أحمد فؤاد*

 

منذ يوم الخامس والعشرين من آيار في العام المبارك 2000، ومع كلمة سماحة سيد المقاومة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله “ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات”، وإلى اليوم المئة من حرب شاملة في المنطقة وعليها، فإن عجلة الزمن قد دارت دورتها الكاملة، وأعادت إلينا مشهد النصر البكر الأول، بطمعه المتفرد والأشهى للروح والقلب معًا، إلى عيوننا واستحضرته طيبًا متألقًا إلى نفوسنا، علنًا نزداد إيمانًا وثباتًا في النصر الواضح القائم حاليًا.

خطب سماحة السيد في ذكرى أسبوع على ارتقاء الشهيد القائد وسام حسن طويل “الحاج جواد”، فلم تكن مناسبة نعي للمجاهد الكبير، بل كانت أقرب إلى استبشار الفتح والنصر من عند الله بهذا الدم المبارك والفداء العظيم، تحدث السيد بكلمات فائقة الذكاء والدلالة، كانت كافية لمنح الإنسان فرصة إضافية لكي يرى صورة استراتيجية لساحة المواجهة الكبرى في فلسطين، ومعها مشهد أفقي للمنطقة العربية كلها، وجوارها مشهد عالمي جديد نشأ مع استمرار دفق التضحيات وطابور الشهداء في كلّ جبهات الشرف المفتوحة بالدم والعرق والإرادة التي لا تلين، ومنحنا السيد ورقة اختبار عملي وشفاف للمواقف المبدئية الجليلة، وكذا وصفة تعريف للساقطين “الجهلة”، أحقر أعدائنا وأعداء أوطانهم ودينهم وأنفسهم.

كما اختار سماحة سيد الوعد الصادق أن يضرب المثل على إنجاز محور المقاومة الشريف، بالأرقام وحدها، وهي أن تعداد المعوقين في جيش العدوّ فقط بلغ طبقًا لأرقامهم “الكاذبة الغامضة الكتومة” 4 آلاف، وهو ما يبنى عليه أن عدد الجرحى، بتفاوت جراحهم وإمكانية عودتهم إلى الخدمة من عدمها، قد يقترب عمليًا وعقليًا من 30 ألف، وفي كيان هش قائم على وقاحة كذبة الأساطير – غير المقدسة – فإنه رقم مرعب، ويفسر فقدان نصف قطعان المستوطنين للثقة في إدارة حكومتهم للحرب، ونتيجتها كلها على مستقبل من أي نوع للكيان، وهو ما يظهر للناظر من ضفة المحور بأنه انتصار عز مثيله في معركة مباشرة مع الولايات المتحدة وتابعها الذليل في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وغيرهم كثر.

بنفس المنطق فإن الكيان المجرم الغاشم قد وصل في عدوانه على غزّة تحديدًا إلى حدود غير متصورة للبطش والعنف والدموية، التقديرات حتّى يوم العاشر من يناير 2024 تتحدث عن أرقام مرعبة لقنابل الموت التي يلقيها العدوّ على المدينة المحاصرة المنهكة، ضعفي قوة قنبلتي هيروشيما وناغازاكي معًا تم صبها على غزّة، ما يقدر بـ 65 ألف طن من المتفجرات المدمرة نالتها المدينة المقاومة الباسلة الصامدة في شموخ وعناد ويقين، لم تجعل من شوارعها مرتعًا لحثالة البشر وحاوية نفاية أوروبا والعالم، لم تتح هذه المتفجرات التي لم تستخدم على الإطلاق ضدّ مدينة واحدة أو في معركة واحدة الفرصة لجيش الكيان أن يتقدم وأن يحصل على انتصار، أو حتّى على ما يسند زعم “صورة انتصار” حتّى لو كان وهميًا مزيفًا.

الأرقام المجردة قطعًا لن تبني صورة لمدينة غزّة ولمأساتها الإنسانية الرهيبة وألمها الحارق، لكنّها قد تصور لنا نوع الصمود الأسطوري لمواطنيها وروحية الثبات لدى أبطال مقاومتها، إلى اليوم فإن 2. 3 مليون إنسان يعيشون في حالة حصار من الكيان ومصر غير متصورة ولا يقبلها عقل أو منطق، تلك الصورة كانت كافية لدولة جنوب إفريقيا مثلًا – وهي دولة لا عربية ولا إسلامية – لتحريك دعوى في محكمة العدل الدولية ضدّ كيان العدو، وهي أيضًا نوع من النصر المعنوي وبركات “طوفان الأقصى” الذي وصل بالقضية الفلسطينية من التهميش والدفن الرسمي العربي فيما عرف باسم “اتفاقيات أبراهام” الساقطة، إلى أن تصبح الشاغل الأكثر حضورًا في كلّ العالم وبامتداد القارات، وهي شعوب وحكومات قد لا تفهم العربية، لكنّها بدأت تعرف الحق الفلسطيني والعربي بالمشاهد اليومية المستمرّة، وأجبرت البعض على أن يتحرك تجاوبًا معها وإقرارًا لوقف هذه المذابح الصهيونية، ومعها تبدلت صورة “إسرائيل” التي كانت تحب أن تقدم نفسها للعالم على أنها الضحية المسكينة، فصارت اليوم مرادفًا للجزار الذي لا يتوقف عن شرب دماء الأطفال ليروي ظمأه الجنوني للقتل والتدمير.

اليوم وكصورة لازمة في خلفية أي كتابة أو انشغال بالحرب الكبرى الجارية، فإن صواريخ المقاومة الفلسطينية تنطلق من حيث يدعي العدوّ أنه أنهى عمليات قتاله الرئيسية، من شمال غزّة بالذات إلى قلب الكيان في “تل أبيب” وغيرها من مغتصبات العدوّ ومدن فلسطين المحتلّة، لتكتب بمداد الأحرف المعمدة بالنار أنه حتّى فيما يتعلق بأهداف صغيرة تافهة يقول العدوّ أنه حققها، فإنها في الواقع أبعد من يطالها في خياله، رغم شلال الأسلحة المتدفق كفيضان من أميركا وأوروبا إلى قواعد الكيان ومخازن سلاحه ومستودعاته.

من حيث الأرقام وأهميتها ورمزيتها، فإن أهم وأعمق نصر قد حققه العدوّ الصهيوني في تاريخ صراعه مع العالم العربي كان في يونيو 1967، النكسة كما تعرف، وهي حرب اعتاد إعلام العدوّ على تسميتها بـ”حرب الأيام الستة”، كأبلغ السبل للتعبير عن ثقتهم وفكرتهم الصلبة بأقل عدد من الكلمات، إشارة يفهمها الجميع حولها ويخاف من تكرارها ويظل يتجنب الحديث حولها، الكيان قادر على تدمير المحيط العربي بسرعة وجرأة وكفاءة، في ظرف 6 أيام فقط حطم 3 جيوش عربية بأكملها بغارات الطيران المكثفة الدقيقة كمبضع جراح ماهر، ثمّ اندفعت مدرعاته تمزق بعنف قصاب أشلاء ما تبقى منها وتطحن عظام جيوشه، في صحراء سيناء وفي هضبة الجولان وفي الضفّة الغربية، وتكتسح وتسيطر على مساحة من الأرض تعادل 3 أضعاف حجم فلسطين التاريخية كلها، وهي في ذلك لا تفقد أكثر من 750 قتيلًا فقط، ويالها من مفارقة تاريخية مهولة مفجعة.

كل ما وضعه العدوّ – بنفسه ولنفسه – من أهداف هو: “إنهاء المقاومة أو تحطيم قدراتها – الوصول إلى مساحة أرض تضمن الأمن لمغتصبات غلاف غزّة – تحرير كلّ أسراه بلا قيد ولا شرط” عجز عن تحقيقه باعتراف وزير حربه المنتفخ. هو فقط يستمر في القتال لأنه يعرف مقدمًا ما تعنيه إنهاء حالة الحرب على الوضعية الحالية، وهو يصارح نفسه – أكثر مما يفعل إعلام الأنظمة العربية – بأنه خاسر، وبأن حجم الكارثة الكبرى ستظهر حين تتوقف الحرب، الكارثة التي نزلت على الحصن الثمين الذي سقط. المقاومة عرّت جذر فكرة بقاء الكيان على الأرض العربية، فهو لا يملك اليوم الأسباب الأولية الثلاثة للاستمرار، هو لا يملك وصفة السفاح بن غوريون المثالية “المبادأة، السرعة، الحسم”، وهو ما يعني أنه مستمرّ بالقتال دورانًا حول “الحفرة العميقة”، خوفًا من مواجهة تبعات السؤال الأول للحظة التالية بعد وقف النار: “ماذا بعد؟”.

