السياسية || محمد محسن الجوهري*

لم يكن البحر الأحمر مجرد خط تجاري عادي، بل كان عبر التاريخ شريانًا استراتيجيًا للتجارة العالمية، ومنه عبَر الغزاة والطامعون كما عبر التجار والحضارات. لكن منذ أواخر 2023، تحوّل هذا البحر إلى ساحة مواجهة مفتوحة، حينما قرر اليمنيون أن يجعلوا من مياهه خط صدّ في وجه الكيان الصهيوني، وأن يفرضوا معادلة جديدة عنوانها: لا أمن للملاحة الصهيونية ما دام العدوان على غزة مستمرًا.

قبل طوفان الأقصى، ولسنوات طويلة، بنت "إسرائيل" شبكة مصالح اقتصادية مع أفريقيا، سعت من خلالها إلى التغلغل في القارة تحت عناوين زراعية وتقنية وأمنية. وبلغ حجم التبادل التجاري مع أفريقيا نحو ملياري دولار عام 2018، معظمها مع شرق القارة. وقد اعتمدت تل أبيب في ذلك على سهولة مرور السفن عبر باب المندب وقناة السويس، حيث كان ميناء إيلات يمثل بوابة رئيسية نحو الأسواق الأفريقية. بكلفة شحن منخفضة وزمن قصير، وجدت "إسرائيل" في البحر الأحمر نعمة استراتيجية، تستغلها لتعزيز نفوذها.

ما إن أعلن اليمنيون بدء عملياتهم البحرية في نوفمبر 2023، حتى انقلبت الطاولة. عشرات السفن المرتبطة بـ"إسرائيل" أو المتجهة إليها تحولت إلى أهداف مشروعة، وبدأت الضربات الصاروخية والمسيّرات تُربك أكبر شركات الشحن الصهيونية. النتيجة كانت واضحة: أكثر من 80% من حركة الحاويات عبر البحر الأحمر توقفت خلال أشهر قليلة، وآلاف السفن المتجهة للكيان اضطرت إلى الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، بهذه الخطوة، تمكنت صنعاء من نقل المعركة إلى قلب الاقتصاد الصهيوني، دون الحاجة إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع الأساطيل. فالمعادلة الجديدة تقول: أي سفينة تمرّ نحو العدو أو لصالحه ستدفع الثمن غالياً، وأي خط بحري يمدّ الكيان بالحياة سيتحول إلى نقطة ضعف.

ومن نتائج الهجمات اليمنية ما أصاب ميناء إيلات، الذي كان يستقبل البضائع القادمة من آسيا والمتجهة إلى أفريقيا، فقد أصيب بالشلل شبه التام. فشركات الشحن الكبرى أعلنت وقف خدماتها، والعدو وجد نفسه عاجزًا عن استخدام أقرب الطرق وأكثرها فاعلية، فلالتفاف حول رأس الرجاء الصالح أضاف أسابيع إلى زمن الرحلة، ورفع التكلفة بملايين الدولارات لكل سفينة. إلى جانب ذلك، ارتفعت أقساط التأمين البحري تحت بند "مخاطر الحرب"، حتى بات المرور عبر البحر الأحمر مخاطرة لا تُحتمل تجاريًا. هذه الزيادة انعكست مباشرة على أسعار السلع الإسرائيلية في أفريقيا، لتفقد كثيرًا من قدرتها التنافسية أمام البدائل الآسيوية والأوروبية.

هنا "إسرائيل"، التي كانت تفاخر بقدرتها على تصدير التكنولوجيا الزراعية ومنتجاتها الصناعية، وجدت نفسها عاجزة عن الوفاء بالمواعيد. فالتأخير أو فقدان الشحنات جعل العملاء في أفريقيا يبحثون عن شركاء أكثر موثوقية. وهكذا ضربت الهجمات اليمنية ليس فقط خطوط الملاحة بل ثقة الشركاء الأفارقة بالكيان نفسه، كما أن هذه الهجمات كشفت للأفارقة هشاشة الشراكة مع "إسرائيل"، وأن الاعتماد عليها في التوريد يحمل مخاطر استراتيجية، وأصبح الحضور الإسرائيلي في القارة موضع شك.

لقد أثبت اليمنيون أن البحر الأحمر ورقة قوة قادرة على خنق الاقتصاد الصهيوني، وأن البندقية لا تحتاج دائمًا إلى مواجهة مباشرة إذا كان بالإمكان ضرب العدو في عصب حياته الاقتصادية. ففي الوقت الذي يحاول فيه الكيان الإسرائيلي توسيع نفوذه في أفريقيا، جاءت هذه الهجمات لتضع له حدًا وتذكّره بأن لا تجارة آمنة ولا مصالح مستقرة وهو يواصل جرائمه بحق الشعب الفلسطيني. وهكذا تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة مواجهة جديدة تثبت أن المقاومة قادرة على قلب موازين القوى بأدوات ذكية وبأقل التكاليف.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب