كيان الأسدي*


مع كل دورة انتخابية يعيش العراق حالة من التوتر السياسي والجدل الشعبي، إذ لا تقتصر الانتخابات على كونها ممارسة ديمقراطية محلية، بل تتحول إلى ساحة يتقاطع فيها الإقليمي والدولي، وتُستَخدم كأداة للتأثير في مستقبل البلاد. الولايات المتحدة، منذ عام 2003، لم تتعامل مع العراق كدولة ذات سيادة كاملة، بل كساحة نفوذ مفتوحة يمكن التحكم بمساراتها من خلال صناديق الاقتراع، والتحالفات السياسية، والأدوات الإعلامية، وحتى الشارع الاحتجاجي.


أولاً: الانتخابات العراقية بين الحق الديمقراطي والرهان الدولي

منذ سقوط النظام السابق عام 2003، لم تكن الانتخابات في العراق يوماً شأناً داخلياً بحتاً. فالقوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تعاملت مع كل استحقاق انتخابي باعتباره فرصة لإعادة إنتاج التوازنات بما يخدم مصالحها. وفي كل دورة انتخابية، تبرز بوادر التدخلات الخارجية عبر دعم بعض القوى وتمويل الحملات الإعلامية وتوجيه الرأي العام.



ثانياً: الطائفية كسلاح انتخابي

لقد تحولت الطائفية في العراق إلى أداة لإدارة المشهد الانتخابي، حيث يتم استحضار خطاب الانقسام بين السنة والشيعة والأكراد كلما اقترب موعد الاستحقاق الانتخابي. هذا النمط من التحشيد لا يهدف إلى تعزيز المشاركة بقدر ما يراد منه إبقاء البلاد في حالة صراع دائم. وهو ما يخدم مشروع واشنطن التي ترى في الانقسام الداخلي ضمانة لبقاء العراق ضعيفاً ومفتتاً.



ثالثاً: البعد الإقليمي – من الشام إلى بابل

ما يجري في سوريا ولبنان واليمن وفلسطين له انعكاسات مباشرة على العراق. فالوجود الإسرائيلي في سوريا ليس منفصلاً عن المشهد العراقي، بل يُراد منه تعبيد الطريق الى بغداد وطهران. إنّ الاستقرار في العراق يعني بالضرورة تقوية محور المقاومة، ولذلك تحرص واشنطن وتل أبيب على إبقاء العراق ساحة مشتعلة تمنع أي تراكم للقوة الوطنية فيه.



رابعاً: استغلال البيئة الداخلية – العصيان المدني نموذجاً

تُستخدم الاحتجاجات الشعبية كمدخل للتأثير في المشهد السياسي العراقي. ومع أنّ المطالب المرفوعة في كثير من الأحيان مشروعة، إلا أنّ توظيفها الخارجي يجعلها تنحرف عن مسارها. الولايات المتحدة تسعى إلى استثمار هذه الحركات الشعبية لتهيئة انقلاب ناعم، ينطلق من الداخل ليحصل لاحقاً على غطاء خارجي. وما جرى في 2019، حين ظهر ما عُرف بالطرف الثالث، يُعد أوضح مثال.



خامساً: مشاريع التقسيم – الإقليم السني والإقليم الكردي

تتكرر الدعوات إلى إنشاء إقليم سني في كل أزمة سياسية، بينما يستخدم الإقليم الكردي كورقة ضغط دائمة. في المقابل، يتم استهداف المحافظات الوسطى والجنوبية عبر الدعوة إلى المقاطعة والتظاهر. هذه المشاريع ليست سوى أدوات لتفتيت العراق وضمان عدم قيام دولة مركزية قوية، بما يتوافق مع المخطط الأميركي الإسرائيلي.



سادساً: الأبعاد القانونية والدستورية

تستغل الولايات المتحدة ثغرات الدستور العراقي الذي كُتب في مرحلة الاحتلال، والذي أرسى مبدأ المحاصصة الطائفية. هذا الدستور فتح الباب أمام الأقاليم واللامركزية المفرطة، ما جعل فكرة تقسيم العراق أمراً ممكناً على المستوى القانوني. كما أن النظام الانتخابي القائم يتيح إعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها، ويجعل من التدخل الخارجي أمراً سهلاً عبر التمويل والتحالفات.



سابعاً: البعد الأمني والاستخباري

السفارة الأميركية في بغداد ليست بعثة دبلوماسية اعتيادية، بل مركز عمليات متكامل يضم أجهزة استخبارية تعمل على التأثير المباشر في القرار السياسي والأمني. ما يُعرف بالطرف الثالث في التظاهرات دليل واضح على وجود أدوات أمنية تتحرك لإشعال الفوضى وتحويل أي حراك شعبي إلى منصة للفوضى الموجهة.



ثامناً: دروس الماضي – تجربة عبد المهدي

التجربة التي شهدها العراق في 2019 مع حكومة السيد عادل عبد المهدي، كشفت كيف يمكن أن تتحول التظاهرات الشعبية إلى وسيلة لإسقاط حكومة عبر تدخل خارجي منظم. وقد أثبتت الوقائع أن السفارة الأميركية لعبت دوراً محورياً في إدارة المشهد، تحت غطاء المطالب الإصلاحية. هذا الدرس يجب أن يبقى حاضراً في أذهان القوى السياسية عند كل استحقاق انتخابي.



تاسعاً: مسؤولية القوى السياسية

القوى السياسية العراقية مطالبة اليوم بوضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. الانخراط في صراعات داخلية ضيقة أو الانجرار خلف الخطاب الطائفي، لن يؤدي سوى إلى فتح المجال أمام المشاريع الخارجية. الانتخابات يجب أن تكون فرصة لبناء الدولة وتعزيز السيادة، لا مناسبة لتكريس الانقسام.



وما بين الوعي والمصير

الاستحقاق الانتخابي في العراق ليس مجرد عملية ديمقراطية، بل معركة سيادية تحدد مستقبل البلاد. فإما أن ينجح العراقيون في تحويله إلى مناسبة لترسيخ الاستقرار والسيادة، أو يسمحوا بتحويله إلى أداة بيد الولايات المتحدة لتنفيذ مشاريعها. إنّ الوعي بخطورة المرحلة، والتصرف وفق مقتضيات المصلحة العليا، هما الضمانة الوحيدة لعدم تكرار تجارب الماضي المريرة.



* كاتب وباحث بالشأن العراقي والإقليمي
* المقال يعبر عن رأي الكاتب