السياسية || عباس السيد*

33 عاما أمضاها الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح على رأس السلطة، وهي فترة لم تتح مثلها لرئيس أو ملك يمني منذ استقلال اليمن عن الحكم العثماني عام 1918.

33 عاما كانت كفيلة ببناء يمن قوي يعيش مواطنوه بكرامة وعزة وينعمون بخيرات بلدهم المهدرة والمنهوبة..

لا يقتصر فشل صالح على عدم تحقيق ولو قدر بسيط من التنمية والتحديث وتقليل الهوة الحضارية بين اليمن والدول الأخرى التي تجاوزتنا بمراحل رغم تشابه الظروف والإمكانات. فقد كانت فترة حكمه أشبه بمن يدير عجلة الزمن إلى الوراء.

تحول النظام الجمهوري في عهده إلى نظام عائلي أوشك أن ينتقل إلى "ولي العهد".
ولم تكن الديمقراطية التي أنعم بها على اليمنيين سوى وسيلة لتجديد شرعيته على رأس السلطة.
كما تحولت الوحدة اليمنية بسوء قيادته إلى شتات إجتماعي وتشظي جغرافي.

33 عاما لم تشبع نهم صالح السلطوي، وظل متشبثا بالكرسي، وكأن تلك العقود ليست سوى فترة رئاسته الأولى، ولولا الثورة الشبابية الشعبية التي خرجت فيها الملايين باحتجاجات سلمية على مدى عام كامل لما تخلى عن السلطة.

فقد صالح صفة "الرئيس" فاستبدله بلقب "الزعيم" وعملت وسائل الإعلام التابعة له على ترسيخ الصفة الجديدة في مواجهة صفة "الرئيس السابق أو الرئيس المخلوع".
منح صالح نفسه لقب الزعيم، وهو لقب أو مكانة تتجاوز مكانة الرئيس، ما يعني أنه لا يقبل إلا أن يكون الرجل الأول في اليمن، حتى وهو خارج السلطة رسميا.

وكان هو قد استغل فترة حكمه جيدا وادخر لنفسه الكثير من النفوذ والمال والبنين، ما يكفل له الاستمرار في ممارسة هوايته السلطوية.
وحين رفضت إدارة الرئيس باراك أوباما مطلع 2012منحه تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة لاستكمال علاجه الذي بدأه في السعودية بعد "حادثة النهدين" ـ باعتباره رئيسا مخلوعا من شعبه ـ "قايضهم بسقطرى".

كان القرار الأمريكي صعبا على صالح، لم يكن قادرا على تحمل شماتة "أحزاب المشترك" وبات محتاجا لترميم سمعته ومكانته أكثر من حاجته لترميم جلده.

أشهر صالح في وجه الأمريكيين إحدى أوراقه التي ادخرها خلال سلطته، وكانت الورقة "سقطرى".

"أمسك صالح بالأمريكيين من اليد التي تؤلمهم"، ووضعهم بين خيارين : التأشيرة مقابل استمرار "التسهيلات" للقوات الأمريكية في سقطرى.. واضطر الأمريكيون إلى التفاوض مع صالح مع أنه خارج السلطة، التي كانت قد نُقلت إلى نائبه حينذاك سيئ الذكر هادي بموجب المبادرة الخليجية.. وتمت الصفقة التي عرضها صالح، مع أنها صفقة بخسة، أبخس من صفقة "أبي غبشان" الذي باع مفتاح الكعبة مقابل "زق من الخمر وليلة قعود سامرة".

اليمن بالنسبة لصالح مجرد "بقعة، ارضية فساح" وسقطرى مجرد بقعة زغيرة وسط البحر .

كما أن صالح هو اليمن، واليمن هو صالح، هذه إحدى المبادئ التي كان إعلام السلطة يرسخها، ووفقا لهذا المبدأ، يتعامل الرئيس مع الوطن، ومقابل "تأشيرة سفر" ترخص كل الجزر اليمنية.

خلال 33 عاما، أضاع صالح الكثير من الفرص التي كان يمكن أن تجعل منه زعيما حقيقيا، لا مجال لاستعراض كل تلك الفرص هنا، ويكفي الإشارة إلى إضاعته فرصة تحقيق "الوحدة اليمنية" والتي حولها إلى مشروع شخصي يديره على طريقته، حتى تحولت الوحدة في نظر اليمنيين إلى "ورطة".
بإساءته للوحدة، لم يضر صالح بمصلحة اليمن واليمنيين فحسب، لكنه أحبط أحلام العرب جميعا، فقد كانوا ينظرون إلى وحدة اليمن كبارقة أمل وخطوة على طريق الوحدة العربية.

