المقاومة في الضفة المحتلّ وأجهزة استخباراته، وكما أثبتت صواريخ اليمن أن ظهر الأُمَّــة لم يُكسر بعد، فَــإنَّ كُـلّ محاولة لتصفية القضية لن تمر بسهولة.

ولعل أبلغ رسالة يمكن أن نوجهها اليوم هي أن الدولة الفلسطينية لن تكون منزوعة السلاح؛ لأَنَّ السلاح بالنسبة للفلسطيني ليس مُجَـرّد قطعة حديد، بل هو عنوان وجود وكرامة ووسيلة بقاء.

وأمة بلا مقاومة أُمَّـة عارية أمام الذئاب.

ختامًا.. إن الدعوة إلى "دولة فلسطينية منزوعة السلاح" ليست إلا خدعة سياسية تُراد منها شرعنة تفوق العدوّ وضمان استمراره، فيما يُدفَع الفلسطيني إلى قفص بلا حماية.

ومن يقبل بهذا الطرح إنما يضع الدجاجة في مواجهة الثعلب ويطلب منها أن تغني نشيد السلام!

* المقال يعبر عن رأي الكاتب
* المسيرة نت