هل يتغيّر توصيف المعركة من “جولة نوعية” إلى “حرب للتحرير”؟
إيهاب شوقي*
راكمت المقاومة عبر عقود من الصمود والتضحيات العديد من الرؤى والمعادلات الاستراتيجية التي تتحلى بالفاعلية والنضج، والتي تعتمد على الإجراءات المؤثرة والعميقة عبر مسار استراتيجي تراكمي مدروس ينتهي بزوال العدو.
واستطاعت المقاومة تشكيل محور يتمتع برؤية استراتيجية موحدة وتكامل للأدوار يعي ظروف كلّ جبهة ومصاعبها ومميزاتها وما تستطيع تقديمه على المستويات الاستراتيجية المختلفة سواء لوجستيًا أو تشتيتًا للعدو ودفاعاته، كما أن لها تكليفًا مدروسًا ودورًا مخطّطًا عند اندلاع المواجهة الكبرى والحرب الشاملة.
وهذا النضج الاستراتيجي القائم على الوعي بطبيعة الكيان، يعلم أن الكيان ليس مجرد حكومة المتطرفين وجيش الدمى وهؤلاء المغتصبون قادمون من بلدان أخرى لافتعال تشكيل شعب والإيحاء بأن هذا الكيان هو دولة طبيعية بالمنطقة. وإنما يعلم أن الكيان هو رأس حربة لأميركا والهيمنة والاستعمار وأن المعركة معه طويلة وممتدة ومعقّدة ومتداخلة الأطراف وأن زواله يتطلب صبرًا وبصيرة ومسارًا من التحرير وليس مجرد معركة.
وقد أثبتت معركة طوفان الأقصى صحة رؤية المحور، بما ظهر من تواطؤ دولي وتمرير للجرائم البشعة وثبوت انتفاء وجود أي قانون دولي أو منظومة تمت بصلة للعصر الحديث، بعد أن تعرض الكيان لتهديد وجودي ثبت معه أن هذا التهديد لا يقتصر على الكيان بل على المنظومة الاستعمارية الدولية كلها وعلى رأسها وتقودها الولايات المتحدة.
مع تطوّر الأحداث ومن مجمل تصريحات قادة المقاومة، نستطيع أن نقول أن تقدير محور المقاومة هو أن الصراع ممتد وأن الجولة الحالية التي اندلعت مع “طوفان الأقصى” كانت جولة نوعية لإعلان غضب المقاومة وإيقاف العدوّ عند حدود الاشتباك دون تجاوز خطير بدا معه أن العدوّ يسعى لتصفية القضية بفرض أمر واقع جديد بالقدس وإحكام دائرة التواطؤ العربي وفرض أمر واقع تصفوي للقضية.
وبالتالي اعتبر المحور أن جبهة المواجهة الرئيسية بهذه الحرب هي غزّة والمكون الرئيسي من المحور المتصدر للمواجهة هي حماس والفصائل الفلسطينية.
وشارك المحور من الساعات الأولى بالمعركة لهدفين رئيسيين:
الأول: هدف اخلاقي وتكليف شرعي ولا سيما وأن ما تحقق بالسابع من اكتوبر كان عظيمًا وبالتالي فإن رد الفعل الصهيو أميركـي سيكون كبيرًا وخطيرًا وهو ما يتطلب مساندة وفقًا لسير المعركة وظروف كلّ ساحة مساندة.
الثاني: حتمية الانتصار في هذه الجولة وهو ما لخصه السيد نصر الله في خطابه الأول عندما قال إن الهدف الآن هو إفشال العدوان وخروج المقاومة منتصرة وخاصة حماس، وما قاله السيد هو المفهوم العميق للنصر الاستراتيجي في هذه الجولة.
وبالتالي كان المحور بكامله والذي قال السيد نصر الله عنه أنه يتفق في الرؤى الاستراتيجية، يضع مفهوم النصر الاستراتيجي في هدفين رئيسيين، وهما:
1 – خروج المقاومة منتصرة بتثبيت قدراتها وخيارها واحتفاظها بالمبادرة.
