هل الشهادة في سبيل الله هزيمة؟
السياسية || محمد محسن الجوهري*
كثيرون ينظرون إلى الشهادة في سبيل الله من زاوية دنيوية ضيقة، فيظنون أنها هزيمة وخسارة لأن نتيجتها فقدان الروح والحياة، غير أن التصور الإيماني يبدد هذا الوهم ويبين أن الشهادة هي قمة النصر وعلامة الكرامة الإلهية. فمن رحمة الله الواسعة أنه لم يجعل النصر الميداني شرطاً في صحة الجهاد، بل كلّف عباده ببذل الوسع والصدق في مواجهة أعدائه، وجعل نتائج المعركة بيده سبحانه، إذ يقول: "وما النصر إلا من عند الله". فالنصر بيد الله لا بيد البشر، ولو كلفنا الله بتحقيقه في كل مواجهة لكان ذلك من التكليف بما لا يطاق، لكنه جل شأنه جعل الأجر والثواب في مجرد السعي والجهاد، حتى وإن كانت الغلبة في الظاهر للأعداء.
أما الشهادة فهي ليست موتاً بالمعنى الذي يظنه الناس، بل هي حياة أخرى أرقى وأعظم، قال تعالى: "ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون"، وقال أيضاً: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله". وهكذا فإن ما يعده الناس خسارة هو في الحقيقة حياة جديدة للشهيد في ملكوت الله، حياة يتنعم فيها بالقرب من ربه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إن الموت الذي يخشاه أكثر البشر ويعدونه نهاية هو بالنسبة للمجاهد نصر شخصي مؤكد، لأنه يحقق الغاية الكبرى التي سعى إليها، وهي رضا الله والفوز بالآخرة. فالمجاهد الذي يُقتل في سبيل الله قد بلغ أعلى مراتب النصر، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، والشهادة هي ذروة هذه الغاية. ومن هنا نفهم أن الشهيد لم يخسر شيئاً، بل ربح كل شيء، ربح الجنة والخلود، وربح أن يخلَّد ذكره في الدنيا بالبطولة والكرامة.
وللشهادة أثر يتجاوز الفرد إلى الأمة بأسرها، فهي توقظ القلوب وتبعث العزة في النفوس وتغرس الإصرار على مواصلة الطريق، ولذلك قال تعالى: "إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، فالمعركة ليست مجرد صراع على الأرض بل هي امتحان وتمحيص واصطفاء للشهداء. ودم الشهيد لا يضيع هدراً، بل يتحول إلى وقود للمسيرة، ولعنة تلاحق الأعداء، ورسالة خالدة أن القيم الإيمانية أغلى من كل متاع الدنيا.
ثم إن الجهاد في الإسلام ليس مقصوراً على السيف وحده، بل له مراتب متعددة، تبدأ بالعداء النفسي للباطل، وتمتد إلى الكلمة الصادقة والموقف الثابت، وتنتهي بالجهاد بالسلاح حين تستدعي الحاجة. فكل حركة صادقة في هذا السبيل محسوبة عند الله، حتى الخطوة التي تغيظ الأعداء هي عمل صالح. وهذا الاتساع في مفهوم الجهاد يجعل حياة المؤمن كلها جهاداً متصلاً، حتى إذا ختمها الله بالشهادة فقد ختمها بالنصر الأكبر.
وشهداء المسيرة القرآنية في عصرنا الحاضر هم الامتداد الطبيعي لذلك النهج الرباني الذي سار عليه الأنبياء والصالحون عبر التاريخ. فقد قدّموا أرواحهم وهم يدركون أن الدفاع عن القرآن وعن عزة الأمة ليس خياراً عابراً، بل هو فرض إيماني وواجب أخلاقي، فاستجابوا لنداء الله بصدق، وصدق فيهم قوله تعالى: "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا". هؤلاء الشهداء لم يكونوا طلاب دنيا ولا ساعين وراء مصالح ضيقة، وإنما تحركوا من منطلق إيماني صرف، فرأوا في التضحية حياةً للأمة وكرامةً للمستضعفين، فكتب الله لهم الحياة الأبدية في جواره، وجعل دماءهم منارات تهدي الأجيال القادمة وتؤكد أن المسيرة ماضية لا يوقفها طغيان ولا عدوان.
*المقال يعبر عن رأي الكاتب

