"الخاسرون" حسب التعريف القرآني
السياسية || محمد محسن الجوهري*
لكي تكون معاييرنا مستقيمة وصحيحة، لا بد أن تُبنى على أساسٍ إلهي راسخ، منبثق من القرآن الكريم وموافق له في جوهره. وقد تكررت في كتاب الله عبارة ﴿أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾ إحدى عشرة مرة تقريبًا، وكلها جاءت تصف حال المنافقين وما آلوا إليه من خسرانٍ مبين. وليس ذلك الخسران إلا ثمرةً طبيعية لانحراف موازينهم، إذ قدّموا معيار المصالح العاجلة الزائلة على حساب الآخرة الباقية الخالدة، فباعوا ما لا يُفنى بما يفنى، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولعلَّ أوّل ما يلفت الانتباه إلى عبارة "الخاسرون" هو ورودها في سورة المنافقون عقب الحديث عن صفات المنافقين وأفعالهم؛ وكأنّ الله سبحانه وتعالى ينبّهنا إلى الأسباب الجوهرية التي تفضي إلى النفاق، وفي مقدمتها الانشغال بالماديات والمصالح الدنيوية على حساب دين الله. يقول تعالى في سورة المنافقون: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَ ٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَـٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾ [المنافقون: ٩].
فهذه الآية الكريمة تكشف أن النفاق لا يبدأ من فراغ، بل من قلبٍ تعلّق بالدنيا وانشغل بزخرفها، حتى صارت الأموال والأولاد حجابًا عن ذكر الله، فكان الخسران الحتمي نتيجةً طبيعية لذلك الانحراف.
وقد تكرر الحديث عن الخاسرين في سورة المجادلة، وهنا يبيّن الله أن التعلّق بالدنيا قد يدفع المنافقين إلى التولّي لغير المؤمنين، قال تعالى:
﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡا۟ قَوۡمࣰا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ وَیَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ ١٤ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ عَذَابࣰا شَدِیدًاۚ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ ١٥﴾ [المجادلة].
وبعد أن أكد الله أن أموالهم وأولادهم لن تغني عنهم شيئاً من الله يصفهم في الأخير بأنهم حزب الشيطان وأنهم هم الخاسرون فعلاً، فقال جل شأنه:
﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَیۡهِمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّیۡطَـٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ ١٩﴾ [المجادلة].
أمّا عن صفاتهم، فقد كشفها الله جلّ شأنه في سورة البقرة، حيث بيّن أنهم لا يلتزمون بعهد الله، ولا يُعيرون أوامره أي قيمة أو قدر، بل يسارعون إلى نقض ما أمر به من روابط الإيمان والتقوى، فيقطعون ما أمر الله به أن يوصل من وحدةٍ كالاعتصام بحبل الله وتحقيق الوحدة الإسلامية في مواجهة أهل الكتاب، ويتسببون في الإفساد في الأرض. قال تعالى: ﴿ٱلَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِیثَـٰقِهِۦ وَیَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾ [البقرة: ٢٧].
وبما أنّ المصالح الدنيوية الزائلة هي التي دفعتهم إلى الإعراض عن دين الله والتولّي لأعدائه، فقد توعّدهم الله بالهلاك في الدنيا قبل الآخرة، وبخسارة ما كانوا يطلبونه بمعصية الله من مطامع يسيرة لا تساوي شيئًا أمام عظمة الآخرة. والأعجب أن التهديد الإلهي جاء في صيغة تساؤل استنكاري يزلزل القلوب: فكيف لِمخلوق ضعيف فانٍ أن يأمن مكر الله؟ قال تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا۟ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا یَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٩].
فهكذا يتجلّى أن الخسران ليس مجرد نتيجة أخروية مؤجلة، بل هو سنّة إلهية تعاجل أصحاب القلوب المائلة في الدنيا، فتسلبهم الطمأنينة والعزّة في حياتهم قبل أن يلقوا العذاب يوم الحساب.
وقد ربط الله تعالى في مواضع عديدة بين هذه الفئة الضالّة وبين التولّي لأعدائه وأعداء المؤمنين، وهي حالة نراها ماثلة اليوم في واقعنا العربي بشكلٍ فاضح. ففي البداية أعرض العرب عن قضية فلسطين بذريعة الانشغال ببناء الأوطان وخدمة شعوبهم، غير أنّ هذا الادعاء كان واهيًا؛ فلا الأوطان عُمِّرت، ولا الشعوب نالت شيئًا من العزّة والكرامة. والأدهى من ذلك أنّ عبوديتهم للمصالح الدنيوية انتهت بهم إلى عبوديةٍ لأهل الكتاب، بعد أن توهّموا أنّ الخير والرزق بأيديهم لا بيد الله.
وهكذا، ومع تراكم ثقافات مغلوطة وأفكار مسمومة -من قبيل الزعم بأن العقوبة مؤجلة إلى الآخرة وحدها- تضاءلت ثقتهم بالجانب الإلهي، فخسروا الدنيا قبل الآخرة.
والقرآن الكريم يفضح هذا الوهم، إذ يربط في غير موضع بين الشقاء في الدنيا والشقاء في الآخرة، وبين الكرامة في الدنيا والكرامة في الآخرة.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلۡقُرَىٰ آمَنُوا۟ وَٱتَّقَوۡا۟ لَفَتَحۡنَا عَلَیۡهِمۡ بَرَكَـٰتࣰ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا۟ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِمَا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ﴾ [الأنفال: ٥٦].
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل 97)
ومثل قوله: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ من سورة الجن- آية (16)
إضافةً إلى الحديث القرآني المطول عن الأقوام الغابرة التي هلكت بسبب عصيانها لأنبيائها كقوم نوح وعاد وثمود، ولم تهلك عبثاً أو لأنها في حالة قضاء وقدر، كما يزعم مخالفو القرآن في عصرنا الحالي، وهذا يؤكد أن سنة الله في خلقه هي الخسران العاجل والآجل إذا أعرضوا عن توجيهاته، ولعل انعدام الكرامة والعبودية لأهل الكتاب وخنوع الشعوب تحت ظلم الطغاة هي من أشكال الخسران والعقوبة التي أعقبت معصية الله والإعراض عن ذكره، وكذلك المسارعة في ولاية أعدائه من اليهود والنصارى.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