اليوم انتهت أسطورة أن يتمكّن الصهيوني من عزل الجبهات، وينفرد بها واحدة تلو الأخرى على شكل “قضمات” لذيذة طيّعة لا ترهق فمه ولا تثقل جهازه الهضمي، وفي الوقت ذاته لامعة ولها بريق الوجبة الأمريكية السريعة، سهلة التسويق إعلاميًا ولها جمهور غبي واسع، فهو لا يستطيع أن يتصرف بحرية يقتضيها امتلاكه لرفاهية “الردع” وهو يحسب حسابًا لما سيدفعه من نتائج إن أقدم على عمل عسكري مباشر، لا يستطيع ذلك في لبنان ولا العراق ولا اليمن، رغم أنه يتلقى الضربة بعد الضربة، ثمّ هو قد تحول إلى ما يشبه حكومات النكسة العربية، وفي تعامله الإعلامي بالذات، لا يجد من وسائل الستر سوى الكذب والكذب والمزيد من الكذب.

المناسبة التي احتفظ بها سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، للحديث حول نتائج معركة “طوفان الأقصى” الشاملة، هو حديث عن الشهيد القائد وسام حسن طويل “الحاج جواد”، وهي مناسبة لها رمزية بمقام الشهيد الكبير ومشواره وأثره، “الحاج جواد انتسب إلى صفوف المقاومة وهو في سن الخامسة أو السادسة عشرة” وهو سنّ تعتبره المعايير السائدة غربية الهوى والفهم “سن طفولة”، لكنّه بالنسبة للمؤمن والمبدأ ولروح فكرة المقاومة هو سن بطولة وفترة اختبار لمعدن الإنسان، وهي فترة صدق عمل يتلاقح مع نبل النفس وإيمانها، هكذا هي قصّة القائد الشهيد تلتقي مع قصّة المقاومة، هي التجارة مع الله بالجهاد في سبيله قيامًا بذروة سنام الدين، واتباعًا لمنهج الشهادة كما رسمها أجل وأسمى وأبقى رمز عبر التاريخ الإنساني، سيد الشهداء عليه السلام.

المقاومة لا تحتمل اجتهادات شخصية أو تنتظر فرصًا من الأيام البخيلة والظروف غير المواتية على الدوام، لمن أراد الهروب، هي لا تهب لأشرف وأعز أبناء الأمة وأعظم أبطالنا المجد الشخصي، ليس للمقاومة الإسلاميّة بارون أحمر أو أسود، وليس لها أنواط ونياشين رسمية وذهبية براقة تلمع فوق البزات العسكرية المهندمة، وإنما هي بالأصل فداء بغير شروط وانتماء بالدم والروح، وفي ذكرى ارتقاء كلّ بطل وكل قائد وكل مجاهد لا ننعي أرواحهم للحياة، فهم حصلوا على درجة الخلود وكمالها الفائق “أحياء يرزقون”، لكنا ننعي حظنا الذي لا يجعلنا نقترب خطوة من سيرتهم العطرة سوى في لحظة الوداع الدنيوي، ولا نرى معاركهم ومآثرهم العظيمة سوى قصّة مجللة بالدمع الحزين على البطل، التحيات الطيبات الزكيات على أرواحهم وعلى طريقهم وعلى رفاقهم الباقين، وسلام الله عليهم من أخرجونا من ظلمة الكهف وضيقه إلى رحابة ضوء البدر الساطع، وعلى العباد الصالحين.

* المصدر: موقع العهد الاخباري

* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب