ذكاء وتطوّر وتكيّف: اليمن يدهش أميركا
السياسية – رصد
لقمان عبد الله*
رسم المسؤولون الأمريكيون خطط العمليات العسكرية في البحر الأحمر بهدف عريض، يتمثّل في ضرب القدرات العسكرية اليمنية، والتي باتت تشكل، من وجهة نظر واشنطن، خطراً ليس فقط على الكيان الإسرائيلي، بل على التواجد الأمريكي في المنطقة، والمستمر منذ عقود. لكن مع مرور الوقت، تبيّن أن الأمريكيين هندسوا الضربات الجوية على أساس فائض القوة، من دون الاستفادة من المعلومات الحقيقية المساعدة في بناء الخطط، رغم أن ذلك من البديهيات في العلوم العسكرية. إذ اعتمدت هذه الهندسة على ثلاثة مسارات متزامنة، اعتقدت الولايات المتحدة أنها قابلة للتطبيق في وقت قريب، فيما أثبتت الأحداث أن المقرّرين الأمريكيين أفرطوا في التفاؤل عند رسمها.
ورغم أن المداولات حول الخطط العسكرية استغرقت شهراً كاملاً، وشاركت فيها إضافة إلى وزارة الدفاع، وكالات الاستخبارات والأمن القومي، قبل أن تصدر لاحقاً باسم «استراتيجية بايدن» للتعامل مع اليمن، إلا أنه تبيّن لاحقاً أن المقرّرين بنوا خطتهم على هاجس تآكل الردع والسعي إلى ترميمه، من دون النظر إلى طبيعة الشعب اليمني وحافزيّته وقدرات وحداته العسكرية، والإصرار القيادي والسياسي على الاستمرار في نصرة الشعب الفلسطيني مهما كان الثمن، كما لم تلحظ هذه الاستراتيجية الموقع الجغرافي المتميّز لليمن، وقدرة قواته على توظيفه والاستثمار فيه، مقابل التفوّق العسكري الأمريكي.
أما أكثر ما يلفت النظر هنا، فهو أن المخيّلة الأمريكية لم تستطع إدراك حقيقة أن القدرات اليمنية تغطي جميع المياه اليمنية، بما فيها تلك المشاطئة للمحافظات الجنوبية، التي هي بالكامل تحت سيطرة التحالف السعودي – الإماراتي. وهذا ما أكدته مجلة «فورين أفيرز» أن انصار الله «الحوثيّين أثبتوا أنهم قادرون على إبراز قوتهم عبر كامل المجال البحري، وأصبحوا قوة عسكرية هائلة ومتحفّزة للغاية».
وعليه، وقفت القوات الأمريكية مذهولة أمام السفن والمدمّرات التي نجت من الإصابة بأعجوبة، عندما تصدّت للصواريخ اليمنية على مسافة عشرات الأمتار فقط في خليج عدن، وفي وقت لا يتجاوز العشرين ثانية؛ وكذلك استهداف سفينة تجارية أمريكية متوجّهة إلى الموانئ الفلسطينية المحتلة في بحر العرب مقابل شواطئ المكلا، مركز محافظة حضرموت.
على أن القادم من الأيام قد يشهد توسّع عمليات الاستهداف إلى جزيرة سقطرى ومشارف المحيط الهندي. ورغم أن واشنطن شريكة لـ«التحالف» الذي شنّ حرباً على اليمن لتسع سنوات، وشارك خبراؤها مباشرة في غرف العمليات والتخطيط والمعلومات، إلا أن المقرّرين فيها لم يستفيدوا من عِبر هذه الحرب وتجربتها المريرة بالنسبة إلى السعوديين والإماراتيين، بعد أن أتقنت صنعاء تكتيكات القتال غير النظامي في تلك السنوات. وهذا ما أشارت إليه صحيفة «بوليتيكو» بالقول إن التقديرات في مجمّع الاستخبارات الأمريكية كانت تقول في الأصل إن أنصار الله «الحوثيّين سيحاولون تجنّب الصراع مع الولايات المتحدة في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، ولكن هذه الحسابات تغيّرت».
ذُهل الأمريكيون حين نجت مدمّراتهم بأعجوبة من الصواريخ اليمنية على مسافة عشرات الأمتار، وبفارق لا يتجاوز العشرين ثانية
وبعد ما يقرب من شهر من الضربات الجوية الفاشلة، اكتشف الأمريكيون والبريطانيون أن اليمن «عدو ذكي»، استطاع إرباك القادة العسكريين إلى درجة أن مخططي الحرب في البنتاغون بدؤوا بتقليد بعض تكتيكاته، وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز». والواقع أن صنعاء لم تكشف كامل أوراقها، بل فقط ما يتلاءم مع ضرورات المرحلة، فيما الترقّي في استخدام القدرات سيتم بالتدرّج، وبالتزامن مع التصعيد الأميركي. وكمثال على تكيّف اليمن مع الأسلحة المتوافرة بما يتلاءم مع ضرورات المعركة، يمكن إيراد مثالَين:
الأول: طوّر اليمنيون راداراً متنقلاً، هو في الأساس رادار «Simrad Halo24» الذي يمكن شراؤه مقابل نحو 3000 دولار في «Bass Pro Shops»، ويمكن وضعه على أي قارب صيد، ويستغرق إعداده خمس دقائق. وبحسب الفريق فرانك دونوفان، الذي يشغل الآن منصب نائب قائد قيادة العمليات الخاصة الأمريكية، فإنه لاحظ ما كان أنصار الله «الحوثيون» يفعلونه بالرادار عندما كان يقود فرقة عمل برمائية تابعة للأسطول الخامس تعمل في جنوب البحر الأحمر. وفي محاولته معرفة كيف كانوا يستهدفون السفن، أدرك الجنرال أنهم كانوا يركّبون رادارات جاهزة على المركبات على الشاطئ ويحرّكونها. ونقلت وسائل إعلام أمريكية، بدورها، عن مسؤولين في وزارة الدفاع قولهم إن مشاة البحرية في بحر البلطيق يتكيّفون مع أنظمة الرادار المتنقلة المستوحاة من اليمن.
الثاني: تكييف صنعاء لبعض الأسلحة، والذي دفع الجنرال جوزيف فوتيل، الذي كان قائداً للقيادة المركزية الأمريكية حتى عام 2019، إلى القول إن «هناك مستوى من التطوّر هنا لا يمكنك تجاهله»، فيما كشف مسؤول عسكري، لقناة «سي أن أن»، إثر استهداف مدمّرة أمريكية في وقت سابق في خليج عدن، عن استخدام صنعاء تكنولوجيا جديدة ومتطوّرة في هذه الصواريخ تفوق الأسلحة المستخدمة سابقاً. كما توقّف الخبراء عند استخدام الصواريخ الباليستية في البحر، إذ ثبُت أن اليمن هو الدولة الوحيدة التي تنجح في تحويل وجهة صاروخ باليستي معدٍّ للاستخدام في البر إلى الاستخدام البحري، مع دقة في الإصابة، وباعتراف أمريكي بأن بعض الصواريخ اليمنية أسرع من صاروخ «توماهوك». وهذا ما لفت إليه فابيان هينز، خبير الصواريخ والطائرات المسيّرة والشرق الأوسط في «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية» في لندن، بقوله «إن تنوّع ترسانتهم أمر مذهل».
* المصدر: الاخبار اللبنانية
* المادة نقلت من المصدر بتصرف