النبي في القرآن.. منزلة الرسول الأعظم والقائد القدوة
السياسية || محمد محسن الجوهري*
جاء القرآن الكريم ليشهد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعظيم مقامه ورفعة شأنه، فكل صفحة فيه تحمل من نور الثناء عليه ما يبين منزلته عند الله، ويؤكد أن رسالته رحمة للبشرية كلها، وأن طاعته من طاعة الله نفسه.
لقد رفع الله شأنه وجعل ذكره مقرونًا بذكره، فقال جل شأنه: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4]، فكلما أذّن مؤذن بكلمة التوحيد، علت معها شهادة أن محمدًا رسول الله، فلا يُذكر الله إلا ويُذكر معه نبيه المصطفى، وهذه رفعة لا تنقطع ما دامت السماوات والأرض. ثم زكّى الله أخلاقه العطرة فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، لتكون أخلاقه حجةً على البشرية كلها، ومنارًا للمؤمنين في سلوكهم ومعاملاتهم.
كما أبرز القرآن الكريم جانب الرحمة والرأفة في شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل رسالته عنوانًا للرحمة العامة، لا تخص قومًا دون قوم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، ووصفه بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
أما مكانته بين الأنبياء والمرسلين، فقد أظهرها الله بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ... لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: 81]. أي أن جميع الأنبياء مأمورون بالإيمان به ونصرته لو أدركوا زمانه، وما ذلك إلا إشارة إلى أنه خاتمهم وأكملهم وأشرفهم. وزاده الله شرفًا بأن وعده بالمقام المحمود يوم القيامة، فقال: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79]، وهو مقام الشفاعة العظمى حين يفزع الناس إلى الأنبياء واحدًا تلو الآخر، فيعتذرون جميعًا، حتى يقفوا بين يدي الحبيب المصطفى، فيقول: "أنا لها"، فيشفع عند ربه وتُرفع درجته فوق العالمين.
ثم جعل الله طاعته من طاعته، فقال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80]، وأمر المؤمنين بتوقيره وتعظيمه، فقال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: 8-9]. فالإيمان به ليس مجرد كلمة، بل هو طاعةٌ وتوقيرٌ وتعظيمٌ ونصرةٌ لرسالة الحق التي جاء بها.
ومع عظمته ورأفته بالمؤمنين، كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، القائد العسكري العظيم الحامي للمسلمين من كل أشكال المخاطر، والمتنبه للتهديدات قبل أن تتعاظم، أول ما يلفت النظر في هذا الجانب هو دوره في تحريض المؤمنين على القتال وشحذ هممهم، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ [الأنفال: 65]. فهي دعوة واضحة إلى أن القيادة لا تكون بالكلمة فحسب، بل بالتحفيز والقدوة والروح التي ينفخها القائد في جنوده.
ولأن القيادة العسكرية تقوم على النظام والطاعة، شدّد القرآن على وجوب طاعة النبي والانضباط تحت رايته، فقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]. فالطاعة هنا ليست خيارًا، بل هي أساس وحدة الصف وقوة الجيش.
كما تحدث القرآن عن ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصبره في المواقف الحرجة، خصوصًا في غزوة حنين، حين تراجع كثير من الصحابة، فبقي ثابتًا شامخًا، فنزل عليه التأييد الإلهي: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ... ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 25-26]. وهذه شهادة قرآنية على شجاعة النبي ﷺ ورباطة جأشه، وأنه كان في مقدمة الصفوف يقود أصحابه.
أما فيما يخص أهل الكتاب، وخاصة اليهود، فقد كانت مواقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عظيمة تعكس مدى قوته وحكمته وفطنته، وسرعة تحركه قبل أن تتعاظم مؤامراتهم. فقد أظهر القرآن الكريم والسيرة النبوية كيف كان دهاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوده إلى إحباط مشاريعهم قبل أن تتبلور على الأرض، بحيث عجزوا عن تحقيق ولو جزء يسير مما يسعون إليه اليوم، ولولا حكمته وقيادته الاستباقية لكانت النتيجة كارثية على الأمة. وتظهر هذه القدرة في صورها العملية من خلال انتصاراته على المجاميع اليهودية المحيطة بالمدينة المنورة ودرء شرورهم قبل أن تصل مؤامراتهم إلى مراحل متقدمة، فتثبت أن التحرك المبكر كان دائمًا سببًا في حفظ الأمة وأمنها.
كما يبرز تحركه صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك بعد نظره العميق في طبيعة التهديد الغربي، وأوضح أن مواجهتهم في معاقلهم هي الوسيلة الأنسب للحد من شرورهم، وأن الانتصار المبكر واليقظة الاستراتيجية هما السبيل لإحباط أي مؤامرة قبل أن تتجسد على الأرض. ولولا اتباع الأمة سنته صلى الله عليه وآله وسلم في مواجهة أهل الكتاب والتحرك الاستباقي، لما شهد العالم لاحقًا مرحلة الغزو الصليبي، ولا الاستعمار الأوروبي، ولا الجرائم التي ارتكبت بحق العرب والأفارقة وسكان الأميركيتين، ولربما كان العالم يعيش في سلام دائم كما كان الحال أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإن هيبته وحكمته كانت كفيلة بإرباك اليهود لألف سنة، وتأخير تحركاتهم حتى عصرنا الحاضر، شاهدة على عبقرية القيادة النبوية واستباقيتها في حفظ الأمة وسلامة العالم.
وهكذا يتضح من خلال هذه الآيات أن النبي محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قائدًا عسكريًا عاديًا، بل كان قائدًا ربانيًا، جمع بين الوحي والخبرة، وبين الروحانية والتكتيك العسكري، وبين الرحمة والرأفة بأمته والحزم مع أعدائه. فقيادته كانت مدرسة فريدة، ألهمت الأجيال من بعده، ورسخت معاني القوة والعدل والانضباط في الأمة الإسلامية.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