2 – تثبيت مفهوم وحدة الساحات بمشاركة جميع الساحات بالمستوى المناسب لظرف كلّ ساحة وبقاء هذه المعادلة دون التأثير عليها لا بالمساومات السياسية ولا بالفزاعات والتهديدات واستخدام القوّة.
ومع الوقت ومع رغبة أميركا و”اسرائيل” بأن تكون المعركة صفرية بمعنى القضاء على المقاومة في كامل فلسطين وردع الساحات بمختلف الوسائل السياسية والعسكرية لإفراغ مفهوم ومعادلة وحدة الساحات من المضمون والفاعلية، فقد بدا أن أميركا و”اسرائيل” تسعيان للقضاء على هذين المكسبين الاستراتيجيين، بمعنى القضاء على المقاومة في فلسطين وتفريق الساحات، وتم توزيع الأدوار بين أميركا والكيان الصهيوني:
– حيث تقوم أميركـا بمهمة تفريق الساحات عبر المساومات تارة وعبر التخويف بحاملات الطائرات وعبر ضبط المحيط العربي المهادن وابقائه على الحياد وقطع الطريق عن تقاربه مع محور المقاومة بفعل الجرائم والاستهداف غير المسبوق للكرامة العربية، وذلك بادعاء أن أميركا وسيط وأنها لا توافق على كثير من الممارسات وأنها تسعى لكبح جماح العدوّ الصهيوني.
ومن هنا يمكن النظر للجولات المكثفة لمسؤولين أميركـيين والتي تهدف لتحييد الساحات وترك مهمّة القضاء على المقاومة في غزّة للكيان الصهيوني بأريحية وتفرغ تام.
– وتقوم “اسرائيل” بمهمة تصفية غزّة وتدميرها ورفع كلفة إعادة إعمارها وتهجير أهلها وصناعة نكبة جديدة تجعل من المقاومة أولوية متأخرة بمقارنتها بعودة الأهالي والإعمار.
ونظرا لسير المعارك الراهن وصمود المقاومة في غزّة وصمود الساحات وعدم رضوخها للتهديدات وقيامها بعمليات مؤثرة في عمق المشروع الصهيوني القائم على الاستيطان والاقتصاد وما تأثر به عبر نزوح المستوطنين في الشمال والجنوب وعبر التأثير على الموانئ وما يفرضه اليمن من حصار بحري/ ناهيك عن الطوارئ واستدعاء الاحتياط وهم بمثابة موظفين بالشركات والقطاعات الانتاجية.
فقد بدا أن هذا المسار غير قابل للاستمرار صهيونيًا وأميركيًا، وأن العدوّ يتجه لهزيمة حتمية، وهو ما يقود لمسار آخر.
هذا المسار الجديد بدأ بالقفز على الوضع الفعلي والموضوعي للجبهات، والانتقال لمرحلة أخرى بشكل غير عقلاني، مثل اللجوء لسياسة الاغتيالات وتحريك الطوابير الخامسة الإرهابية في دول المحور. وهو دليل على فقدان التماسك والأعصاب وتوسيع غير مدروس للمعركة يصلح أن يطلق عليه “الخيار شمشون”.
فقد حاول العدوّ الصهيوني أن يدعي التماسك والعقلانية والاقتدار بالإعلان أنه يركز على معركة غزّة ولن ينساق للحرب في جبهات أخرى، وحاولت أميركا ادعاء العقلانية والوساطة وأنها لا ترغب في التورط وتوسيع المعارك وتطمح للسلام.
أما الواقع المترتب على الصمود لكامل المحور فقد أظهر الأمر على حقيقته، فوجدنا العدوّ يلجأ للحماقات بالإيغال في دم الأبرياء والعزل عوضًا عن الفشل، ويخترق الخطوط الحمراء التي قد تجر لانزلاق مواجهات كبرى في لبنان، ووجدنا أميركا تتورط في دم اليمنيين وهو ما قد يفتح حربًا بحرية موسعة.
فهل يتغير عنوان الحرب وتوصيفها إلى مواجهة كبرى وحرب للتحرير؟
* المصدر: العهد الاخباري
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب