أحمد عبد الرحمن*

شهدت المنطقة العربية والإسلامية خلال السنوات الماضية الكثير من الحروب والنزاعات، أدت في معظمها إلى ندوب وجروح عميقة في جسد الأمة المُتعب والدامي، وزادت من الفرقة والشقاق بين أبناء الوطن الواحد، وخلقت أعداء جدداً بعيداً من العدو الأساسي والمركزي للأمة (الكيان الصهيوني).

كانت الجماعات المقاتلة في معظم تلك الحروب التي وصفها البعض بالأهلية ذات صبغة “إسلامية”، أو كما يصفها الكثير من المؤرخين بـ “التكفيرية”، إذ قادت تلك الجماعات التي كانت تحمل أسماءً مختلفة، وبرامج متعددة، وولاءات متباينة في كثير من الأحيان، حروباً داخلية مدمّرة، وارتكبت مجازر وجرائم يندى لها الجبين، واستخدمت في معاركها العديد من الأدوات القذرة الخارجة عن الدين والأعراف.

من خلف تلك الجماعات وقفت دول وإمبراطوريات كبرى، ليس بالضرورة كبرى من حيث المساحة، أو التاريخ والحضارة، أو حتى التأثير فيما يجرى من أحداث على مستوى العالم أو الإقليم، وإنما كبرى كونها تملك مؤسسات إعلامية ضخمة، نجحت في خلق رأي عام عربي وإسلامي مؤثر في كثير من الأحيان، بل واستطاعت ان تُسقط دولاً وأنظمة من خلال ما كانت تبثه من أكاذيب وفبركات خدعت الملايين من الشعوب، وغسلت أدمغة ملايين أخرى.

إلى جانب الإعلام، امتلكت دول أخرى من تلك التي كانت تدعم الجماعات المقاتلة خزائن من المال والذهب والفضة تنوء من حملها اليخوت الحديثة التي كان يملكها قادتها وأمراؤها، ويتجولون فيها بين الممرات المائية حول العالم للترفيه عن أنفسهم، أو من أجل نسيان جزء مما ارتكبته أيدي تلك المجموعات التي كانوا يدعمونها بالمال والسلاح وأشياء أخرى لا داعي لذكرها.

في العراق الذي كان يعاني من احتلال أميركي مجرم نشط جزء من تلك الجماعات، وبدلاً من أن تواجه بسلاحها الوفير “جيش” الاحتلال، صبّت جام غضبها، وفجّرت الآلاف من أحزمتها الناسفة، وسياراتها المفخخة، ضد المدنيين العراقيين البسطاء، والذين لم يسلموا من بطش وإجرام قوات المارينز الأميركية وأخواتها، ليجدوا عدواً آخر يقتلهم، ويذبحهم، ويفجّر مساجدهم، وأسواقهم، ويسبي نساءهم، ولكنه هذه المرة لا يتحدث اللغة الإنكليزية، بل العربية الفصحى، إضافة إلى لغات أخرى مثل الطاجيكية والشيشانية والفرنسية وغيرها.

في سوريا تكرر الأمر نفسه، وإن كان بمشاركة علنية من الأصلاء إلى جانب الوكلاء، فبانت الأصابع العربية والخليجية منها بوضوح، إلى جانب أصابع “أمير المؤمنين ” وحاشيته على الحدود الشمالية لشام العروبة والأصالة، حيث حوّل آلاف الكيلومترات من الحدود إلى ممرات لتهريب أفضل أنواع السلاح وأحدثها، إلى جانب مئات آلاف المقاتلين من عرب وعجم، مع الإشراف المباشر على غرف عمليات تقود المذبحة ضد السوريين إلى جانب ضباط المخابرات الإسرائيليين والأميركيين وغيرهم الكثير.

بالقرب من حدود أخرى افتتحت في إحدى الممالك غرفة عمليات “الموك “، قادت العمليات في درعا ومحيطها وصولاً إلى دمشق، وكان لها دور بارز في سيطرة المسلحين على مناطق واسعة قبل دحرهم منها، واستعادة الدولة السورية وحلفائها السيطرة عليها.

في اليمن تكرر السيناريو نفسه، جماعات وأحزاب وقيادات حملت الشعارات نفسها، وساقت المبررات نفسها، وزجّت بمئات الآلاف من الشباب المغرّر بهم وأبناء القبائل في حرب خاسرة، قادها الأميركي والبريطاني من دون خجل أو حياء، وإن كان بعض الأعراب يتقدّمون الصفوف، ويخطفون الصورة.

في لبنان وليبيا وتونس وغيرها برزت فئات شبيهة بتلك التي أشرنا إليها آنفاً، كلها ساهمت في إحداث فتنة واقتتال داخلي، أدى إلى تدمير اقتصاد الدول، وتقسيم مواطنيها مذهبياً وعرقياً ومجتمعياً، وأفضى إلى خسائر في المجالات كافة، تحتاج عشرات السنين لترميمها أو تعويضها، هذا إن سمحت دول الاستكبار العالمي بذلك.

عندما بدأت الحرب الصهيونية على قطاع غزة قبل أربعة أشهر تقريباً، والتي فاقت في بشاعتها وقسوتها الكثير من الحروب التي خيضت خلال الثلاثين سنة الماضية، وأدت حتى لحظة كتابة هذا المقال إلى خسائر بشرية ومادية هائلة، وإلى تدمير آلاف الوحدات السكنية، والمنشآت التجارية والصناعية، وتوقف جميع المؤسسات الصحية والتعليمية والخدمية عن العمل بشكل شبه كامل، توقع الكثيرون من الذين خضعوا لإعادة برمجة من وسائل الإعلام الموجّهة، والتي كانت تبرّر أفعال “الجماعات التكفيرية “، وتشرعن جرائمهم ومذابحهم، أن تهب تلك الجماعات إلى نصرة القطاع المنكوب، وأن تشرّع سيوفها، وتحشد مقاتليها، وتستنفر جماهيرها، وتقوم بغزوتها الكبرى ضد دولة القتل والإرهاب “إسرائيل “، ولا سيما أن بعض تلك الجماعات كانت تبرر هجماتها في بعض دول الطوق كسوريا ولبنان بأنها مقدمة لتحرير فلسطين، وكثيراً ما رفعت شعارات مثل “تحرير فلسطين يمر عبر الضاحية الجنوبية لبيروت “، أو عبر العاصمة السورية دمشق، بيد أن هذا الأمر لم يحدث، ولم يرَ سكان القطاع المنكوب من هؤلاء نصراً ولا عوناً، بل وجدوا صمتاً مطبقاً أصاب كل الأفواه، وعجزاً لافتاً كبّل كل الأيدي، وحتى الحد الأدنى من التضامن من خلال الرفض والاستنكار على غرار ما كانت تفعل بعض الأنظمة العربية لم يصدر عن تلك الجماعات.

وهنا، يتبادر إلى الأذهان الكثير من الأسئلة التي لم يقم أحد حتى الآن بإثارتها أو التطرّق إليها، عبر مئات الصفحات التي كانت تشعل الفتنة، ومن خلال آلاف الحسابات الحقيقية والوهمية التي كانت تثير الحروب الأهلية، وتحيي النزعات القبلية والمذهبية والعرقية، بل لم نسمع أو نر الناطقين باسم تلك الجماعات، أو قادتها الذين ملأوا الشاشات صريخاً وعويلاً، وكذباً وتلفيقاً على مدار الساعة ينبسون ببنت شفة عما يجري في القطاع المحاصر.

أين ذهبت منصاتهم الإعلامية الشهيرة، والتي كان يتابعها ملايين المخدوعين والمضللين؟

أين ذهب مشاهيرهم من الفنانين والمنشدين الذين أبكوا العالم من خلال بروباغندا الكذب والنفاق والتباكي على الضحايا؟

أين ذهب الدعاة والمشايخ والعلماء الذين هبوا لنصرة “المظلومين”، وأفتوا بجواز القتال والنصرة وبذل المال والنفس، بل وبجهاد النكاح أيضاً؟

بل أين ذهبت مدافعهم وصواريخهم التي دكوا بها بيوت المدنيين الآمنين، وقتلوا وأصابوا مئات الآلاف، ودمروا مدناً وحواضر لطالما شكّلت حائط صد في وجه الأغراب والمحتلين.

أين “الاستشهاديون “، و”الانغماسيون “، والذين لا يهابون الموت، ولا يخشون القتل، ويذهبون للقتال وهم يستبشرون بالحور العين؟

أين كل هؤلاء؟ وأين مريدوهم ومناصروهم، وداعموهم، من نصرة أهل غزة، ومقاومة غزة؟ بل أين هم من نصرة المسجد الأقصى الذي يتعرض للتهويد صباح مساء، ويمنع أهله من إقامة الصلاة فيه منذ شهور عدة؟ هل فقدوا البوصلة التي كانت تؤشر إليه؟ أم هل نسوه في غمرة جمعهم للمال الحرام الذي تدفّق عليهم من وكلاء أميركا؟ هل تراهم أغلقت عليهم الحدود فعجزوا عن الوصول إلى غزة أو القدس؟ أم هل تراهم أصابهم الخرف من جراء الأدوية التي تناولوها أثناء علاجهم في المشافي الإسرائيلية؟

كثير من الأسئلة التي تتوارد إلى أذهان الناس وهم يعيشون القصف والقتل والمعاناة والتشريد في غزة الحبيبة، وعشرات التساؤلات نسمعها منهم كل يوم حول حقيقة ما جرى، وهم الذين كانوا يأملون بنصرة سريعة، تُنهي العدوان، وتوقف الحرب، وتخفف كثيراً من المعاناة والألم.

نحن بدورنا كنا وما زلنا نجزم بشكل لا يقبل التأويل، أن الغالبية العظمى من تلك الجماعات وداعميها هم صنيعة أميركا و”إسرائيل”، وفي الحد الأدنى إن لم يكونوا كذلك فهم أعداء الأمة، وقد التقوا مع قوى الاستعمار العالمي على الهدف نفسه، وهو وأد أي صوت مقاوم في المنطقة، وقتل كل روح حرة وأبية ترفض الاستعمار والاحتلال، وترى بوجوب مجابهته ومقاومته.

كنا وما زلنا نعتقد من أول يوم في المعركة، أن أحرار الأمة في لبنان وسوريا واليمن والعراق وإيران، هم الذين واجهوا وهزموا تلك الجماعات، ومنعوا تمددها وسيطرتها على عديد الدول في الإقليم، وهم أنفسهم الذين سيهبون لنصرة غزة، وسيقدمون الغالي والنفيس من أجل منع هزيمتها، أو كسر ظهرها.

ولم يكن لدينا ذرة شك في أن هذا الأمر حادث لا محالة وقد كان! هذا المحور الشريف والمقاوم كان وما زال وفياً لعهده، أميناً على مصالح شعوب المنطقة حتى من الذين خالفوه وجرّموه وأساؤوا إليه، لا ينتظر من أحد شكراً، ولا يطلب من أحد عوناً، هو يقدم الواجب على الإمكان، ويواجه بكفه العاري مخرز أميركا و”إسرائيل” ومن لف لفيفهما.

هذا المحور المقاوم يستحق منا ومن كل أهل فلسطين، ومن جموع الأمة كل محبة واحترام وتقدير، لأنه لم يكن في يوم من الأيام إلا معول بناء وتعمير، أما أولئك الذين خذلوا غزة، وباعوها في سوق النخاسة في مقابل دراهم معدودة، فليس لهم سوى اللعنات، التي ستلاحقهم طوال عمرهم وبعد فنائهم.

غزة وفلسطين والأمة ستبقى مدينة لمحورها الشريف، الذي منع بعون الله وتأييده سقوط إحدى قلاعه المقاتلة، وأوقف تمدد رأس حربة الاستعمار في المنطقة المسماة “إسرائيل “، وهو من دون أدنى شك سيواصل هذه المسيرة، حتى جلاء كل قوى الاستعمار عن منطقتنا بلا رجعة، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله.

* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب