أمريكا: دولة ليبرالية أم كيان ديني مقنّع؟
السياسية || محمد محسن الجوهري*
تقدّم الولايات المتحدة نفسها على أنها النموذج الأسمى للديمقراطية الليبرالية، دولة علمانية قائمة على "حكم الشعب بالشعب وللشعب"، وتزعم أنها حاملة مشعل الحرية والمساواة في العالم. كما لا تكفّ عن تصدير هذا النموذج إلى دول العالم الثالث، باعتباره الحلّ السحري لأزماتها السياسية والاجتماعية.
لكنّ هذا الادعاء سرعان ما ينهار أمام الواقع الأمريكي الصلب، حيث يتبدّى أن الدولة، رغم خطابها المدني، تحكمها اعتبارات دينية راسخة، وتحرّكها دوافع عقدية، خاصة حين يتعلق الأمر بالعلاقة مع الإسلام والمسلمين.
لقد كشفت القضية الفلسطينية، ولا سيما المجازر الإسرائيلية في غزة، عن الوجه الحقيقي لأمريكا. فالإسناد الأمريكي المطلق لتلك الإبادة لا يمكن تفسيره فقط بمصالح استراتيجية، بل يتعدى ذلك إلى شراكة عقائدية في رؤية دينية تبرر قتل المدنيين، وسلب الحقوق، وحرمان شعوب بأكملها من مجرد الحق في الحياة. ومَن يتابع الخطاب السياسي الأمريكي يلحظ طغيان العبارات اللاهوتية، والتمسك بنصوص توراتية مزعومة تُستخدم لتبرير العنف والتطهير.
وليس هذا بالأمر الجديد؛ فالتاريخ الأمريكي، منذ نشأته، مغموس بلغة دينية تمييزية، تكرّس "الاختيار الإلهي" و"القدر المتجلّي" كمبرر لغزو الشعوب وسحق المختلف. وقد صرّح العديد من الرؤساء الأمريكيين، علنًا، بإيمانهم العميق بأن دعم "إسرائيل" واجبٌ ديني، وأن معاداة الفلسطينيين –والعرب والمسلمين عمومًا – هي امتثال لإرادة إلهية لا تقبل النقاش.
فعندما اعترف الرئيس هاري ترومان بالكيان كـ"دولة" عام 1948، ربط اعترافه بالإنجيل، وزعم بأنه يمتثل لإرادة إلهية ترى بأن فلسطين أرض يهودية، حسب وصفه، وقد أكد هذه المقولة اللاهوتية الرئيس الأمريكي رونالد ريغان عام 1980 حين قال: "إسرائيل ليست مجرد حليف، بل هي وعد الله في الكتاب المقدس. يجب علينا الوقوف إلى جانبها دائماً، وأن ما يحدث في الشرق الأوسط هو جزء من نبوءات الكتاب المقدس."
ولم يقتصر الأمر على فلسطين، فالحرب الدينية تتجاوزها إلى ما هو أبعد، ونتذكر ما قال جورج بوش الابن حين ربط غزوه للعراق بأوامر إلهية، قائلاً: "لقد أمرني الله أن أهاجم القاعدة، ففعلت، ثم أمرني أن أغزو العراق، ففعلت".
وقد كرّر دعمه لـ"إسرائيل" بوصفه واجبًا دينيًا، لا مجرد موقف سياسي.
وفي السياق ذاته، عبّر مايك بنس، نائب ترامب خلال ولايته الأولى، عن الخلفية العقدية للتحالف الأمريكي الإسرائيلي حين زعم بأن الرب أنشأ "إسرائيل"... ومن واجب المسيحيين كأمة أن تواصل دعمها، لأنه أمر كتابي.
وخلال الحقبة نفسها زعم ترامب أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس خطوة دينية أكثر منها سياسية، وأنه ما فعله هو تحقيق لوعد ورد في الإنجيل، حسب زعمه.
كما رأينا العجوز جو بايدن يٌهرع إلى فلسطين المحتلة عقب عملية طوفان الأقصى ليؤكد من هناك بأن حماية "إسرائيل" ليس خيارأً بل عقيدة، وأنه صهيوني حتى لو لم يكن من الشعب اليهودي، ومثل هذه التصريحات تكررت من أعضاء إدارته في تلك الفترة، فقد أعلن وزير الخارجية أنطوني بلينكن أن زيارته للكيان بأن حضر لأنه يهودي وليس بصفته وزيراً أمريكي.
هذه التصريحات لا تمثّل مواقف فردية عابرة، بل تكشف عن بنية دينية عميقة داخل المؤسسة السياسية الأمريكية. فالانحياز المطلق لـ"إسرائيل"، نابع من اعتقاد ديني بأن قيام هذا الكيان وازدهاره شرط لعودة المسيح وتحقّق النبوءات.
من هنا، يمكن فهم الازدواجية الصارخة بين خطاب أمريكا الليبرالي، وممارساتها الوحشية على الأرض. فدعمها للمجازر الإسرائيلية في غزة، وتغطيتها السياسية والإعلامية للإبادة الجماعية بحق المدنيين، ثمرة لقرون من التنشئة الدينية اليهودية للشعب الأمريكي، حتى صار الجميع يتنافسون على دعم اليهود وإجرامهم للبقاء في عالم السلطة لأطول فترة ممكنة.
أما حديثهم عن الليبرالية والعلمانية، فليس إلا قناعًا يُخفون خلفه عقائد مظلمة معادية للإنسان في جوهره، والسبب في إخفائه هو فشل الحملات الصليبية في الماضي بعد أن واجهت العالم بشراستها العقائدية دون مداراة، فاستنفرت مقاومة شعوب المنطقة، ولم تتجاوز حدود بلاد الشام وسواحل المتوسط. أما المشروع الأمريكي، فنجح حين ارتدى عباءة التنوير والحرية، بينما كانت تحرّكه في الخفاء النزعات ذاتها التي حكمت تلك الحملات البائدة، ولكن بثوب عصري تقدمي مغلف بوهم الرفاهية الاقتصادية للعالم.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

