أحمد فؤاد*

 

“هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب”. الحشر- 2.

سيبقى يوم السابع من تشرين الأول تاريخًا عربيًا مميزًا بين عالمين، ولحظة ميلاد وخلق وقائع جديدة في العالم، تتعلق أساسًا بحدود القوى وأدوارها، بناء على ما أنجزته فعلًا على الأرض، بالدماء الزكية لأشرف الناس وأكرم الناس –الشهداء- إنها الفارق الهائل بين زمنين عربيين، زمن اليأس وزمن الانتصار، زمن الخنوع وزمن العزة، هنا تبدأ قصة جديدة عنوانها الأول: إذا أردت أن تأخذ حقًا، فخذه بيديك، ومن عين الأسد مباشرة، والمدينة الوادعة النبيلة غزة، والمقاومة العربية الشريفة، قد أعادت لنا تمثيل دور البطولة الإنسانية المجيدة، من جديد.

وإذا كان التاريخ سيضم هذه الأيام إلى أروع صفحاته وأنصعها وأكثرها بريقًا وبهاءً وجلالًا، وسيسجل كذلك بالمداد الأسود مواقف العدو الصهيوني، والغرب المجرم الداعم، وأنظمة الخيانة العربية، فإن أكبر وأهم ملخص جاد وواف لما تحقق في الأيام الخمسين الأعز في تاريخنا، التي شهدت معركة “طوفان الأقصى” أنها كانت تستحق تتويجًا بوزن حرية فلسطين القدس والوطن والمرأة: “إسراء جعابيص”.

قصة إسراء جعابيص تستحق أن تروى، وأن تكون عنوان انتصار اليوم، عنوان المستقبل الذي يرسم الطريق إليه وتحمل الخطوات عليه البندقية والرصاصة والصاروخ، وأن تتحول المقاومة من جبهة واسعة للعمل والبذل إلى ثوابت يومية للوعي والإنسان العربي، لأن صورة إسراء جعابيص المحررة اليوم هي درة تاج الانتصار الفلسطيني، انتصار غزة وحماس والمقاومة، انتصار لهذا الطريق الإلهي.

إسراء جعابيص مواطنة من فلسطين، وتحديدًا من القدس، أراد لها الاحتلال أن تكون “نموذجًا مكرسًا” وموجزًا للعجز العربي والذل العربي، وحقبة الامتهان السوداء، أن يدهس فيها الإنسان وفلسطين معًا، اليوم تخرج إسراء جعابيص إلى الحرية، لتكسر أول ما تكسر كل الأوهام التي تحيط بهذا الكيان الهش الضعيف المهزوم، ولتكتب المقاومة درسها من جديد بإجبار كيان العدو على الخضوع لشروط عملية التبادل، وإجباره على تسليم البطلة الصابرة.

كل ما هو موجع وأليم في فلسطين يمكن اختصاره في قصة إسراء جعابيص، وغيرها من النساء والأطفال، الذين أراد لهم الصهيوني أن يكونوا عبرة أبدية لزمن التراجع العربي المخيف، هي سيدة من القدس شب حريق في سيارتها فجأة في طريق دوامها، فاعتقلت على الفور، بعد أن احترق جسدها بنسبة 60%، بالدرجات الأولى والثانية والثالثة، وفقدت أصابعها وتشوه وجهها وملامحها، بتهمة تنفيذ عملية ضد جنود الاحتلال.

داخل سجون الاحتلال الباردة اعتقلت إسراء لثماني سنوات، كثاني أطول معتقلة في سجون الكيان، وحوكمت أمام قضاء الكيان الفاجر رغم حاجتها لـ 8 عمليات جراحية في العينين والوجه ولفصل أذنيها الملتصقتين برأسها، وللتعافي من أصابات بالغة وحروق في كل أنحاء جسدها، ورغم أنها بعد تآكل أغلب أصابعها، بسبب السجن وانعدام الرعاية، لا تستطيع تناول الطعام إلا بصعوبة بالغة، باختصار لا تستطيع إسراء القيام بأي من أنشطة الحياة اليومية، التي يمارسها أي إنسان.

