السياسية:


موقع "Counterpunch" ينشر مقالاً للكاتب والدن بيلو، يتحدث فيه عن التوسّع العسكري الغربي المفرط، والعولمة، وأزمة النظام السياسي والأيديولوجي الليبرالي، وكيف تؤدي كل هذه الأمور إلى انهيار هيمنة الولايات المتحدة.

سواء سُمّيت "الأزمة المتعددة"، حسب ما وصفها المؤرخ والأستاذ في جامعة كولومبيا آدم توز، أو "عصر الكارثة"، كما أطلق عليها المفكر الماركسي المتميز أليكس كالينيكوس، فلا ريب، أنّ الجميع يحيا في زمن تصدّع أسس النظام العالمي المعاصر، الذي يجد نفسه وجهاً لوجه مع مقولة المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي قبل أكثر من نصف قرن بوصف زمنه وهو مناسب للوقت الحالي أيضاً، "العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد لم يولد بعد، وبينهما عصر الوحوش".

كل هذا يحمل صوراً واضحة عن انهيار هيمنة الولايات المتحدة على العالم، ولا بدّ من سبر أغوارها وأبعادها المتعددة الأسباب، وأهمّها التوسّع العسكري المفرط والعولمة، وأزمة النظام السياسي والأيديولوجي الليبرالي، ومناقشة كل شأن من بينها بشكل مستقل.

الإفراط في التمدد
لطالما أشار الإفراط في التوسع إلى إحداث فجوة بين طموحات القوة المهيمنة وقدرتها على تحقيق هذه الطموحات، كأنّهما صنوان لبعضهما بعضاً، بمجرد أن يقع الأول حتى يقع الثاني. أو كما يعتقد المؤرخ بول كينيدي الذي استخدم مصطلح الإفراط في التوسع، على أنّه ظاهرة عسكرية في الأساس تمارسها القوة الإمبراطورية المهيمنة. لكن الولايات المتحدة اليوم متعثّرة وأصبحت بعيدة كل البعد عن أن تكون القوة الأحادية التي كانت عليها قبل ربع قرن من اليوم، أيّ في العام 2001، حين قام أسامة بن لادن بالهجوم على برجي مركز التجارة العالمي بهدف استفزاز التوسع المفرط للإمبراطورية الأميركية، من خلال إرغامها على القتال على عدة جبهات في العالم الإسلامي، والتي قد تستلهم شعوبه من تنظيم "القاعدة" نموذج التمرد و"الجهاد". ولكن، بدلاً من إشعال الثورة، أشعل تصرف أسامة بن لادن الاشمئزاز والاستنكار بين أغلب المسلمين. وكان من الممكن أن يكون الهجوم على الولايات المتحدة بمنزلة فشل ذريع لتنظيم بن لادن، لو لم ينظر الرئيس الأميركي آنذاك جورج دبليو بوش إلى الحدث باعتباره فرصة لاستخدام القوة الأميركية لإعادة تشكيل العالم كانعكاس لسيطرة القطب الواحد الذي تتمتع به واشنطن. لكن، في الحقيقة، ابتلع بوش الطعم الذي أعدّه أسامة بن لادن وأدخل الولايات المتحدة في حربين لا يمكن الفوز بهما في أفغانستان والعراق. وكانت النتائج مدمّرة لقوة أميركا وهيبتها.

خلال المناظرة التي جرت في الشهر الماضي بين دونالد ترامب وجو بايدن، أشار ترامب إلى الهزيمة في أفغانستان باعتبارها أسوأ إذلال تتعرض له الولايات المتحدة على الإطلاق. مع أنّ ترامب ميّال إلى المبالغة، ولكن كانت هناك عناصر حقيقية في تصريحه هذا.

وعلى حد تعبير المحللة في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية نيللي لاهود، إنّ "هجمات 11 أيلول/سبتمبر الشهيرة تحوّلت إلى نصر باهظ الثمن لتنظيم بن لادن الذي نجح في إحداث تغيير عالمي مؤثر في السياسة الدولية لعقد من السنوات بعد ذلك". ويمكن إضافة أنّ الارتباك الحاصل لقوة الولايات المتحدة اليوم، وانكشاف أمرها مثل كلب يهز ذيله الصهيوني يرجع بمستوى ما إلى الهجوم الذي شنّه أسامة بن لادن.

إنّ الاعتراف بأهمية أحداث غزوة تنظيم "القاعدة" تلك، لا يعني تأييدها بالطبع. والواقع أنّ الهجوم على المدنيين كان بالنسبة إلى معظم الناس مثيراً للاشمئزاز من الناحية الأخلاقية. ولكن، يتعين علينا أن نعطي الشيطان حقه، كما يقولون، أي أن نشير إلى التأثير الموضوعي والتاريخي العالمي للفعل الذي ارتكبه فرد ما، سواء كان هذا الشخص قديساً أو شريراً.

العولمة ومواقع التجارة والصناعة
السبب الرئيسي الثاني لتفكك مكانة الولايات المتحدة المهيمنة، هو العولمة النيوليبرالية. فقبل 30 عاماً، تصوّر رأس المال للشركات الأميركية خلال إدارة بيل كلينتون، أنّ العولمة من خلال التجارة والاستثمار وتحرير رؤوس الأموال ستشكّل رأس الحربة في هيمنتها الكبرى على الاقتصاد العالمي. ولكن "وول ستريت" وواشنطن كانتا مخطئتين، فقد صارت الصين المستفيد الأكبر من العولمة، بينما كانت الولايات المتحدة واحدة من ضحاياها الرئيسيين.

لقد أدّى تحرير الاستثمار إلى تدفق مليارات الدولارات من رأس المال من الشركات الأميركية إلى الصين للاستفادة من العمالة الرخيصة الأجور في مقابل نقل التكنولوجيا، طوعاً أو قسراً، الأمر الذي ساعد الصين على تطوير اقتصادها بشكل شامل. كما جعل تحرير التجارة، الصين المصنّع الأكبر للعالم، وتزوّد السوق الأميركية بشكل أساسي بمنتجات رخيصة. وقد ساهم كل من تحرير الاستثمار والتجارة في نزع الصناعة من الولايات المتحدة وخسارة ملايين الوظائف في هذا القطاع، والتي انخفضت من 17.3 مليون في عام 2000 إلى نحو 13 مليون وظيفة الآن. وقد تفاقمت الآثار الضارّة لنزع الصناعة على الاقتصاد المالي الأميركي، بجعله فائق الربحية في مقدمة الاقتصاد، ويؤدي إلى انخفاض الضرائب وإلى توزيع غير عادل للغاية للدخل والثروة.

لقد تبادلت الصين الأماكن مع الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي. أصبحت الصين الآن مركز تراكم رأس المال العالمي وقاطرة الاقتصاد الدولي. ووفقاً لحسابات صندوق النقد الدولي، شكّلت الصين 28% من إجمالي النمو في جميع أنحاء العالم من عام 2013 إلى عام 2018، وهو أكثر من ضعف حصة الولايات المتحدة. وما يجب التشديد عليه هو أنّه في حين اتبعت الولايات المتحدة سياسات نيوليبرالية لإعطاء العنان الكامل لقوى السوق، فإنّ الصين حررت قطاعات اقتصادية بشكل انتقائي، مع توجيه قوي للدولة الصينية في العملية، وحماية القطاعات الاستراتيجية من السيطرة الأجنبية، والمطالبة بقوة بالتكنولوجيا المتقدمة من الشركات الغربية في مقابل العمالة الرخيصة.

ورغم أنّ الولايات المتحدة لا تزال أكبر اقتصاد في العالم من حيث القيمة الدولارية، فإنّ الصين أصبحت الآن أكبر اقتصاد في العالم وفقاً لمقاييس أخرى، مثل تعادل القوة الشرائية لمعظم السكان، في حين أنّ 11.5% من الناس في الولايات المتحدة يعيشون في فقر شديد، في حين أنّ 2% فقط من سكان الصين فقراء حسب تقارير البنك الدولي.

لا شك أنّ الصين واجهت تحديات في سعيها للوصول إلى قمة الاقتصاد العالمي، ولكن التنمية، كما يشير الخبير الاقتصادي ألبرت هيرشمان، هي عملية غير متوازنة بالضرورة. والأزمات التي تواجهها الصين هي أزمات نمو، مقارنة بالأزمات التي تواجهها الولايات المتحدة، والتي هي أزمات انحدار.

من الأمر الواقع إلى الحرب الأهلية المسلّحة
لقد ساهم التوسع العسكري المفرط وتأثيرات الاقتصاد النيوليبرالي ليس فقط في الاستياء السياسي ولكن أيضاً في الاضطرابات السياسية في الولايات المتحدة، حيث أصبح أحد الحزبين الرئيسيين، الحزب الجمهوري، رأس حربة السياسة اليمينية المتطرفة أو الفاشية التي تغذيها العنصرية والمشاعر المعادية للمهاجرين والخوف والانحدار في الوضع الاقتصادي بين الأميركيين البيض. وقد أصبحت السياسة مستقطبة بشدة، ويحذّر البعض من أن تقود إلى حالة من الحروب الأهلية بحكم الأمر الواقع. باختصار، أصبح النظام السياسي والأيديولوجي للديمقراطية الليبرالية الآن في خطر جسيم، حيث يحذّر العديد من الليبراليين والتقدميين من أنّ خطة ترامب 2025 ستؤدي إلى إنشاء دكتاتورية فاشية، وهم غير مخطئين، وهذا ما تؤكده أيضاً تصريحات الزعيم الأيديولوجي لأقصى اليمين في الولايات المتحدة ستيف بانون.

أمّا اليسار التاريخي ففي حالة انهيار كامل. فهم يركزون دائماً على انتقاد الضوضاء وليس الإشارات التي ترسلها حركة "ماغا" المؤيدة لترامب، التي تقوم على التطرف اليميني، وأعضاؤها مقتنعون أنّهم يناضلون من أجل الجمهورية، بأساليب غير معقولة أبداً ولا يبحثون عن التنازلات، "نحن نبحث عن الفوز"، كما يقولون.

لقد أصبح فوز ترامب برئاسة ثانية مؤكداً، مع وجود احتمال قويّ بأن يتحول فوزه إلى حرب أهلية مسلّحة بين الأميركيين. والواقع أنّ محاولة اغتيال ترامب منذ أيام، أيّاً كان منفّذها، قد تكون خطوة كبرى نحو العنف الجامح الذي صوره فيلم "الحرب الأهلية" للمخرج البريطاني أليكس غارلاند.

أزمة النظام الدولي الليبرالي
لقد كانت واشنطن حارسة النظام الدولي لوقت طويل، ومع الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها الولايات المتحدة، دخل أيضاً هذا النظام في أزمة عميقة في المحددات الرئيسية لما يتم وصفه بالنظام الدولي الليبرالي، وهي زعامة الغرب الجماعي للعالم المدعومة بالقوة العسكرية الأميركية، والنظام المتعدد الأطراف الذي يعمل كغطاء سياسي لرأس المال الغربي، والذي يشكّل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية دعائمه الأساسية، ومن بعده تأتي الأيديولوجية التي تروّج للديمقراطية على النمط الغربي باعتبارها النظام السياسي الوحيد المقبول والمتاح.

مع ذلك، يواجه النظام الليبرالي الآن مشكلة على جبهتين، على الجبهة الدولية، حيث يفقد مصداقيته وشرعيته بين دول الجنوب العالمي، التي ترى أنّ النظام المتعدد الأطراف مصمم في الأساس لإبقاء دولهم وشعوبهم تحت السيطرة الغربية. أمّا على صعيد الداخل الغربي، فالديمقراطية تشكّل المنصة لصعود أقصى اليمين في أوروبا والولايات المتحدة على حد سواء. وإذا وصل هؤلاء إلى السلطة في الولايات المتحدة وفي الدول الرئيسية في أوروبا، فالنظام الدولي سوف يستمر على الأرجح في التبجح وتأكيد التفوق الاقتصادي، ولكن مع تبني نهج أكثر أحادي الجانب من العولمة، وأكثر حمائيّة داخلية بدلاً من استخدام مجمع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، لتحقيق الهيمنة. لكن، من المؤكد أنّ أقصى اليمين سوف يتخلّى عن النداء المنافق لتعميم الديمقراطية الليبرالية كنموذج لبقية العالم.

اتجاه نحو الحرب
تقول الصين إنّها لا تسعى إلى إزاحة الولايات المتحدة عن زعامة العالم. ولكن بالنسبة إلى النخبة الأميركية، فإنّ الصين قوّة متطوّرة عازمة على إزاحتها عن زعامة العالم. وفي عهد إدارة جو بايدن على وجه الخصوص يتجلى الأمر في تصميم الولايات المتحدة على استخدام تفوّقها العسكري لحماية مكانتها باعتبارها القوة الأولى المهيمنة.

ولهذا السبب يجب عدم الاستهانة بخطر الحرب بين الولايات المتحدة والصين، وهذا هو السبب في أنّ غرب المحيط الهادئ يشكل برميل بارود الآن، وهو أكثر سخونة وخطراً بكثير من الحرب الجارية في أوكرانيا، حيث تتواجه الولايات المتحدة والصين من خلال حلفائهما، بينما المواجهة في المحيط الهادئ هي مباشرة بين واشنطن وبكين.

لدى الولايات المتحدة عشرات القواعد العسكرية التي تحيط بالصين من اليابان إلى الفلبين، بما في ذلك القاعدة العائمة الضخمة التي تمثل الأسطول السابع. والآن، أصبح بحر الصين الجنوبي مليئاً بالسفن الحربية المتنافسة التي تقوم بتدريبات بحرية. ومن بين الزوار الأحدث السفن من فرنسا وألمانيا، حليفتي الولايات المتحدة اللتين تم جرّهما بعيداً من منطقة التغطية التقليدية لحلف شمال الأطلسي لاحتواء الصين. ومن المعروف أنّ السفن الحربية الأميركية والصينية تلعب لعبة "الجبن"ــ تتجه كل منهما نحو الأخرى ثم تنحرف في اللحظة الأخيرة. وقد يؤدي خطأ في التقدير لبضعة أقدام إلى تصادم، مع عواقب لا يمكن التنبؤ بها. والمخاوف من أن يكون بحر الصين الجنوبي الموقع التالي للصراع المسلح المثير للذعر.

وفي ظل غياب أيّ قواعد لحل الصراعات، فإنّ الشيء الوحيد الذي يمنع الحرب هو توازن القوى. لكن أنظمة توازن القوى معرضة للانهيار، وغالباً ما تكون النتائج كارثية، كما كانت الحال في عام 1914، عندما أدّى انهيار توازن القوى الأوروبي إلى الحرب العالمية الأولى. ومع قيام واشنطن بحشد اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وخمس فرق عمل حاملة طائرات تابعة للبحرية الأميركية وحلف شمال الأطلسي وتحالف "أوكوس" المؤلف من أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، الذي تم إنشاؤه حديثاً في إطار المواجهة ضد الصين، يقوّي من فرص حدوث تمزق في توازن القوى في شرق آسيا أكثر فأكثر ويصعد من احتمال الصدام الكبير.

انتقال الهيمنة أم جمودها
يقول البعض إنّ تحوّل الإمبراطوريات إلى الهيمنة، سواء كان سلمياً أم بالحرب أمر لا مفر منه. ولكن، من الممكن مقاربة موضوع الهيمنة من زاوية أخرى، بالتحديد في حال غياب الهيمنة كما حدث عقب الحرب العالمية الأولى، حين فقدت الدول الأوروبية الغربية الضعيفة القدرة على استعادة هيمنتها العالمية التي كانت تتمتع بها قبل الحرب، في حين لم تكن الولايات المتحدة مندفعة نحو تأكيد تزعمها السياسي والأيديولوجي المهيمن.

وفي ظل الفراغ أو الجمود في الموقع المهيمن، ستظل العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بالغة الأهمية، ولكن مع عدم قدرة أيّ من الطرفين على إدارة الاتجاهات بشكل حاسم، مثل الأحداث المناخية المتطرفة، وتزايد الحمائية، وتدهور النظام المتعدد الأطراف الذي وضعته الولايات المتحدة خلال أوجّها، وعودة الحركات التقدمية في أميركا اللاتينية، وظهور تحالفات محتملة لتحل محل النظام الدولي الليبرالي المتعثر.

إنّ صناع السياسات، المحافظين والليبراليين على حد سواء، يرسمون هذا السيناريو لتأكيد لماذا يحتاج العالم إلى قوة مهيمنة، حيث يدعو المحافظون إلى جبروت أحادي الجانب لا يتردد في استخدام التهديد والقوة لفرض النظام، بينما يفضّل الليبراليون جبروتاً يتحدث بلطف، ولكنه يحمل عصا غليظة.

لا شك أنّ أزمة الهيمنة الأميركية الحالية لا تقدّم الفوضى بقدر ما تقدم الفرصة. ورغم الأخطار الكبرى التي تنطوي عليها، فإنّ جمود الهيمنة أو الفراغ في موقعها يفتح الطريق إلى عالم حيث يمكن أن تكون القوة أكثر لامركزية، إذ يمكن أن تكون هناك حرية أكبر في المناورة السياسية والاقتصادية للدول الأصغر حجماً والأقل امتيازاً أكثر حيوية خاصة لدول الجنوب العالمي الطامحة إلى بناء نظام عالمي متعدد الأطراف فعلاً من خلال التعاون بدلاً من فرضه من خلال الهيمنة الأحادية أو الليبرالية المشوشة.

نعم، إنّ أزمة الهيمنة الأميركية قد تؤدي إلى أزمة أعمق، ولكنها قد تؤدي أيضاً إلى فرصة للعالم، مهما كان "عصر الوحوش" قاسياً.

* المادة نقلت حرفيا من موقع الميادين نت