بثينة عليق*

ليس سرّاً أنّ نظام العدالة الجنائية الدولية يطرح الكثير من علامات الاستفهام والملاحظات حول مساره وطريقة عمله والعوامل المؤثّرة فيه. تتخذ هذه التساؤلات أبعاداً جديدة عندما تكون “إسرائيل” هي المعنية لكونها بقيت ولعقود طويلة فوق المساءلة الدولية على الرغم من تاريخها الحافل بالمجازر والإبادات والتطهير العرقي.

فهل تؤسس دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية لواقع جديد؟ هل نحن أمام خطوة حقيقية على الطريق نحو إحقاق الحقّ ولو كان متأخّراً؟ هل نكون أمام مشهد جديد على الطريق نحو عدالة حقيقية، أم أنّ “المعايير المزدوجة” ستكون كفيلة بإجهاض أحلام المعوّلين بشكل كلي أو جزئي على هذا الأمل؟

ما يمكن قوله بانتظار القرار النهائي والحكم الأخير الذي قد يتطلّب سنوات، إنّ البدايات جيدة وفيها الكثير من الإيجابيات لمصلحة القضية الفلسطينية، ولكن رفع سقف التوقّعات تجاه المسألة برمّتها ليس في محله، وذلك لأسباب عديدة:

أولاً: هناك صراع تاريخي بين حكم القانون ومقتضيات العدالة. صحيح أن العدالة تغلب أو يجب أن تغلب على الأحكام القانونية الجامدة، إلّا أن النصوص القانونية وضعت بناء على موازين قوى معيّنة، وهذا ما أسس تاريخياً لقدر كبير من عدم الاستقرار في العلاقات الدولية، خاصة في المرحلة التي شهدت انتشار أسلحة الدمار الشامل لدى عدد من الدول، مما هدّد ولا يزال يهدّد جزءاً من الدول الأقلّ قوة بالدمار والجرائم والإبادات الجماعية، من دون أن يستطيع نظام العدالة الجنائية الذي بدأ بالتشكّل بعد الحرب العالمية الثانية أن يحمي أيّ شعب من الشعوب.

لا بل على العكس من ذلك فإنّ الحروب شهدت طفرة كبيرة منذ العام 1945، وقد ارتكبت خلال الفترة الممتدة من هذا العام إلى العام 2000 نزاعات، إما دولية أو داخلية أسفرت عن مقتل أكثر من سبعين مليون نسمة، وهو ضعف العدد الذي قتل في الحربين العالميتين اللتين شهدهما الجزء الأول من القرن العشرين. طبعاً معظم المرتكبين للمجازر لم تتمّ محاكمتهم في أروقة المؤسسات القضائية التي أنشئت لهذا الغرض.

ثانياً: ما شهده العالم بعد الحرب العالمية الثانية من صياغة قوانين وتوقيع اتفاقات بهدف تعزيز نظام عدالة جنائية دولية يقع ضمن إطار ازدواجية المعايير والانتقائية، قام الحلفاء بتطبيق قانون خاص لأنفسهم وقانون خاص للمهزومين. ظهرت هذه المعادلة من دون أيّ مواربة خلال محاكمات نورمبرغ الشهيرة ومحكمة طوكيو الأقل شهرة، اللتين كانتا عبارة عن محاكمات الرابحين للمهزومين، أو كما أطلق عليهما “انتقام المنتصرين”.

المنتصرون هؤلاء لم يحاكمهم أحد على الرغم من ارتكابهم لجرائم حرب فعلية. فقد سجّل أرشيف الحرب العالمية الثانية قيام الطيران الأميركي البريطاني بتدمير مدينة دريزديسن الألمانية، متسبّباً في مقتل أكثر من خمسة وثلاثين ألفاً من سكانها المدنيين في ليلة واحدة من جراء قصفها بالقنابل الحارقة، كما أنّ البشرية ما زالت وستظل تذكر مقتل أكثر من مئتي ألف من المدنيين اليابانيين من جراء إلقاء الطيران الأميركي للقنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناكازاكي.

ثالثاً: هذه الانتقائية تجلّت في أكثر من محطة ومرحلة، وإزاء قضايا مختلفة ومتنوّعة، منها مثلاً قرارات مجلس الأمن بإنشاء محكمتي يوغسلافيا ورواندا، ما أثار علامات الاستفهام الكثيرة حول الدوافع السياسية لإنشاء مثل تلك المحاكم المتخصصة بنزاعات محدّدة، في الوقت الذي كان العالم يشهد فيه نزاعات عديدة أخرى في مختلف أنحاء العالم لم تنشأ لها لجان تحقيق أو محاكم.

رابعاً: تعتبر طريقة تعاطي القيّمين والمتحكّمين بنظام العدالة الجنائية الدولية مع “إسرائيل” نموذجاً قائماً بحد ذاته، يدلّ على كيفية تسيير هذه العدالة ومدى خضوعها للاعتبارات والمصالح السياسية.

إذ لم يحاكم أحد في “إسرائيل” عن الجرائم والارتكابات اليومية ضد الشعب الفلسطيني منذ عام 1948، ولم يحاكم شارون على ما ارتكبه من مجازر، وخاصة مجزرة صبرا وشاتيلا، ولم يحاكم بن اليعازر على قتل أسرى الحرب المصريين في حرب 1967، على الرغم من تثبيت هذه الجرائم من خلال وثائق مصوّرة تمّ عرضها في أفلام وثائقية أنتجها إسرائيليون وبثّها الإعلام الإسرائيلي، كما بقي مرتكبو مجزرة قانا في العام 1996 فوق أيّ مساءلة أو محاكمة على الرغم من التقرير الشهير للأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بطرس غالي.

هذه المحطات تظهر أداء المجتمع الدولي تجاه “إسرائيل” والموقف الباهت إزاء جرائمها المتمادية، ما ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه ليواصل “جيشها” اعتداءاته وجرائمه من دون أيّ ردّ فعل من مجلس الأمن، لا بل في ظلّ تواطؤ وشراكة كاملة كما هو حاصل اليوم في حرب غزة بعد طوفان الأقصى.

خامساً: أما في الحالات المعدودة والمحدودة التي صدرت فيها قرارات أو أجوبة عن أسئلة إزاء جرائم إسرائيلية، فقد برزت عقدة أخرى متمثّلة بتنفيذ الأحكام والآراء والتوصيات الصادرة عن مؤسسات نظام العدالة الجنائية. فالرأي الاستشاري الذي صدر من محكمة العدل الدولية حول جدار الفصل العنصري الذي أقامته “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي اعتبر أن الجدار مخالف للقانون الدولي ظلّ حبراً على ورق، ولم يترجم بإجراءات تنفيذية، كما هو حال الكثير من القرارات التي ضلّت طريقها نحو التنفيذ.

سادساً: مرحلة التنفيذ تبقى أضعف الحلقات في النظام القانوني الدولي، فقانون ميثاق الأمم المتحدة يحيل التنفيذ إلى مجلس الأمن الذي يعمل في إطار سياسي، والذي غالباً ما يضرب عرض الحائط بحرمة وحرفية القواعد القانونية، وقد أدّى هذا الوضع إلى تزايد النزاعات والفوضى في العالم بسبب ازدواجية المعايير، وعدم اتباع المجلس معايير موحّدة، وعدم اعتماده وتيرة واحدة تجاه مختلف الحالات المطروحة عليه.

مما تقدّم يتبيّن أنّ المرجّح أن يستمرّ الصراع بين العدالة الجنائية الدولية والاعتبارات والمصالح السياسية. وعلى الرغم من التحوّلات التي تشهدها العلاقات الدولية وموازين القوى العالمية إلّا أن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال قادرة على أن تحسم هذا الصراع لمصلحتها ومصلحة أدواتها في العالم وعلى رأسهم “إسرائيل”. وبالتالي ستعمل واشنطن على إعاقة تنفيذ أيّ قرار يدين “إسرائيل” فضلاً عن أنها لن توفّر جهداً لمنع صدور القرار أصلاً.

وإذا كانت أدبيات فلسفة القانون تذكر أنّ القوانين تصاغ في مسافة بين العدالة وبين موازين قوى قائمة فعلاً، وأنّ موازين القوى هي التي تنقل الصياغات المثالية إلى واقع على الأرض، فإن الطريقة الوحيدة لتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا الأبرياء لن تتحقّق إلّا من خلال العمل على تغيير موازين القوى.

وهذا لا يتحقّق إلّا بالمقاومة. فمقاومة أكثر تعني عدالة أكثر وظلماً أقلّ…

* المصدر: موقع الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب