السياسية- رصد: لقمان عبدالله

برز اليمن، بفعل تموضعه إلى جانب فلسطين، قوة عسكرية فاعلة في الخارطة الجيوسياسية والبيئة الإستراتيجية المحيطة به والفناء الخارجي للمنطقة، وصولاً إلى حدود إريتريا وجيبوتي، فضلاً عن جنوب فلسطين المحتلة، فيما المجال مفتوح إلى دول أخرى وفقاً للحاجة.
وبذلك، كسرت صنعاء التوازنات العالمية المتحكّمة في غرب آسيا وشمال أفريقيا منذ الحرب العالمية الثانية. ولعلّها من المرّات النادرة التي تجد فيها الولايات المتحدة نفسها، في ظلّ تعقيدات الموقف وضعف مشروعية الحرب وتضارب مصالحها مع حلفائها، أمام معضلة تجميع شركاء في مواجهة أفقر بلد عربي، لكسر حصارٍ فرَضه جزئياً على إسرائيل.
هكذا، أقفل العام الماضي على تغييرات كبيرة في خارطة الأحداث العالمية، وبالخصوص في غرب آسيا، البارز فيها النشاط العسكري اليمني في الشهرين الأخيرين، في البحر الأحمر وباب المندب.
وعلى خلفية ذلك، انكبّت مراكز الدراسات في الغرب على البحث في عوامل قوة اليمن ومكامن ضعفه وميزاته الجغرافية وطبيعة سكانه المعروفين بـ«شعب الاحتراب»، فيما انشغلت الدوائر الاستخباراتية بتجميع المعلومات وتحليلها، لتضع أمام قادة دولها الخيارات المتاحة للتعاطي مع الوضع الناشئ المهدِّد للنفوذ التاريخي للغرب في الشرق الأوسط.
وأبرزت كبريات الصحف ووسائل الإعلام في الغرب، بدورها، جرأة القيادة اليمنية في اتخاذ قرار المواجهة، لينتقل اليمن، بهذا، من حالة الحرب التي وُصفت دوماً بـ«المنسيّة»، إلى الحضور والمتابعة، ويتقدّم المقاعد الخلفية إلى الصفوف الأمامية كمركز جذب عالمي.
هكذا، نجحت صنعاء في تحييد الوكلاء السعوديين والإماراتيين وحلفهم المشكّل من 15 دولة، والذي شنّ العدوان عليها، لتتفرّغ لمشاغلة الأصيل، أي الولايات المتحدة، وإعلان حرب مباشرة على الكيان الصهيوني، إلى حدّ بات معه يُتداول باسم اليمن في قلب عواصم القرار الدولي الداعم لإسرائيل في حربها على غزة، والداعم أيضاً للسعودية والإمارات في حربهما على اليمن.
ولعلّ أقرب وصف للأحداث، ما قالته «التايمز» اللندنية من أن ما يحدث هو «بداية لحرب صغيرة ذات آثار عالمية، تتحدّى قدرة أميركا على القتال في البحر ضدّ قوة هدفها النهائي إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط». على أن الدول الأوروبية تظلّ هي الأكثر قلقاً من التحدّي اليمني، بعدما وجدت نفسها عاجزة عن المجاهرة بالدخول في تحالفات مع الولايات المتحدة، خشية تعرّض مصالحها للخطر، خصوصاً أن ممرّ باب المندب والبحر الأحمر من أهم ممرّات سلاسل التوريد التجارية القادمة من الشرق والجنوب إلى الغرب.
والواقع أن مشكلة أوروبا إزاء حلف «حارس الازدهار»، هي ذاتها المشكلات والموانع التي أدت بالدول العربية والأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر إلى النأي بنفسها عن ذلك الحلف، خشية انزلاق الأحداث إلى حرب شاملة. كما أن هذه الدول فقدت الثقة بالولايات المتحدة التي لم تقرّر بعد الهدف النهائي من التحالف، وكيفية التعاطي عبره في حال توسّع الصراع.

وانطلاقاً من ذلك، طرح مراقبون تساؤلات من قبيل: كيف للولايات المتحدة أن تبقي الصراع مفتوحاً ومستنزِفاً لأوروبا في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه تجرّها إلى تحالف داعم لإسرائيل في معركة غزة التي قد تفضي إلى اتّساع دائرة المواجهة؟ صحيحٌ أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كان أفضل من عبّر عن الحنق وضيق الخيارات اللذين وصل إليهما الأوروبيون، بالقول إن التهديد الذي يشكّله اليمن أمر «لا يطاق»، إلّا أن حسابات الربح والخسارة لدى النخب الحاكمة في الدول الأوروبية تبقى هي المرجِّحة، وذات التأثير الأكبر في اتجاه البوصلة لناحية المشاركة أو عدمها في التحالف الأميركي.
وهذا ما أشار إليه المحاضر في العلاقات الدولية في جامعة «كومبلوتنسي» في مدريد، ديفيد هرنانديز، حين قال إن «الحكومات الأوروبية تخشى بشدة من أن ينقلب بعض ناخبيها ضدّها»، مشيراً إلى أن الرأي العام الأوروبي أصبح ينتقد إسرائيل بشكل متزايد ويخشى من الانجرار إلى صراع في الشرق الأوسط.

وفي الاتجاه نفسه، اعتبرت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية أن عدداً من حلفاء الأميركيين أعربوا عن شكوكهم بشأن نوايا واشنطن من تشكيل تحالف «حارس الازدهار»، وذلك لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية لديهم، كما هي الحال في إسبانيا وإيطاليا، أو للحفاظ على قنوات الاتصال مع العالم العربي، رغم الاتفاق على التنسيق وتبادل المعلومات.
ولمّحت الصحيفة إلى أن الشكوك الفرنسية مردّها أن هجمات «أنصار الله» على السفن التجارية في البحر الأحمر قد تجعل الولايات المتحدة أقرب إلى الرد العسكري، خاصة أنها أرسلت حاملة الطائرات «آيزنهاور» ومجموعتها إلى خليج عدن، وأن البنتاغون زوّد البيت الأبيض بخيارات عسكرية مختلفة ضد القدرات البحرية اليمنية والقواعد التي تنطلق منها.
على أيّ حال، ليس سهلاً أن يتخلّى الغرب عن أطماعه التاريخية في منطقة حيوية لاقتصاده ورخائه، وتوفّر له ميّزات في استمرار هيمنته على العالم. ولعلّ مردّ الغضب الأميركي والأوروبي والإسرائيلي اتّضاح الصورة لدى تلك الأطراف بأن اليمن نجح في خلخلة قواعد النظام المهيمن على البحار والمنطقة.
ويأتي ذلك بعد أن كان الغرب مهووساً منذ عقود، بالتهام اليمن، في عملية وصفها الكاتب عيسى بلومي، في كتابه «تدمير اليمن»، بأنها تقوم على تجريد اليمنيين من دورهم التاريخي باعتبارهم المحرّك الاقتصادي والثقافي والروحي والسياسي بالنسبة إلى جزء كبير من عالم المحيط الهندي.

– المصدر: الاخبار اللبنانية
– المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع