أحمد فؤاد

عند اللحظة المباركة الأولى لعملية “طوفان الأقصى” في صبيحة يوم السابع من أكتوبر، بدا للعالم العربي الذي شاهد مذهولًا ومشدوهًا قدرة اليد العربية على الفعل وكسر الواقع، أن الكيان الصهيوني ما هو إلا أسطورة قديمة مهترئة تقترب من التلاشي، وأن كلّ ما كان يتصوره عن حصانة القوّة الأميركية ومشيئتها المهيمنة الجبارة ما هو إلا وهم كبير آخر يذوب ويتبدّد، وعاينت النفسية العربية للمرة الأولى – أو ذاقت – زمن النصر، وودعت زمن الهزيمة المبدئية التي غرقنا فيها لعقود طويلة مريرة.

حين تولت البندقية العربية ترجمة الإرادة العربية، كانت على مستوى الأماني العظمى لكل إنسان في هذه المنطقة، لم تخذلنا حين أوكل لها تخطيطًا وتنفيذًا مسؤولية الرد على “صفقة القرن” الأميركية السوداء، وما وصف أنه التطبيع العربي الكامل الشامل الذي يبيع قضية فلسطين تمامًا ونهائيًا، حين تحركت المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن كانت للمرة الأولى تأخذ القرار وتحقق ضربة المبادأة المباركة، التي وضعت كيان العدوّ للمرة الأولى أمام وضع لا يطيقه ولا تحتمله أعصابه العارية الضعيفة، فهو دخل في حرب لم يختر توقيتها، ثمّ هي حرب مدن تقليدية، بالطريقة التي لا تلائم بنيان جيشه ولا وظيفته ولا فكره، وهي في النهاية حرب طالت، وحكومته قبل غيرها لا تعرف لها وقتًا ولا يمكنها تحديد مداها أو سقفها، وهم قبل غيرنا قد دخلوا في مرحلة استنزاف مرهقة وعميقة.

في الساعة التي بدأت فيها عملية العدوان الصهيوني على غزّة، انتقامًا للجرح الغائر الذي أصاب الكيان، كان واضحًا أننا أمام عملية بلا هدف معقول أو منطقي، وأن متّخذ القرار كان مندفعًا طائشًا، يريد أن يعوض بأي شكل خيبته وهزيمته، وأنه بعد 124 يوم قتال فإن الأهداف الموضوعة صهيونيًا (تدمير المقاومة في غزّة – استرداد الأسرى دون شروط) تبتعد ولا تقترب، وأن الجبهة التي فتحها العدوّ في غزّة قد امتدت إلى جنوب لبنان والعراق واليمن وسورية، وأن هذا الاتساع أكبر من قدرة العدوّ على المواجهة، وحتّى الولايات المتحدة تقف أمام هذا الوضع بكثير من العجز الفاضح عن التغطية أو المواجهة المكشوفة.

حين وقع رئيس حكومة العدوّ بنيامين نتنياهو أمر بدء العملية البرية في قطاع غزّة فإنه قد اختار خصمًا من نوع خاص، وانجر إلى “معركة الوقت” حيث وضع على ضوء الاختبار كلّ الأكاذيب المؤسسة للكيان، الجيش الذي لا يقهر والقوّة العسكرية الهائلة والتفوق النوعي لسلاحه وفارق تقنيته المتطورة، كلّ هذا في ميدان النار وأمام العالم، خضع لعملية إعادة اكتشاف وفرز وغربلة، وفي النهاية فإن ما يظهر لنا اليوم بعد 4 شهور قتال وبكل صدق وتصميم أنه سقط.

لم يعد في جعبة الكيان التائه، أمام إيمان وعزم المقاومة وقرارها بأخذ المنطقة كلها إلى حافة الهاوية، والقتال هناك تحت شروط الوضع القائم من حصار العدوّ وخذلان الشقيق وقلة الناصر، إلا أن يبدأ المواجهة بالسلاح القذر الذي يبدع فيه ويملك ناصية أدواته ويحكم مناخه، الحرب الرديئة بالشائعات والأكاذيب والتلفيق، وباستخدام أكفأ جنده وأكثرهم إخلاصًا وقدرة على النفاذ “الإعلام”، وهو بذلك لا يستهدف تقوية صدوع داخله المتشقق، بل الأكثر تسميم بيئة المقاومة العربية وفك حالة التعبئة الوجدانية للشعوب العربية والمسلمة تجاه قضية فلسطين.

الأنباء العبرية التي انفجرت في وسائل الإعلام العربية الرسمية، تزامنًا مع جولة مملة معتادة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، عن قرب الوصول إلى لحظة وقف إطلاق النار، والترويج لها باعتبارها خبرًا حقيقيًا وسواء كان نتيجة تفاهمات أو ضغوط، فإنه ببساطة يحاول تشتيت العقل العربي وراء الهدف الصهيوني الأول من الحرب كلها وهو ضمان عدم ترسيخ معنى النصر في قلوبنا، وزيادة فإن أنباء المفاوضات بحد ذاتها توحي وكأن المقاومة قد أخلت ميادين القتال وذهبت مجبرة إلى قاعات السياسة المظلمة، وأن النفوذ الأميركي لا يزال قويًا قادرًا على توجيه الأحداث من بعد طوفان الأقصى وإلى اليوم.

الكذبة الفجة التي يحاول شيطان الغواية ترويجها وتزيينها هو أن هناك اتفاقًا ما قد تم أو نوقشت نقاطه، يمنح الكيان مطالبه من غزّة بوقف النار وإعادة المخطوفين، ثمّ هو الأوقح، يبعد حزب الله عن شمال فلسطين ويوقف نزيفها المستمرّ هناك، وهو يحاول أن يصل بالأعصاب العربية إلى حالة التلف، اللعبة الذهنية القديمة ذاتها، أن تلعب على وتر الضعف وتثير موجات البكاء العاجز، دون فعل إلا الرضوخ والذلة وقبول المهانة كموقع طبيعي وأولي.

ما يستهدفه العدوّ ومن ورائه أنظمة العار العربية هو قلب فكرة حرب الوعي، أن تعلن هذه الأمة يأسها وهزيمتها واستسلامها، وأن يتحول فعل المقاومة من أنبل تصرف إنسانيّ وإيماني ودعوي كصرخة متجددة ضدّ الظلم والجبروت والطغيان، وراية زرعت في كربلاء وامتدت بخيط أحمر طويل عبر القرون تنير الأيام بجلال موقف سيد الشهداء –ع – ومن معركة جذرية إلى خلاف يخضع لوجهات النظر، وأن تصبح بالتالي القيم كلها رغبات وشهوات حمقاء، يستوي فيها المجاهد الذي يبذل الدم بالقاعد.

ما نحن أمامه بالفعل من زيارة بلينكن هو أن الولايات المتحدة قد فقدت تمامًا قدراتها على التأثير الناعم في العالم العربي، وهي أمام ثقة المقاومة في لبنان والعراق واليمن فقدت تأثيرها الخشن بالقوّة العسكرية المباشرة، لم يعد أحد يخشى عواقب تهديد أميركي أو يضع علامات بالأحمر على ما تسمح به واشنطن أو لا تسمح، والمواجهة بين اليمن وجماعة أنصار الله في قلبه وبين الولايات المتحدة في البحر الأحمر صار صراعًا متكافئًا وبندية، والرد اليمني العسكري على كلّ تصرف أميركي يضع أمامنا زمنًا جديدًا لم تعد فيه الأساطيل الأميركية صاحبة اليد العليا في المنطقة وعليها، بل صارت هي الطرف المكشوف في واقع مفروض بالدم يتفوق فيه صاحب الأرض لا الزائر.

مأزق الحرب الحالي بالنسبة إلى أميركا والكيان هو العجز، بأوفى وأصدق صوره وأكثرها بريقًا ونضجًا، الولايات المتحدة التي كانت قوة فائقة تحتفظ بكفاءة الفعل بقرد ما تتمتع بمرونة الخيارات أصبحت أعجز من أن تذهب لأبعد من ضربات هوليوودية في العراق وسورية واليمن، فهي بحسابات اليوم لا تستطيع أن تذهب أبعد وأعمق لأن أقدامها مهتزة وأضعف من أن تتحمل ضربات رد فعل أوسع وأثقل، وهي تعرف يقينًا أنها لا تواجه منابر خطابية عربية مألوفة لها، تحارب بالجعجعة والعنتريات الحماسية الفارغة، لكنّها تواجه مقاومة لديها “دم وسيف، وكلاهما في هذا الزمن ينتصر”.

 

  • المصدر: موقع العهد الاخباري
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع