السياسية:


مجلّة "New Statesman" البريطانية تنشر مقالاً للكاتب لي سيغل، يتحدث فيه عن حادثة محاولة اغتيال دونالد ترامب وما تعكسه من وجود الكراهية في الولايات المتحدة.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

"قصة خرافية غارقة في الدماء". هكذا وصف أحدهم ذات مرة "الشياطين"، وهي رواية دوستويفسكي التي تتحدث عن انهيار سياسي جماعي. وأميركا هي قصة خرافية غارقة في الدماء، وقصة جميلة تتناول الحرية المدمّرة والمعطّلة من قبل الغاضبين بشكل خاص من الحرية.

لقد اغتيل عدد من رؤساء الولايات المتحدة، وهم أربعة، أكثر من أي دولة ديمقراطية حديثة أخرى. وليس الرؤساء فحسب، فقد خسر أشخاص ينتمون إلى مختلف المجالات حياتهم على يد أشخاص آخرين بمعدل مذهل، فلا عجب في أن يصر بعض الأميركيين على حقهم في امتلاك سلاح، وأن يصر بعضهم الآخر على نبذه. وأحياناً، تبدو عمليات الاغتيال كأنها ذروة ولع البلاد بأسلوب القتل القديم.

وقد باتت عمليات الاغتيال ومحاولات الاغتيال منتشرة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، إلى درجة أنّ من الطبيعي أن نرى محاولة اغتيال دونالد ترامب خلال تجمع حاشد في ولاية بنسلفانيا يوم السبت الماضي استمراراً للعنف السياسي الأميركي، لا سيّما في أواخر الستينيات، عندما شهدت البلاد مقتل مارتن لوثر كينغ جونيور، وروبرت إف. كينيدي، ومالكولم إكس، إلّا أن هذه الحادثة ليست كسابقاتها على الإطلاق.

في ذلك الوقت، كانت الفوضى تعم الشوارع، وبدا أنها تعود من المذبحة الأميركية في فيتنام إلى الأجواء الأميركية، ثم تخرج من جديد. وقد أحرقت أعمال الشغب العرقية الأحياء الحضرية، وقام الجنود بضرب المتظاهرين بوحشية، ولا سيّما النساء منهم، الذين تجمعوا في "ناشونال مول" في واشنطن احتجاجاً على حرب فيتنام.

وعمدت الشرطة إلى ضرب المتظاهرين الموجودين في الشوارع تزامناً مع انعقاد المؤتمر الديمقراطي لعام 1968. وقال كينغ في خطاب له: "الأمة تعاني، الشغب يعمّ الأرض". وفي اليوم التالي، تعرّض لإطلاق نار. كان الجميع يعلم بأنّ ذلك سيحدث، ويدرك القوى التي جعلت الأمر حتمياً، بما في ذلك العنصرية والفقر والحرب وإساءة استخدام القوة الأميركية في الخارج والداخل.

إنّ الولايات المتحدة تعاني اليوم، والشغب يعمّ الأرض، ولكن لماذا؟ فلا وجود لأيّ حراك جماعي ضد الوجود الأميركي في أوكرانيا؛ وقد فشلت تظاهرات الجامعات، المقفلة حالياً بسبب عطلة الصيف، في القيام بأي حراك جماهيري بشـأن غزة. وعندما استولى الطلاب على جامعة كولومبيا عام 1968، لم يحتجوا على سياسات الجامعة فحسب، بل احتجوا أيضاً على حرب فيتنام والعنصرية البنيوية الطاحنة في الستينيات (عالم بعيد عن فكرة العنصرية النظامية المجرّدة في القرن الحادي والعشرين). في المقابل، لم تكن حركة التضامن المنظمة والواسعة تلك موجودة خلال الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها الجامعات الأميركية.

ولا وجود لمواجهة أيديولوجية اليوم، كما كان الحال في أواخر الستينيات، إذ يشتري اليمين واليسار الهواتف الذكية نفسها، ويقودان السيارات نفسها، ويبثّان البرامج التلفزيونية نفسها عبر الشبكات المدفوعة، ويسعيان للحصول على القدر نفسه من الأموال. وخلافاً لما كان عليه الحال عام 1968، يذهب الجميع تقريباً إلى الجامعة. وحتى السخافات العنصرية التي حدثت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين التي قسّمت العالم، تراجعت بشكل كبير، ولم تمس حياة أولئك الذين يعيشون في الولايات الجمهورية أبداً.

أمّا على المستوى الفردي، فإنّ الاختلافات الأيديولوجية بين دونالد ترامب وجو بايدن لا تكاد تُذكر، فكلاهما متشبّث بأيديولوجيا السوق الحرة، على الرغم من شعبوية ترامب الحادة ونسخة بايدن الهادئة والمبتسمة منه، وكلاهما ملتزم بالحفاظ على الرعاية الاجتماعية والرعاية الطبية، ويُعدّ من المنفقين والمقترضين.

ومن المثير للدهشة أنّ 77% من قروض الرئيس ترامب تمت الموافقة عليها بإجماع الحزبين، في حين تمت الموافقة على 29% فقط من قروض الرئيس بايدن. وقد صرف ترامب 2.3 تريليون دولار على جائحة كوفيد، فيما صرف بايدن 1.9 تريليون دولار. وكلا الرجلين يريد ضرب الصين من خلال فرض رسوم جمركية مرتفعة.

إضافة إلى ذلك، يدعم بايدن حلف شمال الأطلسي بحماسة، في حين استفز ترامب حلف شمال الأطلسي ودفعه إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، على الرغم من كل العراقيل التي وضعها ضد هذه المنظمة في الوقت المناسب تماماً بالنسبة إلى أوكرانيا، ودفعه إلى محاسبة الصين بصورة أكثر جدية. وكلا الرجلين يواجه تحديات معرفية كبيرة تعترض طريقه للوصول إلى سدّة الرئاسة، ويتشبث بالسلطة بقوة. ويقول بايدن إنّ ترامب يشكل تهديداً للديمقراطية، فيما يقول ترامب إنّ بايدن يشكل تهديداً لفكرة أميركا العظمى.


إنّ ردود الفعل المتطرفة لليمين واليسار متشابهة؛ فمن ناحية، كانت قسوة ترامب تجاه النساء والسود والمعوقين والمحاربين القدامى الجرحى غير مسبوقة عندما كان رئيساً، وجعلت مسألة إثارة حشود كبيرة لترديد عبارة "اسجنها"، المقصود بها هيلاري كلينتون الغوغائية الأميركية، أقرب إلى العنف.

نعم، لقد كانت خطاباً، لكنه شكل تهديداً للنظام الاجتماعي الذي يجب أن يستنكر. ومن ناحية أخرى، كانت هستيريا الليبراليين التي دامت فترة أربع سنوات بشأن ترامب، والتي تم في خلالها تشبيهه على نحو منافٍ للعقل بكل طاغية متعطش للدماء في التاريخ، مجرد عاطفة تجاوزت المناسبة.

ويتجاوز كره اليمين واليسار لبعضهما بعضاً الأيديولوجيا والاقتصاد والسياسة والسياق التاريخي، فـ"القلب المتعاطف مكسور"، وفقاً لشاول بيلو، الذي أعاد صياغة عبارة "دي إتش لورانس" ذات مرة: "إننا نكره بعضنا بعضاً إلى أبعد حدود"، فهما مجرّدان من الروابط الاجتماعية، وتضغط عليهما التجارة من كل جانب، وتطاردهما الأموال، وتثبط عزيمتهما أمثلة الثروة غير الحقيقية والسلطة البعيدة مثل النجوم، ويختفيان في ثقوب الشاشات، وتخدرهما المواد الأفيونية وأدوية الأمراض النفسية، ويخافان من حوادث إطلاق النار في المدارس، ومن الافتراس والاستغلال من قبل السلطات العُليا. ونتيجة لذلك، طرد الأميركيون من التاريخ، واحتكوا ببعضهم بعضاً مثل العظام من دون غضروف. في كل يوم، تُعاد صياغة مفهوم الكراهية مع تحول التوجه السياسي إلى مُتنفس علاجي، وهو آخر عمل اجتماعي وتاريخي ومجتمعي يمكنك القيام به.

وبالتالي، لا يوجد تفسير آخر لرفع ترامب قبضته بعد إصابته بالرصاصة أو شظايا زجاج شبكي حطمته الرصاصة وهو يصرخ "قاتلوا! قاتلوا!". وفي اليوم التالي، أصدرت ميلانيا ترامب بياناً قالت فيه: "بعيداً عن اللونين الأحمر والأزرق، ننحدر جميعاً من عائلات تمتلك شغفاً للقتال من أجل عيش حياة أفضل معاً". وقد حفظ كل مؤيد لترامب في ذهنه ذكرى حثّه المتظاهرين أمام مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني/يناير 2021 على "القتال بضراوة!"، فعبارة "قاتلوا" تُعدّ بمنزلة تحريض سرّي للمختارين، ولا مجال للرحمة والشفقة.

في المقلب الآخر، كان بايدن يستغل وقته الثمين لمخاطبة الأمة ليل الأحد، ويتلعثم ويخطئ في قراءة نص تافه كان غرضه إثارة الغضب والخوف، وليس تبديدهما. وتمنّى بصورة خاطفة السلامة لترامب، وتحول إلى إشارات السادس من كانون الثاني/يناير، وإلى مؤامرة يمينية لاختطاف غريتشن ويتمر، الحاكمة الديمقراطية لولاية ميشيغين، وتعرّض بول بيلوسي، زوج نانسي بيلوسي، للضرب على يد أحد المتسللين إلى منزله في سان فرانسيسكو.

وقال إنّ "الكراهية لا مكان لها" في الولايات المتحدة، وهو صدى لشعار "الكراهية لا مكان لها هنا"، المكتوب على لافتة مناهضة لترامب. وبينما حثّ الأميركيين على "مقارنة شخصية المرشحين"، أعلن أنّ الاختيار الذي ستم اتخاذه في تشرين الثاني/نوفمبر "سيرسم مستقبل البلاد لعقود مقبلة". وبدلاً من تهدئة النفوس، أبقاها في حالة غليان عبر إلقائه خطاباً تحريضياً يهدف من خلاله إلى إنقاذ نفسه. في المقابل، سيردّ ترامب بالمثل خلال المؤتمر، فالرجلان أنانيان بشكل خسيس. وبدءاً من الآن، فإن أحدهما سيقود البلاد في المستقبل.

كتب أرسطو ذات مرة: "يمكن لأي شخص أن يغضب، وهذا أمر سهل، لكن أن تغضب من الشخص المناسب، بالدرجة المناسبة، وفي الوقت المناسب، وللسبب المناسب، وبالطريقة المناسبة، فهذا ليس بالأمر السهل". ومع ذلك، فإنّ مثل هذا التهذيب الدقيق والنبيل للغضب ضروري، ولا سيما على أعلى مستويات السياسة الديمقراطية، لكن هذا أمر مستحيل في بلد لم يعد فيه مكان لقلب متعاطف، وازدادت فيه كراهية الناس بعضهم لبعض.
* المادة نقلت حرفيا من موقع الميادين نت