"CSIS": آثار المجاعة في غزّة ستستمر لأجيال عديدة
السياسية – متابعات: الكاتب: زاين سوانسون
مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "CSIS" الأميركي ينشر تقريراً لـ "زاين سوانسون" الباحث في برنامج الأمن الغذائي والمائي العالمي في المركز نفسه، يشرح فيه الوضع الحالي للأمن الغذائي في غزّة، وعواقب المجاعة على أجيال القطاع.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
لا يزال زعماء العالم وصنّاع القرار مترددين بشأن مسألة المجاعة في غزة. وقد وصف البعض أزمة الجوع في غزة بأنّها مجاعة - ولا سيما رؤساء الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) وبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فضلاً عن المحكمة الجنائية الدولية (ICC) - في حين يواصل آخرون التحوّط، ويقولون إنّه لا يوجد أي شكل رسمي من أشكال المجاعة.
وسواء تم إعلان المجاعة رسمياً في غزة أم لا، فإنّ أزمات الجوع وسوء التغذية الحالية ستؤثر في سكان غزة لأجيال.
ما الوضع الحالي للأمن الغذائي في غزة؟
تستمر ظروف الجوع والسلامة الصحية في التدهور في قطاع غزّة. ذكرت شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة (FEWS NET)، ومقرّها الولايات المتحدة، في تقريرها الأخير، الذي نُشر في 31 أيار/مايو 2024، أنّه من المحتمل أن تكون المجاعة قد بدأت في شمال غزة في نيسان/أبريل من هذا العام. وتوقعت أن تستمر المجاعة حتى شهر تموز/يوليو على الأقل في حال لم تحدث تغييرات كبيرة في تقديم المساعدات الغذائية.لا يرقى هذا التحليل إلى مستوى إعلان رسمي للمجاعة، على الرغم من أنّ العديد من كبار صنّاع القرار قد ذكروا أنّ المجاعة موجودة في غزة، بما في ذلك مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية سامانثا باور، ومديرة برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة سيندي ماكين، والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان. وقد توصل التقرير الأخير إلى التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC) عن غزة إلى نتيجة مماثلة، ومن المتوقع صدور تقرير جديد عن التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي في وقت قريب.
فبعد تسعة أشهر على 7 تشرين الأول/أكتوبر وإعلان "الحصار الكامل" على غزة، تجاوز عدد الضحايا الفلسطينيين في غزة 37 ألف شخص. إنّ التقليص المتعمّد للطعام والمياه والطاقة والمساعدات الإنسانية التي تدخل غزة يترك أكثر من 1.1 مليون شخص يواجهون ظروفاً معيشية كارثية. ومع التوغل الأخير في رفح، هناك نحو مليون نازح فلسطيني إلى المدينة، عليه أن يعاود البحث عن الأمان في أماكن أخرى؛ خوفاً على سلامته والانقطاع الشديد للمساعدات الإنسانية.
وفي السابق، كان معبر رفح وكرم أبو سالم في جنوب غزة بمنزلة نقاط الوصول الرئيسية لتدفق الإمدادات التجارية والإنسانية إلى المنطقة. ومع ذلك، منذ بدء العمليات العسكرية في رفح في مطلع أيار/مايو، انخفضت المساعدات التي تدخل عبر هذين المعبرين إلى أدنى المستويات التي شهدتها طوال الحرب، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أنّ المساعدات التي تدخل قطاع غزة بأكمله قد انخفضت بنسبة الثلثين. كما اضطرت مرافق الإغاثة العاملة في رفح إلى إغلاق عملياتها. فقد علّقت الأمم المتحدة، على سبيل المثال، توزيع المواد الغذائية بسبب نقص الإمدادات وتزايد المخاوف الأمنية.
وقد أدرك المجتمع الدولي بشكل متزايد مدى خطورة الأزمة الغذائية في غزة. في أيار/مايو، طلبت المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتهمة المسؤولية الجنائية عن جرائم حرب شملت "تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب". وفي حين زعم المسؤولون الإسرائيليون أنّ خطط زيادة المساعدات لغزة تظل أولوية، فإنّ أكثر من 12 وكالة إغاثة تؤكد أنّ الاستجابة الإنسانية "على وشك الانهيار". وينضم الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في أيار/مايو إلى عدد متزايد من الأصوات التي تطالب "إسرائيل" بوقف هجومها العسكري في رفح، وحتى الآن، لم تتم الاستجابة لهذه الدعوات.
في حين أنّ لجنة مراجعة المجاعة - وهي فريق من خبراء الأمن الغذائي والتغذية المستقلين الذين تم تجميعهم لمراجعة تصنيفات المجاعة - لم تتوصل بعد إلى نتيجة نهائية بشأن المجاعة في غزة، فمن المهم الأخذ في الاعتبار أنّ الجوع لفترات طويلة، قد يسبب الوفاة، والوصول إلى حالة المجاعة الحادة. ويوجد بالفعل قدر كبير من الأدلة على الآثار الحادة لسوء التغذية على أطفال غزة. وبالإضافة إلى ضحايا العنف ومئات الآلاف من الأطفال الذين شردوا داخلياً، ففي شمال غزة ربما يموت ما يصل إلى 4 من كل 10 آلاف طفل بسبب الجوع يومياً.
ما العواقب الصحية المباشرة لانعدام الأمن الغذائي والمجاعة؟
بالنسبة إلى الأطفال، يمكن أن يؤدي سوء التغذية الحاد الوخيم، الذي يُعرف بالهزال الشديد المرتبط بعدم كفاية الطاقة أو تناول المغذيات، إلى عدد لا يحصى من النتائج الصحية السلبية الخطيرة، بما في ذلك:تقييد النمو (التقزم)
الخلل الأيضي
الاختلالات الهرمونية
تثبيط كفاءة الجهاز المناعي
تلف نظام الأعضاء (على سبيل المثال، ضعف نمو الدماغ ووظيفة القلب)
سريرياً، يتم تقييم سوء التغذية الحاد بناءً على السمات التشخيصية التي تشمل الهزال، والذي يحدث عندما يكون وزن الطفل أقل بكثير من وزنه بالنسبة إلى طوله. على الصعيد العالمي، تظهر علامات الهزال على أكثر من 45 مليون طفل، ويؤثر سوء التغذية الحاد الشديد في نحو 19 مليون طفل دون سن الخامسة. واليوم، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يتسبب سوء التغذية الحاد الشديد في ما يقدر بنحو 400 ألف حالة وفاة بين الأطفال دون سن الخامسة سنوياً، وتأتي العديد من هذه الوفيات نتيجة مضاعفات إضافية تتعلق بالأمراض والالتهابات المزمنة المرتبطة بالمجاعة.
ولكن بالنسبة إلى أطفال غزة الذين يعانون من سوء التغذية والذين نجوا من الحرب، فإنّ عواقب الصراع لن تنتهي عندما يتوقف القتال، بل ستستمر العواقب لأجيال.
فعلى الرغم من إمكانية علاج سوء التغذية الحاد من خلال التدخل الغذائي، فإنه يمكن أن يؤدي إلى حالات لا رجعة فيها. فيمكن أن يؤدي التعرض لسوء التغذية في مرحلة الطفولة إلى الإصابة بالأمراض غير المعدية وانخفاض وظائف المناعة طوال الحياة اللاحقة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي التأخر في النمو المرتبط بسوء التغذية إلى ضعف دائم في القدرة الإدراكية والمهارات الحركية، وزيادة خطر حدوث مشكلات سلوكية، وانخفاض كبير في التحصيل التعليمي. وبمعزل عن ذلك، فإنّ الأضرار الناجمة عن سوء التغذية تحرم الأفراد من صحتهم ورفاهتهم وإمكاناتهم الاقتصادية. وبشكل جماعي، فإنّ الأضرار التي لحقت بالسكّان الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الشديد تشكل تحديات كبيرة للصحة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات والبلدان التي يعيشون فيها. وهذه العلاقة العكسية بين سوء التغذية والتقدم تؤدي إلى إدامة حلقة مفرغة. وتؤدي ظروف الفقر وانعدام الأمن الغذائي المجتمعية إلى زيادة معدلات سوء التغذية، ما يعوق بدوره تنمية المجتمع، ويزيد من خطر انتشار سوء التغذية على نطاق واسع.
كذلك، يمكن أن يظهر سوء التغذية خلال فترات مثل الحمل أو المراحل الأولى من الحياة، ويؤدي إلى تغيرات بيولوجية دائمة يتم ترميزها على المستوى الجيني. وتقدم المجاعة الهولندية في الفترة 1944-1945، والتي يشار إليها أحياناً باسم شتاء الجوع الهولندي، نظرة ثاقبة لتأثيرات المجاعة على الأجيال. في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، قطعت ألمانيا النازية جميع الإمدادات الغذائية عن مناطق غرب هولندا، ما أدّى إلى ظهور سريع للمجاعة التي استمرت ستة أشهر فقط، من تشرين الثاني/نوفمبر 1944 إلى أيار/مايو 1945. وقد شهدت تلك الأشهر الحرمان الشديد وأدّت إلى وفاة أكثر من 20 ألف شخص بسبب المجاعة. وفي الوقت نفسه، سمحت الرعاية الطبية التوليدية المستمرة وحفظ السجلات الدقيقة بجمع بعض أقوى البيانات حول العواقب التنموية للجوع الحاد. وفي هذا السياق، كشفت الدراسات اللاحقة أنّ التعرض قبل الولادة لبيئة شديدة الحرمان من السعرات الحرارية أدّى إلى تغيرات جينية لدى النساء الحوامل أثناء المجاعة، وارتبط بعدد من النتائج الصحية الجسدية والعقلية السلبية لأولئك الأفراد أنفسهم في وقت لاحق من الحياة. وشملت العواقب زيادة خطر الإصابة بمرض السكري من النوع 2، وزيادة انتشار سرطان الثدي بين النساء، وارتفاع معدلات القلق والاكتئاب بين الرجال.
ومثل أولئك الذين عاشوا شتاء الجوع الهولندي، فإنّ أولئك الذين تعرضوا للجوع أثناء الحرب في غزة وأماكن أخرى سوف يواجهون هذه الآثار الفيسيولوجية الدائمة الناجمة عن سوء التغذية، والتي تتفاقم بسبب العواقب العنيفة المباشرة للحرب.
ما العواقب طويلة المدى التي سيواجهها الغزّيون؟
في حين يواجه الأطفال في غزة التهديدات الحادة والمزمنة لسوء التغذية، فإنهم مجبرون أيضاً على مواجهة الخسائر الجسدية والنفسية والاجتماعية العميقة الناجمة عن العنف الشديد الذي تعرضوا له خلال الحرب. وفي نيسان/أبريل، أشارت تقديرات منظمة "اليونيسف" إلى مقتل أو إصابة طفل كل عشر دقائق في غزة. وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية فإنّ 7797 طفلاً قتل حتى الآن، وهو ما يشكّل 32% من إجمالي عدد القتلى الذين تم إحصاؤهم. ومع ذلك، من المحتمل أن يكون هذا العدد أقل من الواقع، إذ إنّ أكثر من 10 آلاف ضحية فلسطينية لم يتم التعرف إليها حتى الآن.وتشير تقديرات أخرى إلى أنّ ما يصل إلى 26 ألف طفل فلسطيني قتلوا أو جرحوا في الحرب. ونظراً إلى طبيعة الصراع، فإنّ العديد من الجروح التي يعاني منها الأطفال الفلسطينيون تغيّر حياتهم. إنّ المعدلات المرتفعة لعمليات بتر الأطراف لدى الأطفال، وخطر إصابات الدماغ البالغة، والتعرض البيئي الخطير، تنذر بمعاناة وإعاقة طويلة الأمد للكثيرين. ومع ذلك، فإنّ أطفال غزة ومجتمعاتهم سيواجهون المزيد من التحديات.
ويؤدي العنف، والاضطراب الاجتماعي، والنزوح القسري في مرحلة الطفولة المبكر إلى زيادة حالات القلق والاكتئاب واضطرابات التوتر، فضلاً عن خطر تدهور الصحة البدنية والعقلية على مدى العمر. وكما هي الحال مع تجربة سوء التغذية، فإنّ التعرض للحرب في وقت مبكر من الحياة يمكن أن يؤدي إلى تغيرات فسيولوجية وجينية دائمة يتردد صداها عبر الأجيال القادمة.
إنّ الإجهاد السام على مدى فترات طويلة من الزمن أو من خلال فترات شديدة من المشقة، يعطل النمو الصحي، وسيؤدي هذا إلى عبء كبير للغاية على غزة بمجرد انتهاء الحرب، إذ أدّت عقود من عدم الاستقرار والمظالم الاجتماعية بالفعل إلى انعدام الأمن على نطاق واسع، وقد تفاقم الآن بسبب الحرب. وحتى قبل الحرب، كان أكثر من نصف الأطفال يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وأفاد نحو 60% منهم أنّهم تورطوا في إيذاء أنفسهم بسبب الاكتئاب والخوف والحزن. هذه الأرقام، مثل عدد الأطفال الذين أصيبوا بسوء التغذية والإصابات والوفيات، سوف تزداد سوءاً مع استمرار الصراع.
ما الذي يجب فعله لمنع الضرر الدائم للمجاعة والحرب؟
في حين أنّ الدعوات إلى وقف فوري لإطلاق النار لا تزال تتزايد، ما من شأنه أن يسمح بزيادة الوصول بسرعة إلى المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة، فمن الواضح أنّ ضرراً لا يمكن إصلاحه قد حدث بالفعل في غزة. ما يقرب من نصف سكان غزة هم تحت سن 18 عاماً. وبما أنّ الأطفال يتأثّرون بشكل غير متناسب بالصراع المسلح وسوء التغذية ويشكّلون في الوقت نفسه نسبة كبيرة من سكان غزة، فإن التأثيرات على الصحة البدنية والعقلية ستكون لها تداعيات خطيرة وواسعة النطاق. كما أن النساء الحوامل والمرضعات، مثل الأطفال، معرضات بشدة لآثار انعدام الأمن الغذائي الشديد. وفي جميع أنحاء شمال غزة، أبلغت 95% من النساء الحوامل والمرضعات عن عدم كفاية المدخول الغذائي، حيث يستهلكن مجموعتين غذائيتين أو أقل يومياً. ولذلك فمن المؤكد أنّ العواقب الصحية المزمنة التي خلقتها هذه الحرب سوف يشعر بها أولئك الذين لم يولدوا بعد لعقود من الزمن وسيتوارثونها.إنّ الأدلة على العواقب الصحية الناجمة عن الصراعات والمجاعات تقدم تحذيراً واضحاً للمجتمع العالمي الذي لا يزال يتصارع مع أزمات غذائية واسعة النطاق. ومثل هذه الظروف لها آثار كبيرة على الأمن الجيوسياسي. ومن دون دعم كبير، من المرجح أن تؤدي الأضرار الفسيولوجية والنفسية المتأصلة الناجمة عن الجوع والعنف إلى إعاقة التنمية الاقتصادية المستقبلية في غزة. وفي مختلف أنحاء العالم، تشير الظروف الإنسانية التي خلقتها الحرب إلى تهديدات ناشئة.
يجب أن تشمل معالجة انعدام الأمن الغذائي استراتيجيات شاملة وطويلة الأجل تعالج الارتباط المدمّر والمستدام بين الصراع والجوع. ويجدر التركيز على الوقاية بشكل استباقي من الجوع في العالم بدلاً من معالجة نتائجه القاتلة بشكل تفاعلي، إذ إنّ عواقب انعدام الأمن الغذائي التي تمتد على مدى أجيال سوف تستمر. وسيشمل هذا التركيز المتجدد مراعاة التوجيهات الواضحة للهيئات الحكومية الدولية والالتزام القوي بالقرار 2417 (2018) الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي يدين استخدام الغذاء كسلاح في الصراعات وحرمان المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة، فضلاً عن دعم التسويات السياسية في مناطق الصراع التي تؤدي إلى انعدام الأمن الغذائي الشديد.
* نقلته إلى العربية: بتول دياب
* المصدر : الميادين نت
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع