من اليابان إلى فلسطين.. كيف جردت أميركا أعداءها من إنسانيتهم وبررت سحقهم!
السياسية :
مخطئ من يظن أن تماهي الولايات المتحدة وتأييدها مذابح الاحتلال الإسرائيلي ومجازره في غزة وانخراط المؤسسات الأميركية المختلفة، وتحديداً الإعلامية منها، لا سيما كبريات الصحف والقنوات التلفزيونية، في المعركة بلا هوادة إلى جانب “إسرائيل”، وتجاهلها الإبادة الجماعية القائمة، وحجبها حقائق استهداف المدنيين والأطفال عمداً، وقيامها بالتحريض على المزيد من القتل تارة، وتشريعها سحق الفلسطينيين بعد تجريدهم من إنسانيتهم طوراً، مخطئ من يظن أنه سلوك يرتبط فقط بالحلف الاستراتيجي بين واشنطن و”تل أبيب” أو بموقع الكيان ووظيفته بالنسبة إلى الغرب أو بالانتماء الديني من خلال “الصهيونية المسيحية” أو أنه نتجية لنفوذ اللوبي اليهودي وقوته هناك فحسب.
لكن الحقيقة في أن ذلك مسار تاريخي متجذّر في ثقافة الأميركيين المتخمة بالشرّ، بعدما تم مدّها وتعزيزها بمنسوب هائل من التعصب والكراهية وشيطنة الخصم بكل الوسائل والأساليب، وصولاً إلى تبرير قتله وسحقه.
نتوقف هنا عند نموذجين جديرين بالتأمل لمعرفة حقيقة الموقف الأميركي هما: التعامل الأميركي مع الشعب الياباني بعد الهجوم على الأسطول الحربي الأميركي في “بيرل هاربر” عام 1941، والمواكبة الإعلامية الأميركية للعدوان الأخير على غزة.
كيف تعاملت أميركا مع اليابانيين بعد هجوم “بيرل هاربر”؟
بعد هجوم “بيرل هاربر” الذي حدث من عشرات الطائرات اليابانية ضد الميناء الأميركي في إطار الحرب العالمية الثانية، انفجر التعصب ضد اليابان، فجمع الرئيس الديمقراطي فرانكلين روزفلت حينها نحو 125 ألف أميركي ياباني، وهم الغالبية العظمى من السكان الذين يعيشون في البر الرئيسي للولايات المتحدة في ذلك الوقت، ووضعهم في معسكرات اعتقال.
تم التعامل مع اليابانيين حينها على أنهم “دون منزلة البشر”، ففي حين انخطرت بعض النخب الثقافية والإعلامية الأميركية في حملة رسوم كاريكاتورية عنصرية بشعة ضدهم، لم يتردد الجيش الأميريكي في التمهيد لتصفية السكان المدنيين اليابانيين، عبر الادعاء بأنه “لا يوجد مدنيون في اليابان”، كما أعلن ضابط مخابرات في سلاح الجو، إذ اعتبر جميع السكان “هدفاً عسكرياً مشروعاً”، وهي وجهة نظر يدافع عنها البعض حتى يومنا هذا، كما كتب جون دوير (أحد المحامين الأميركيين المشهورين المدافعين عن الحقوق المدنية) في كتابه: “حرب بلا رحمة: العرق والقوة في حرب المحيط الهادئ”، إذ قال: “لقد كان يُنظر إليهم على أنهم عرق متباعد، فلم يكن هناك نظير ياباني لـ”الألماني الجيد” في الوعي الشعبي للحلفاء الغربيين”. على سبيل المثال، أكد الحلفاء الغربيون باستمرار الطبيعة “دون الإنسانية” لليابانيين، وكانوا يلجأون بشكل روتيني إلى صور القردة والحشرات لتصويرهم.
أكثر من ذلك، وصل “الاحتقار” الأميركي الشديد لليابانيين إلى مستويات قياسية، إلى حدّ أنه جرى تصويرهم على أنهم رجال ونساء أدنى مرتبة بطبيعتهم، ويجب فهمهم من حيث البدائية والصبيانية والنقص العقلي والعاطفي الجماعي.
لهذا، اغتنم رسامو الكاريكاتور وكتّاب الأغاني وصانعو الأفلام والمراسلون الحربيون ووسائل الإعلام بشكل عام هذه الصور لإثبات الاعتقاد بأن اليابانيين كانوا عدواً هائلاً وحقيراً بشكل فريد ولا يستحقون أي رحمة ويطالبون فعلياً بالإبادة.
وبناء عليه، إذا نظرنا إلى الوراء، يمكننا أن نتعرف إلى ذلك من الطريقة التي تم بها تصوير الألمان خلال الحرب العالمية الأولى – فقد صور أحد الملصقات سيئة السمعة للجيش الأميركي ألمانيا على أنها قرد يحمل هراوة ملطخة بالدماء، مع عبارة توضيحية تقول: “دمر هذه الوحشية المجنونة” – وعلى النهج ذاته تم التعامل مع المسلمين بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001.
“إسرائيل” وتحويل عدوانها إلى “دفاع عن النفس ضد مهووس قاتل”
هذه الأنواع من القصص عن الآخر المخيف حاضرة لدى الغرب بشكل عام في أوقات الحروب. وبناء عليه، لاحظ جورج أورويل في عام 1937 أن “كل حرب لا يتم تمثيلها كحرب، بل كعمل من أعمال الدفاع عن النفس ضد مهووس قاتل”.
من هنا، وعند النظر في مشهد التعاطي الإسرائيلي الحالي، السياسي والإعلامي مع الشعب الفلسطيني، نجد السياسة نفسها قد حدثت بالفعل؛ فملحمة “طوفان الأقصى” دفعت الإسرائيليين إلى الجنون، فأرادوا الانتقام، وأدركوا أن التعاطف مع “الجانب الآخر” غير متوفر، بعدما نجحوا في إظهار “العدو” (الشعب الفلسطيني) وحشياً وأفعالهم دفاعية بحتة. لذا، لم يميّزوا بين المدنيين والمقاتلين على الجانب الآخر.
وتبعاً لذلك، ومنذ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، استهلكت “إسرائيل” بالكامل هذه السياسات المألوفة. وحتى في الوقت الذي تقوم بتجويع سكان غزة حتى الموت، وتفجّر آلاف الأطفال إرباً إرباً، فإن الغالبية العظمى من الإسرائيليين يعتقدون أن حكومتهم تستخدم القدر المناسب من القوة أو قوة غير كافية.
كيف يخوض الإعلام الأميركي المعركة إلى جانب “إسرائيل”؟
اتسمت التغطية الصحافية في وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية بالممارسات الفضائحية البعيدة كل البعد عن القواعد والقوانين المهنية والأخلاقية المتبعة في مهنة الصحافة، حتى إنها تفوقت في عدم موضوعيتها وخروجها عن الحياد وانحيازها الأعمى إلى “إسرائيل” على نظيراتها في الأنظمة الاستبدادية والشمولية.
بالنسبة إلى الغالبية العظمى من وسائل الإعلام الأميركية، فإن معاناة الإسرائيليين أكثر أهمية بكثير من معاناة الفلسطينيين. لذا، إن أعداد الوفيات الفلسطينية (بسبب القصف الإسرائيلي) والمجازر الإسرائيلية حظيت بأهمية أقل بكثير من الخسائر الإسرائيلية، حتى إن صحيفة “واشنطن بوست” كانت قد نشرت (قبل حذفها تحت الضغط الشعبي) رسماً كاريكاتورياً دعائياً سيئاً يظهر “عنصراً من حماس داكن البشرة يربط أطفالاً بجسده”.
في الأسابيع الأخيرة أيضاً، لم تتردد أهم الصحف وشبكات التلفزيون الأميركية الكبرى في الترويج للعنصرية وإشاعة الكراهية والتحريض العلني على العرب والفلسطينيين مع 3 حالات، تتمثل بالتالي:
– صحيفة “وول ستريت جورنال” نشرت مقالة افتتاحية في الثاني من شباط/فبراير، وصفت فيها مدينة ديربورن في ولاية ميشيغين بأنها “عاصمة الجهاد الأميركية”.
وبالنظر إلى العنوان التحريضي، قد يعتقد المرء أن الكاتب ستيفن ستالينسكي كشف عن أدلة على أن نوعاً من العنف السياسي أو “الحرب المقدسة”، كما يتم تفسير كلمة “الجهاد” غالباً في الغرب، كان يحدث في ديربورن. والأنكى أن ستالينسكي لم يكتفِ بذلك، بل مضى في تحريضه وتعبئة وتجييش القارئ الأميركي، بقوله إن بعض المسلمين في ميشيغين “لا يحبون إسرائيل كثيراً”.
علاوة على ذلك، كانت الافتتاحية مليئة بالتخويف من الإسلام، إذ اختار الكاتب تعبيرات معينة عن الغضب، كما هو الحال عندما نقل عن أحد الأئمة المسلمين إن “أفعال إسرائيل ملأت قلوبنا ناراً ستحرق تلك الدولة”، زاعماً أنهم يمثلون الجالية المسلمة في ميشيغين ككل.
هنا، لا بد من ذكر ما أوردته صحيفة “ديترويت فري برس” أنه منذ نشر مقال ستالينسكي، تم توجيه “أسراب من الكراهية عبر الإنترنت” نحو المجتمع المسلم في ديربورن، ما دفع رئيس البلدية عبد الله حمود إلى تشديد الإجراءات الأمنية حول المساجد وأماكن العبادة الأخرى.
ليس هذا فحسب، فقد استخدمت صحيفة “وول ستريت جورنال” عنوانها الرئيسي “شيكاغو تصوت لحماس” للتحريض ضد المدينة عندما دعت شيكاغو إلى وقف إطلاق النار في غزة في نهاية كانون الثاني/يناير.
وبالمثل، تميزت شبكة CNN في تغطيتها للحرب الدموية في غزة بالتحيز المنهجي المناهض للفلسطينيين. وتلخيصاً لشهادات 6 موظفين مجهولين، ذكرت صحيفة “الغارديان” أن شبكة “سي إن إن” لديها “قيود مشددة على نقل آراء حماس ووجهات نظر فلسطينية أخرى” على المستوى المؤسسي، في حين أن “التصريحات الرسمية الإسرائيلية غالباً ما يتم الأخذ بها، وعلى الهواء بسرعة، بناء على مبدأ أنه يجب الوثوق بهم في ظاهر الأمر، وأنهم مؤهلون للبث بشكل تلقائي”.
الأكثر أهمية أن صحافيي شبكة “CNN” اعترفوا بأنهم تلقوا تعليمات بإدراج عبارة “تسيطر عليها حماس” في أي وقت يستشهدون بإحصائيات وزارة الصحة في غزة، لإضفاء الشك ضمنياً على شرعية قتل المدنيين في القطاع، بالرغم من أن هذه الأرقام تخضع للتدقيق من قبل العديد من المراقبين الخارجيين، بما في ذلك “إسرائيل” نفسها.
وأفاد هؤلاء الصحافيون بأنه تم تداول مذكرات في جميع أنحاء غرفة الأخبار تأمرهم بالتأكيد دائماً أن حماس هي “سبب هذا الصراع الحالي”، متجاهلين عقوداً من الاحتلال والقتل والتدمير والإحراق في فلسطين قبل 7 أكتوبر.
وفي الوقت نفسه، سمح مذيعون بارزون مثل أندرسون كوبر للمسؤولين الإسرائيليين الحاليين والسابقين الذين استضافوهم في القناة، مثل رئيس الموساد السابق رامي إيغرا، بقول أشياء تحريضية بشكل صارخ، وكان يقابل ذلك بعدم التدخل من قبل المقدّمين خلال المقابلات.
فضيحة توماس فريدمان!
في عمود بعنوان “فهم الشرق الأوسط من خلال مملكة الحيوان”، قرر الكاتب سيئ السمعة في صحيفة “نيويورك تايمز” والمؤيد لحرب العراق، توماس فريدمان، أن مقارنة مجموعة متنوعة من المسلمين والعرب بالحشرات الطفيلية هي فكرة جيدة، فكتب عموداً (صحافياً) مليئاً بالعبارات والأوصاف العنصرية بشكل مذهل، محاولاً إلصاق صفات معينة مرتبطة “بالحشرات الطفيلية” بدول عديدة في الشرق الأوسط، ومحاولة تصوير العلاقة بين هذه الدول كأنها تشبه العلاقة بين هذه الحشرات، في صياغة ركيكة ولا تمت إلى الأصول الصحافية وحتى العلمية بأي صلة.
وفي مقاله، استهدف فريدمان دولاً معينة وركز عليها، وهي إيران والعراق وسوريا واليمن ولبنان، إضافة إلى منظمات وفصائل مثل حرس الثورة الإيراني وحزب الله في لبنان وحماس في فلسطين وكتائب حزب الله في العراق، وخلص إلى أنه ليس لدى الولايات المتحدة استراتيجية مضادة من أجل القضاء على هذه الدول والمنظمات من “دون إشعال النار في الغابة بأكملها”.
في المحصلة، يظهر التاريخ أن التجريد من الإنسانية يترسخ بسهولة وآثاره مميتة. في أسوأ حالاته، هو الطريق إلى معسكرات الاعتقال وغرف القتل والتعذيب والإعدامات الجماعية، ولكن ليس من المستغرب أن نرى حتى الصحف التي تدّعي زوراً الليبرالية تنشر من دون تفكير ثانٍ تحليلاً يعامل الإيرانيين “كحشرات” وتبرر القتل الجماعي للفلسطينيين، فأحد الدروس الحاسمة التي يقدمها التاريخ هو أن المجتمعات لا تلاحظ أنها تتجه إلى هذا النوع من الهاوية الأخلاقية. فقط الضحايا يفعلون ذلك.
علي دربج
المصدر : الميادين نت
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع