السياسية || محمد محسن الجوهري*

قد يثير الدهشة أن ديفيد بن غوريون، مؤسس الكيان الصهيوني وأول رئيس لحكومته، درس القانون في جامعة إسطنبول خلال فترة السلطنة العثمانية، كما أن "موشيه شاريت"، ثاني رئيس وزراء لـ"الكيان"، و"إسحاق بن تسفي"، صديق بن غوريون وثاني رئيس لـ"إسرائيل" كانوا من بين الشخصيات المؤثرة التي ارتبطت مباشرة بتلك الحقبة حيث كانت إسطنبول، عاصمة الخلافة العثمانية، بمثابة مسرح للأنشطة اليهودية، وأسهمت في احتلال فلسطين قبل أن تتدخل لندن وواشنطن.

تروي المراجع التاريخية أن "أورخان غازي"، ابن عثمان بن أرطغرل، مؤسس الدولة العثمانية، أظهر اهتمامًا بالغًا باليهود، حيث فتح لهم باب الهجرة إلى الأراضي العثمانية ومنحهم مناطق خاصة ليتمكنوا من ممارسة شعائرهم الدينية وعاداتهم بحُرية، وأُسِّسَ حيٌ لليهود في مدينة "بورصة"، مما جعلها نموذجًا للأحياء الأخرى في مجالات الصناعة والتجارة والمالية.

مع فتح جاليبولي عام 1354م، وأنقرة عام 1360م، وأدرنة عام 1361م، وإزمير عام 1422م، وسلانيك عام 1429م، وإسطنبول عام 1453م، شهدت هذه المدن زيادات في أعداد اليهود، وتم تشكيل مدرسة لتعليم الدين اليهودي في أدرنة، التي أصبحت مركزًا ثقافيًا وتعليميًا للطلاب اليهود في البلاد، وبخلاف جرة اليهود الجماعية للأراضي العثمانية عام 1492م، كانت هناك هجرات جماعية أخرى؛ فمثلًا، وجد اليهود المطرودون أو الهاربون من المجر عام 1376م، وفرنسا عام 1394م، وصقلية في بداية القرن الخامس عشر الميلادي، وفينيسيا عام 1420م، وبافيارا عام 1470م، الذين وجدوا الأراضي العثمانية ملاذًا لهم.

في عهد السلطان محمد الفاتح (1451-1481) ودخوله إلى القسطنطينية، كان اليهود يقيمون على ضفتي خليج القرن الذهبي، وكان السلطان الفاتح يحترم اليهود، ولذلك أرسل خطاباً للجماعات اليهودية في الأناضول يدعوهم للقدوم إلى إسطنبول من أجل زيادة عدد اليهود في المدينة، وأصدر فرمان أثناء حصار القسطنطينية يمنحهم حرية الدين والعقيدة، مؤكدا على ترميم المعابد اليهودية القديمة، وبناء أخرى جديدة.

نجح اليهود في توجيه دفة القيادة للباب العالي، ومع قدوم السلطان عبد المجيد الأول للحكم عام 1840، وأصبحت قرارات السلطنة العثمانية تحت تأثيرهم بشكل كبير، ومن سيئاته إصدار المرسوم "الهايموني" عام 1856 الذي أسقط الهوية الدينية للدولة، ومنح غير المسلمين الحق في السلطة على حساب المسلمين، مما مهد الطريق لإنشاء كيان مستقل لليهود في فلسطين، وبدأوا في التوافد إليها بتشجيع من الدولة العثمانية وتحت عناوين اقتصادية، كالسياحة الدينية واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية.

لعبت السلطات العثمانية أيضًا دورًا في قمع الانتفاضات الفلسطينية المناهضة للاستيطان اليهودي في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ففي عام 1886، منح "رشاد باشا"، متصرف القدس، اليهود امتيازات خاصة حالت دون ملاحقتهم أمام القضاء، بينما تعرض الفلسطينيون الذين حاولوا الاعتراض على الاستيطان للقمع. وعندما ذهب وفد من وجهاء القدس إلى إسطنبول عام 1891 مطالبًا الحكومة العثمانية بالحد من محاباة الوالي العثماني لليهود، قوبلت مطالبهم بالرفض من قبل الصدر الأعظم.

بينما يصعب تلخيص تفاصيل التعاون العثماني مع اليهود، فإن الإشارة إليه تكتسب أهمية خاصة في ظل العلاقات الحالية بين أنقرة وتل أبيب. فرجب طيب أردوغان، الذي تعهد بالمضي على سيرة أجداده العثمانيين، لم يقدم جديداً في عمالته لـ"إسرائيل"، وهو بالفعل على نهج السلطنة العثمانية في خدمة المشاريع اليهودية، ومنها إبادة الشعب الفلسطيني، وما علينا سوى العودة للتاريخ لنتعلم الكثير عن أسرار العثمانيين الجدد، فواقعهم اليوم ليس إلا امتداداً لسيرتهم بالأمس، ولولا السلطنة العثمانية ما تمكن اليهود من احتلال فلسطين من الأساس.


* المقال يعبر عن رأي الكاتب