وفي السجن لم تمنع إسراء من تلقي العلاج، وفقط، بل منعت من تلقي أية مساعدات، ربما منعت إسراء من كل شيء إلا قول “لا”، ورغم عدم قدرتها على الحركة، وحاجتها للعناية الطبية، اختار لها العدو أن تكون سجينة منذ 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، وحتى اليوم.

ولأن حكاية إسراء جعابيص هي وحدها حكم بات ونهائي على العالم كله، ووصمة عار على الضمير الإنساني، فلم تكن قصة رائجة “عربيًا”، بسبب ما فيها من آلام وفظائع، كثيرة وطويلة ومريرة، تخجل الكلمات والقلم أمام وصف بشاعة ما تعرضت له هذه الإنسانة من ظلم ومن انتهاك، ليستريح الضمير العربي المخدر إلى محاولة التناسي، وممارسة أحط صور الفعل “اللغو” في الصحف وعلى الشاشات، بينما كان العدو يستخدمها بطريقته الخبيثة، ويستغلها لإثبات قدرات جيشه الهائلة على سجن إنسانة شبه عاجزة.

كلنا أجرمنا –الشعوب العربية- حين وضعنا الرهان على حملات إلكترونية بلهاء، وساذجة، وهي كلها كانت عبارة عن سعي خائب وبسلاح “بلاستيكي”، عوضًا عن الضغط والرفض، وتحويل “هذه الأسطورة الحية” إلى أولوية للحكومات والشعوب والإعلام، لكن الأغلبية سقطت باختبار الإرادة أمام العدو، واختارت ببساطة أن تتخلى عن شرفنا وكرامتنا، شرف بمعناه الشخصي والمباشر تمامًا.

كلنا نسينا إسراء جعابيص، وكلنا مدانون ببقاء هذه الأسرة البريئة الجريحة 8 سنوات كاملة في أقبية سجون الاحتلال، لكن المقاومة وضعت كسر وهم التفوق الصهيوني، من حيت أراد أن يذلنا، بالضبط.

لماذا إسراء جعابيص –ولو وحدها- نصرًا؟

كان الكيان يبحث في هذه المرأة عن قتل الوطن، وعن إشاعة حالة الهزيمة في كل الأمة العربية، وكانت المقاومة الفلسطينية الباسلة ذكية وواعية حين اشترطت اسمها في قائمة لتبادل الأسرى رغم اعتراض كيان الاحتلال، الحركة أصرت على أن تكون من المفرجات عنهم، وتوقفت المفاوضات بسبب هذه البطلة تحديدًا لفترة، في النهاية أجبرت البندقية الفلسطينية، والسواعد العربية المساندة النبيلة، الشمس أن تزور إسراء جعابيص.

عملية تحرير فلسطين وإنسانها، في شخصية إسراء جعابيص، حتى بما يحمله اسمها القرآني ومدينتها المقدسة من رمزية عقائدية وإيمانية، وطاقة هائلة، تمدنا بالقوة والعزم لمواصلة هذا الطريق –مهما ارتفعت تكاليفه ومهما بلغت مصاعبه- هي في النهاية أيضًا تدفن تصورات “النخب المتغربنة” عن صراعنا الوجودي مع كيان العدو، وأن أول ما يقال لكسر هذا الطرح هو كلام سيد المقاومة وسيدنا سماحة السيد حسن نصر الله، في خطابه يوم الثالث من نوفمبر الجاري، بأننا نخوض معركة “أخلاقية وإنسانية ودينية”، وبالتالي فإن على الناس أن تعي وبشكل مباشر أن سلاحنا لن يكون البكاء أمام الغربي، أو التوسل له لمنحنا حقنا، بل أن نبدأ فورًا في أول خطوة للحل، وهي تمزيق صورة المسلم الهوليوودي الأليف، المدجن للغرب، والباحث عن رضاه وأوسمته وجوائزه، وبنفي هذه الفئة الضالة المضلة، وعزلها، سيصبح كل شيء أسهل.

* المصدر: موقع العهد الاخباري

* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب