وليد الهودلي*

 

 

شهر رمضان بداية يثير في قلوبنا وقلوبهم ذكريات انتصر فيها المسلمون انتصارات عظيمة خلّد ذكرها القرآن، بدءاً من معركة الفرقان في بدر والأحزاب وفتح مكة وتبوك، واستمراراً للفتح العمري للقدس الذي أسست له سورة الإسراء… إلخ. ويثيرها القرآن ويثوّر ما فيها من معانٍ عظيمة بقيت خالدة وقادرة على إنتاج الفعل وتثوير المؤمنين إلى يومنا هذا، وحيث يقبل الناس على قراءة القرآن فسيمرّون بها لتثير في صدورهم تلك الذكريات المحمّلة بقيم الحريّة والشجاعة والنخوة الإيمانية في مواجهة الظالمين، وتشعل نار الثورة والجهاد وارتفاع منسوب التضحية في سبيل الله ونصرة للحقّ وأهله.

وكذلك على مرّ التاريخ الإسلامي نجد معارك فاصلة انتصر فيها المسلمون في رمضان، وفي أيامنا هذه يستذكر المحتلّون ما جرى لهم في شهر رمضان حيث سمّوه “شهر الدمّ” من كثرة ما وقع فيه من بطولات وتضحيات.

من المعروف أن شهر رمضان هو شهر القرآن، وهو كتاب شامل لكلّ ما يحتاج إليه الناس في كلّ شؤونهم الإيمانية العقائدية والتربوية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن الأمور التي اهتم بها وأولاها مساحة واسعة وجعلها ذروة سنام الإسلام هي فريضة الجهاد، وهذه هي التي تحرّر أمّة الإسلام من التبعية والخضوع والاستعباد وتجعلها أمّة ذات هوية ثقافية مستقلّة تستعصي على المستكبرين، هذا الجهاد يجعلها ذات سيادة مستقلّة وذات قوّة تحفظها من اعتداء المعتدين وظلم الطاغين.

القرآن كتاب يحرّض المؤمنين على الجهاد ومواجهة الطغاة، ويستثمر في حقل المشاعر الإيمانية التي تمتلئ بها الصدور في رمضان، فيجيّش هذه المشاعر ويوظّفها في إنتاج الجهاد والثورة. ويرتكز في ذلك على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزواته المظفّرة مع صحابته الكرام، ممّا يزيد التحريض بتوظيف المحبة المشتعلة حبّاً لرسول الله.

وقد طلب الله من رسوله أن يحرّضهم على القتال: “وحرّض المؤمنين على القتال”. ولا يقف القرآن عند حدود تحريض المؤمنين، بل يذهب بقوّة في مهاجمة المنافقين والمثبّطين الذين يروق له الخنوع والاستسلام والركون إلى الذين ظلموا. وكذلك فإن القرآن الكريم لا يقبل من المؤمنين تجزئته بأخذ بعضه وترك البعض الآخر، أو التعامل معه بشكلية وضعف وغير ذات الشوكة بعيداً عن جوهره وما فيه من قوّة وبنيان قوي للمجتمع المؤمن، ولا يقبل أن نأخذ منه ما نستسهله ونترك الواجبات والفرائض التي تقيم للأمّة قوّتها وتجعلها ذات شوكة مهابة عزيزة غير قابلة للاستعمار والاستحواذ أبداً.

القرآن كتاب تعبئة جهادية ثورية بامتياز، فيه سور كاملة جلّها عن الجهاد في سبيل الله، تبدأ بالفاتحة عندما يتبرّأ المسلم من المغضوب عليهم والضالين ويفاصلهم مفاصلة تامة، ثم البقرة وما فيها عن بني إسرائيل وصفاتهم الملتوية النكدة، وتوقفك عند طالوت وجالوت وغلبة الفئة القليلة على الكثيرة، ثم آل عمران ومعادلات النصر والهزيمة في بدر وأحد، ثمّ الأنفال والتوبة ومحمد وسورة القتال والفتح، والحديد والحشر والصفّ، لتجد نفسك أمام أعظم كتاب ثوريّ وجهاديّ وأمام تربية فريدة في هذا الميدان العظيم.

ورمضان شهر الحريّة والتحرير، إذ يبدأ فعله في تحرير النفس من شهواتها ورغباتها والارتحال طواعية إلى ما يريده الله منها، يتحرّر من الحيّز الخاص إلى الحيّز العام، يدور في فلك قضية ورسالة سماويّة، إن هذا التحرّر من عالم الشهوات يجعلها أكثر قدرة على تحقيق الانتماء العميق لهذا الدين، ثم يرتفع درجة ليمتلك قدرة عالية على التضحية من أجله، رمضان خاصة إذ رافقه الوعي من خلال هذا الالتصاق بالفهم القرآني، وفهم فقه الصيام يدفع المسلم ليكون أكثر تضحية ويؤهّله بعد أن يتحرّر من أدران الأنا الصغيرة إلى أن يعيش حرّاً عزيزاً قادراً على حمل راية الجهاد، والاستعداد الكامل لبذل الغالي والرخيص للغاية العليا التي يزرعها رمضان في قلبه.

ثم إنّ شهر رمضان يعلّق المؤمنين بالآخرة ويخفّف من تعلّقهم بالدنيا، ومن الذي يحول بين المؤمن والجهاد في سبيل الله، هذا التعلّق الكبير في الدنيا على حساب طلب الآخرة، وقد شخّص القرآن هزيمة أحد: “منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة”، فالذين نزلوا عن الجبل للغنائم كانوا السبب في الهزيمة. وهذه معادلة هامّة في الارتقاء بمستوى الاهتمامات العالية والاستعداد الكامل للتضحية في سبيلها، وهذا يؤكد دور مفهوم الشهادة عند المسلمين في دفعهم للجهاد والتضحية في سبيل الفكرة الإيمانية وانتصارها، وانتصار القيم التي جاء بها الإسلام.

وقد أفرد القرآن مساحة واسعة جداً للحديث عن بني إسرائيل، فقارئ القرآن في رمضان سوف ينظر صورتهم ليراها جليّة واضحة، وينظر إلى واقع اليوم ليرى صنيعهم:

الإبادة الجماعية التي يمارسونها على الشعب الفلسطيني والفساد المنتشر عالمياً بسببهم، حيث حطّت رحالهم فرَشَ الفساد وتربّعَ، يرى المسلم صورة جبلتهم النكدة وكيف حذّرنا القرآن منهم وعرّفنا إليهم جيّداً بالتفصيل، ثمّ تراه يلتزم موقفاً بشكل قوي وسريع بأنه لا يمكن أن يمرّر حكاية التطبيع، وأنه ليس لهم منّا إلا العداء ومعاملة النقيض للنقيض، وأنه لا بدّ وأن يكون داعماً للفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية بكلّ ما أوتي من قدرة وجهد، خاصة عندما ينظر ويرى ممارساتهم العدوانية أيضاً على المسجد الأقصى وهو يقرأ  سورة الإسراء ويصل إلى قداسة المسجد الأقصى ثم يرى تدنيسهم له صباح مساء.

وكذلك نجد أيضاً أنّ آلية عمل الصيام بإغلاق روافد الشهوات والتعلّق في الدنيا نهاراً وتعليق القلب برسالة القرآن من خلال القيام به ليلاً، هو تعهّد تربوي كامل لتحقيق حريّة الإنسان من كل ما يحول بينه وبين تحقيق سيادته على أرضه وحياته، وتحقيق كرامته وكرامة شعبه وأمّته، والاستعداد الكامل للتحرّر من الاحتلال والاستعباد والاستعمار بكلّ أشكاله، والاستحواذ من أيّ جبروت أو قوّة على هذه الأرض مهما بلغت.

لكلّ هذا فإنهم يرتعبون من رمضان. هم ومستشرقوهم يعرفونه جيّداً ويعرفون أثره وفعله في نفوس المسلمين. وأمامنا أيضاً النموذج القرآني الرمضاني الفريد الذي أنتجته مساجد غزّة وعلماؤها، ومن خلال هذه الثقافة الدينية التي تحرّر الإنسان والتي توّجت بالفتح العظيم يوم السابع من أكتوبر، وهذه القدرة العالية على مواجهة جبابرة الأرض في حرب عالمية على أرض غزّة فإنهم يزدادون رعباً وهلعاً من رمضان.

اليوم أنتجت هذه الثقافة الدينية القرآنية الرمضانية ثورة ونجحت في كسر كلّ قواعد الظلم والطغيان بفكّ رموزها على أهم قاعدة لهم في المنطقة، وقامت بكسر عنجهيتها المستكبرة، لقد ثبت عمليّاً أن العقل المسلم قادر على التغلّب على عقولهم، وأن القلب المسلم قادر على الثبات أمام كلّ ترسانتهم، ولو صبّت عليهم من كل صوب وحدب، وأنّ الفعل المسلم قادر على مواجهة فعلهم المجرم ولو من قبل فئة قليلة بإمكانات محلية ضئيلة تواجه كلّ جيوشهم البرية والجوية والبحرية وبمدد من كل المستكبرين في الأرض.

رمضان قادم ولعلّ الله أن يحرّك جموع الأمّة كما تحرّكت غزّة ومحور المقاومة من اليمن إلى لبنان والعراق، عندئذ ينتج رعبهم من رمضان أعظم هزيمة يسجّلها التاريخ، وما ذلك على الله بعزيز.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن رأي الكاتب