انتصر صالح في 7 يوليو1994، ورغم مرارة الهزيمة التي لحقت بـ "الانفصاليين"، إلا أنه استمر في تعميق الشروخ السياسية والاجتماعية بين اليمنيين، وامتدت رأسيا وأفقيا، بعد أن كانت الخلافات محصورة في طرفي السلطة شريكي الوحدة.

اليمنيون بطبيعتهم شعب متسامح، ورغم خروجهم مطالبين برحيل صالح في 2012، إلا أنه كان بمقدوره الرحيل عن السلطة كزعيم حقيقي، لو أنه ترك السلطة بالفعل وتفرغ لإدارة أمواله ومشروعاته في الداخل والخارج..
هذه الفرصة أضاعها أيضا، وأضاع بعدها أهم الفرص في حياته، وهي شرف الإستمرار في الوقوف ضد العدوان، بغض النظر عن حقيقة موقفه وفاعليته في تلك المعركة المستمرة حتى اليوم.

كان بمقدوره الاستمرار في مواقفه تلك، ولو إعلاميا. لكن، لأن حبل الكذب قصير، ولأنها إرادة الله في رسم النهايات والخواتم العادلة، سقط قناع صالح، حين أعلن انحيازه لدول العدوان، ليس ذلك فحسب، بل دعا اليمنيين في المدن والقرى والعزل لقتال بعضهم، وهي دعوة لا يمكن أن يجهر بها حتى إبليس، فكيف بمن يرى أنه زعيم اليمنيين؟!.

لم يكن هدف صالح من دعوته تلك تحقيق اهداف سياسية او مصلحة وطنية، لقد كان هدفه الحقيقي هو الإنتقام من اليمن واليمنيين، هدم المعبد على رؤوس الجميع. وكان من الطبيعي أن لا يستجيب شعب لدعوة رئيس مخلوع للتو.
في الثاني من ديسمبر 2017، حصد صالح ثمرة شره، ومرت فتنته بردا وسلاما على اليمنيين.
في هذا التاريخ من كل عام، يجدر باليمنيين، وخاصة سكان العاصمة صنعاء، أن يحمدوا الله كثيرا ويتذكروا عنايته التي جنبتهم الغرق في دمائهم، وحكمة قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي الذي أبدى حنكة وحكمة بالغة في مواجهة الفتنة وإحباط المخطط المشؤوم. ولا ننسى تضحيات الشهداء الأبطال من الجيش واللجان الشعبية الذين أخمدوا الفتنة في زمن قياسي، وقدموا أرواحهم رخيصة لننعم بالسلام والأمن.. ولندعو جميعا : رحم الله من أخمدها.

بعد أكثر من سبع سنوات على وأد الفتنة، يحاول أيتام صالح ومن يعتبرون انفسهم ورثة عرشه، وبوقاحة فجة، اقتفاء أثر زعيمهم والبداية من حيث انتهى، فجعلوا من الثاني من ديسمبر "عيدا وطنيا" ومن ساحل المخا معقلا للتمدد والإنقضاض على اليمن.

باختصار :
لم يكن نظام صالح جمهوريا ولا ديمقراطيا ولا وحدويا، ولم يكن صالح رئيس دولة، بل شخصا يجيد المكر والاحتيال للاحتفاظ بالسلطة ولا يفقه شيئا في السياسة. فمن يفهم ولو قليلا في سياسة ادارة الدول، لا يمكن أن تكون بلده في ذيل القائمة العالمية بشتى المجالات بعد أكثر من 3 عقود من حكمه. لم يكن صالح راقصا على رؤوس الثعابين، بل كان أحد الثعابين.

أما الاستقرار النسبي الذي شهدته عقود حكمه ويحن اليها البعض، فلم يكن ذلك انجازا له، بل ما سمح به "تحالف الجيران" الذي تحول الى تحالف للعدوان بعد خلع وكيلهم عن السلطة، نفس التحالف الذي يحاول منذ أكثر من عشر سنوات خنق اليمنيين لكي يقولوا : سلام الله على عفاش، ويقبلوا بأحد ورثته زعيما لهم.
وهنا يلتقي حنين بعض المغفلين لفترة عفاش بحنين تحالف العدوان. وما أسمته قناة العربية "المعركة الأخيرة لصالح" هو جانب من هذا الحنين. حنين للثعابين.

السواد الأعظم من اليمنيين ومعهم احرار وشرفاء العالم لديهم حنين مختلف. حنين ليمن حر سيد مستقل. ولسان حالهم : سلام الله على اليمن، سلام الله على السيد.

أنا عندي حنين. من أجمل الاغاني التي لحنها الفنان الراحل المناضل زياد الرحباني، رحمة الله تغشاه.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب