أحمد عبد الرحمن*

منذ أن تم إعلان فوز المرشح الجمهوري للانتخابات الأمريكية دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية، انشغلت أغلبية وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والكتّاب والمحللين وحتى العامة بتوقّع فترة حكمه الثانية، والتي تأتي في أوضاع بالغة الحساسية والتعقيد، سواء على مستوى المنطقة، أو فيما يخص كثيراً من الأزمات العالمية، وفي المقدمة منها الأزمة الروسية - الأوكرانية.

وذهب الكثيرون إلى الاعتقاد أن التجربة الأولى لترامب في عام 2016 كافية لأن تعطينا مؤشراً واضحاً وحاسماً على أدائه المتوقّع خلال الفترة المقبلة له في البيت الأبيض كرئيس لأقوى دولة في العالم، إذ شهدت تلك الفترة كثيراً من الأحداث التي بدا بعضها دراماتيكياً وغير مُتوقع، ولاسيّما فيما يخص العلاقة بمحور المقاومة، وخصوصاً إيران، والتي قامت خلالها الولايات المتحدة باغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني على مشارف مطار بغداد، وفرض سياسة الضغوط القصوى على الجمهورية الإسلامية لثنيها عن دورها في دعم دول وجماعات محور المقاومة، وأخيراً وليس آخراً الانسحاب من خطة العمل المشتركة المتعلّقة بالبرنامج النووي الإيراني.

فيما يخص مناطق أخرى من الإقليم، أقدم ترامب على الاعتراف بالجولان السوري المحتل جزءاً من أرض "إسرائيل"، وقام بنقل السفارة الأمريكية في فلسطين المحتلة من "تل أبيب" إلى القدس، ودعم وشجّع دولاً عربية متعددة على التطبيع مع "الدولة" العبرية، وإبرام ما سُمّي حينذاك اتفاقية "أبراهام"، وما تبع ذلك من جني مليارات الدولارات من بعض الدول العربية، ولاسيّما الخليجية منها، تحت بند المساعدات العسكرية التي لم تصل إليها، والحماية من الخطر الإيراني المحدق كما صوّره ترامب وصهره الوسيم جاريد كوشنير.

عالمياً، شهدت فترته الأولى زيارة تاريخية لكوريا الشمالية، وتطويراً للعلاقة وإن بشكل محدود مع روسيا، إضافة إلى ضغطه المتواصل على دول الاتحاد الأوروبي "الضعيفة" لإرغامها على تحمّل مزيد من التكلفة المالية في مقابل الحماية التي توفرها لها الولايات المتحدة، وهذه الحال تكرّرت مع اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان.

في كل حال أنا هنا لست في صدد مناقشة المآلات والتداعيات لهذا التربّع الجديد لترامب على سدّة الحكم في "أم الإرهاب" وراعيته الأولى في العالم، ولست حريصاً على تحليل كثير من المعطيات التي ساقها البعض للتنبّؤ بأدائه خلال الأعوام الأربعة المقبلة، والتي يرى الكثيرون أنها ستكون حافلة بعدد من المفاجآت والتطورات، سواء على مستوى المنطقة او العالم، بل سأحاول الإجابة عن سؤال محدّد يشغل بال الكثيرين في المنطقة تحديداً، وخصوصاً أنها تشهد عدواناً إسرائيلياً على قطاع غزة منذ أكثر من ثلاثة عشر شهراً، والذي نتج منه عشرات آلاف الشهداء، وعشرات آلاف المصابين من المدنيين الفلسطينيين العزل، بالإضافة إلى ما ارتبط به من عدوان صهيوني على لبنان، الذي تشهد المعركة فيه تطورات حاسمة فيما يخص عمل المقاومة الإسلامية على وجه الخصوص، وإمكان أن تتطور مساحة الحرب لتصل إلى ساحات أخرى في المنطقة، وتحديداً مع الجمهورية الإسلامية في إيران.

في الحرب على غزة ولبنان، كان واضحاً الدور الأمريكي الرئيس والحيوي في استمرار هذه الحرب طوال الفترة الماضية، والتي مارس فيها العدو الصهيوني المحكوم من جانب ائتلاف متطرّف برئاسة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو كل أشكال القتل والإجرام التي صنّفتها محكمة العدل الدولية بأنها جرائم إبادة جماعية ضد المدنيين، وقام خلالها بتدمير كل مؤهلات الحياة في القطاع الصغير والمحاصَر، وجعله منطقة غير صالحة للسكن، وهذا الأمر يتكرر حالياً وإن بشكل أقل في قرى جنوبي لبنان، والتي يقوم جيش الاحتلال بتسوية منازلها بالأرض، وتدمير كل مظاهر الحياة فيها بشكل كامل، في محاولة حثيثة لتحويلها إلى منطقة عازلة يسعى لإنشائها كما هي الحال في شمالي قطاع غزة، الذي يشهد منذ شهر ونصف شهر تقريباً جريمة مروّعة تتمثل بقتل أكثر من ألف مواطن فلسطيني، بالإضافة إلى تجويع عشرات الآلاف الآخرين وتهجيرهم قسراً في اتجاه مدينة غزة.

الدور الأمريكي فيما تفعله "إسرائيل" في غزة ولبنان كان واضحاً للغاية، إذ إن الدعم اللامحدود الذي قدمته أمريكا إلى رأس حربتها في المنطقة لارتكاب هذه الجرائم لا يخفى على أحد، وساهم بشكل أساسي في إطالة أمد الحرب طوال كل هذه الشهور، ووقوع هذا العدد الهائل من الشهداء والجرحى والدمار والخراب، إذ إن مليارات الدولارات التي قُدّمت إلى الكيان الصهيوني، ومخازن الأسلحة الأمريكية في النقب والأردن ودول الخليج وتركيا، التي فُتحت له على مصاريعها، والدعم السياسي والقانوني المتواصل، إلى جانب المشاركة الفعلية في العدوان سواء بالوجود البحري اللافت للأسطول الأمريكي في المنطقة، أو من خلال المعلومات الاستخبارية الهائلة التي قدّمتها أجهزة الأمن الأمريكية إلى نظيرتها الإسرائيلية، وصولاً إلى مشاركة المئات سواء من المرتزقة الأمريكيين، أو من جنود الوحدات الخاصة في بعض العلميات داخل قطاع غزة، وتحديداً تلك المتعلّقة باستعادة أربعة أسرى صهاينة من مخيم النصيرات قبل عدّة أشهر، أو فيما يخص تعقّب قادة المقاومة واغتيالهم، كما أشارت بعض الصحف الأمريكية في كثير من المرات، كل ذلك ساهم بشكل أساسي في توسّع العدوان، وما ترتّب عليه من آثار كارثية وتداعيات مدمّرة، وخسائر بشرية واقتصادية غير مسبوقة، ما كانت لتحدث لولا الدعم والمشاركة من الولايات المتحدة الأمريكية، التي صدعت رؤوسنا بالدعوات إلى التهدئة، والذهاب نحو الحل السياسي للأزمة، وما رافق ذلك من زيارات لوزير خارجيتها اليهودي أنتوني بلينكن، ومدير الأمن القومي ووزير دفاعها وغيرهم، إلا أنها على أرض الواقع استمرت في توفير كل الدعم لـ"إسرائيل" للاستمرار في جرائمها ومذابحها، التي باتت شبه اعتيادية لكل من يشاهدها في هذا العالم، الذي فقد ضميره وأخلاقه، وربما عقله.

فيما يخص المرحلة المقبلة من الصراع في المنطقة، والذي يشغل بال الكثيرين، ويثير الرعب في قلوب آخرين، وتحديداً ما يتعلّق بموقف الإدارة الأمريكية المقبلة منه، وكيفية تعاطيها معه، ولاسيّما في ظل وجود رئيس متقلّب المزاج على شاكلة دونالد ترامب، تبدو الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات، إذ إن هناك احتمالاً وارداً بقوة لتصاعد هذا الصراع وذهابه نحو مرحلة لم يكن يتوقعها أحد، مدفوعة بكثير من الجنون الذي تعودنا عليه من ترامب وفريقه الأمني والسياسي، أو في اتجاه حل بغض النظر عن مضمونه، وعودة مرة أخرى إلى قواعد الاشتباك القديمة بغض النظر عن تفاصيلها، والتي لا تبدو واضحة حتى هذه اللحظة نتيجة كثير من التطورات، وما يمكن أن تتركه من تأثير في الشكل النهائي لهذه الاحداث.

لكن ما نستطيع أن نقوله بكل ثقة واطمئنان، بعيدا عن الموقف الأمريكي المرتقب، وبعيداً عن كل ما يُشاع من مخاوف يسعى البعض لإثارتها وترويجها أملا في الحصول على بعض التنازلات من قوى المقاومة في المنطقة خلال ما تبقّى من فترة بايدن في الحكم، فإن الذي سيقرر شكل المرحلة المقبلة ومضمونها هو ما يحدث في الميدان، والمقصود هنا هو ميدان القتال بدرجة أولى، مع أهمية أن يتم استثمار ذلك في ميدان السياسة بكل تأكيد، إذ إن كل الصراعات والأزمات على مستوى العالم منذ بدء الخليقة حتى الآن تم حسمها في الميدان، وإن كل الإنجازات التي تحصّل عليها هذا الطرف او ذاك لم تكن نتيجة مؤتمرات أو لقاءات أو نقاشات، بغض النظر عن حجمها أو مخرجاتها، ولم تكن أيضاً نتيجة مكائد سياسية جيّرها البعض لخدمة أهدافه والوصول إليها، وإن كانت هذه المكائد تؤثّر أحياناً في الصورة الإجمالية للحل، وإنما كان الميدان هو الذي يفرض شروطه على الجميع، وتبدو آثار غبار المعارك التي جرت فيه واضحة وجليّة على الأوراق التي وُقّعت عليها الاتفاقيات، والتي شهدت انتصار هذا الطرف وهزيمة الآخر، وما ترتّب على هذا الانتصار وهذه الهزيمة من تداعيات استمر بعضها مئات السنين.

* المقال نقل من الميادين نت ويعبر عن وجهة نظر الكاتب