السياسية || محمد محسن الجوهري*

لم تعد الطائرات المسيّرة حكراً على القوى الكبرى كما كان الحال قبل عقدين من الزمن، بل تحولت إلى سلاح استراتيجي متاح حتى للجماعات والفصائل الشعبية، وأصبحت عاملًا حاسمًا في قلب موازين القوى. فقد انخفضت تكلفتها بشكل لافت، وارتفع مستوى دقتها وفاعليتها، إلى درجة باتت معها الدول الكبرى نفسها في موقف دفاعي أمامها. ومن المؤكد أن الخاسر الأكبر من انتشار هذا السلاح ليست الشعوب، بل القوى المعتدية التي اعتادت شن الحروب دون أن تدفع ثمنًا مباشرًا.

في التجربة اليمنية تحديدًا، شكّلت الطائرات المسيّرة نقطة تحول فارقة في مسار الحرب المستمرة منذ مارس 2015. فقد نجحت القوات المسلحة اليمنية في تطوير منظومات مسيّرة متنوعة، استخدمت في ضرب العمق الاستراتيجي للسعودية والإمارات، بما في ذلك منشآت النفط والمطارات العسكرية. ومع كل ضربة، كانت المعادلة تتغير: فبدلًا من أن تكون الحرب من طرف واحد، أصبحت الخسائر مشتركة، والأنظمة المعتدية باتت أمام تهديد وجودي يطال مصالحها الحيوية.

على سبيل المثال، في سبتمبر 2019 تعرضت منشآت بقيق وخريص النفطية في السعودية لهجوم مسيّر أوقف نصف إنتاج المملكة من النفط لعدة أيام، وهو ما انعكس مباشرة على الأسواق العالمية ورفع أسعار النفط إلى أعلى مستوياتها خلال سنوات. كان ذلك رسالة استراتيجية أثبتت أن اقتصادًا يعتمد على صادرات النفط يمكن أن يُشلّ بمسيّرات تكلفتها لا تتجاوز آلاف الدولارات. وفي 2021 و2022 تكررت الضربات التي طالت مطارات أبوظبي ودبي، ما أربك حركة الطيران وأظهر هشاشة "الواجهة الاقتصادية" التي تسوّقها الإمارات للعالم.

والأمر لا يقتصر على الضربات الاستراتيجية، فالميدان العسكري شهد بدوره تحولات هائلة بفضل المسيّرات. فالقوات اليمنية تمكنت من إيقاف الزحوفات العسكرية على جبهات مثل الساحل الغربي ومأرب، إذ تحولت المسيّرات إلى "مدفعية ذكية" تحسم المعركة من الجو بدقة عالية، وتكبّد القوات المهاجمة خسائر فادحة تجعل أي هجوم جديد مخاطرة غير مضمونة النتائج. ولعل هذا ما جعل تحالف العدوان عاجزًا عن إعادة معركة الساحل الغربي إلى الواجهة، بعدما خبر تكاليفها الكارثية.

هذه الظاهرة ليست حكرًا على اليمن وحده؛ فالمسيّرات أثبتت فعاليتها في ساحات أخرى، ففي غزة، استخدمت فصائل المقاومة مسيّرات محلية الصنع للاستطلاع والاستهداف، ما أربك الجيش الإسرائيلي وتسبب بانهيار "فرقة غزة" التي كانت مخصصة لحصار القطاع واقتحامه، وقد تكررت مأساة الجيش الصهيوني في جنوب لبنان عبر السلاح نفسه، وقد نجح حزب الله في تفيله بقوة وذكاء طالت حتى منزل المجرم نتنياهو نفسه.

إن خطورة هذا السلاح تكمن في كونه رخيصًا وفعالًا وصعب الإيقاف؛ فالقبة الحديدية الإسرائيلية مثلًا تعجز في كثير من الأحيان عن إسقاط أسراب من الطائرات المسيّرة الصغيرة، رغم أن تكلفة الصاروخ الاعتراضي الواحد قد تصل إلى ملايين الدولارات، بينما لا تتجاوز تكلفة المسيّرة الواحدة بضع مئات أو حتى آلاف. وهنا يظهر الخلل البنيوي: كلما حاولت القوى الكبرى حماية نفسها، زادت خسائرها الاقتصادية.

الخلاصة أن الطائرات المسيّرة تحولت إلى عقيدة عسكرية شعبية غيّرت قواعد اللعبة. واليمن يمثل أوضح نموذج لذلك: فمن بلد فقير محاصر ومُدمَّر، استطاع أن يفرض معادلة ردع على قوى تمتلك أحدث الأسلحة الأميركية والغربية، لا بفضل التوازن في القوة التقليدية، بل بفضل سلاح بسيط الفكرة، عظيم التأثير.


* المقال يعبر عن رأي الكاتب