من البندقية الى معارك الردع.. هذا صُنع المقاومة
لطيفة الحسيني*
من بنادقَ متواضعة ومُواجهاتٍ فردية ضمن نطاق جغرافيّ ضيّق، انطلقت ملاحم صدّ الاعتداءات الصهيونية على لبنان. منذ اليوم الأوّل للاحتلال، تلقّى الصهاينة ضرباتٍ مُتلاحقة شكلًا ومضمونًا. خَبِرَ أصحاب الطلقة الأولى شيئًا فشيئًا كيف يوجعون العدوّ. سنواتٌ أربعون وما زاد، ثقلت فيها قدرتهم وقوّتهم حتى أضحى الصهاينة مرضى نفسيين يخشون ما ينتظرهم في الجبهة الشمالية.
معركة البداية
في كلّ مراحل نِزَال المقاومة، عَرَفَ العدو أنواعًا مُتدرّجة من التصدّي دفاعًا عن الأرض والعرض. الكلمة على رأسها، القول لا لكلّ ما يخرج من مخططات تدمرية وفتنوية يراد لها أن تصبح أمرًا واقعًا رغم إرادة الشعب كما كان حال المتظاهرين الجنوبيين الذي هبّوا عام 1982 على طريق الزهراني الساحلي لرفض الاحتلال.
العام نفسه، مواجهة خلدة الى الصدارة، أُمّ المعارك التي أسّست فعليًا للردع القادم من لبنان. رئيس أركان جيش العدو أثناء الاجتياح الصهيوني للبنان رافائيل ايتان وصفها بأصعب المعارك في حرب لبنان الأولى. مقابل قوات العدو المؤلّفة من ألوية المُشاة والمظلّيين، وغولاني والمدرّعات والطيران، وسلاح البحر مدعومًا بالاستخبارات، خرجت ثلّة من الشباب المؤمن مُلتزمين بتكليف الإمام الخميني (قده) لقتال رتْل القادمين لاحتلال بيروت.
على مدى 3 ساعات متواصلة بلا تعبٍ أو إعياء، أجهز المقاومون على الصهاينة في الشوارع والمباني ومن مسافة صفر الى أن استطاعوا دحرهم بأسلحة بسيطة، والخلاصة كانت: منعهم من التقدّم والمُضيّ في مشروع احتلال العاصمة.
ولادة الكاتيوشا
في التسعينيات، أخذت المواجهة مع العدو طابعًا مُتطوّرًا. الكاتيوشا حينها قضّ مضاجع الاحتلال ومستوطناته. السلاح والعتاد لدى المقاومة يزداد، فيما يستقوي الصهاينة بغارات طائراتهم. 7 أيّام حرب متواصلة خاضها المُجاهدون عام 1993 لصدّ اعتداءات الاحتلال، سمّاها الأخير “تصفية الحساب”، إلّا أن الحساب الحقيقي الذي سُجّل في دفتر الصراع أن المقاومة الإسلامية فرضت منطقها: صواريخنا بوجه آلات قتلكم. لا شيء يحدّ من قدراتنا ومن إرادتنا في ردع الصهاينة. عملياتها لم تخبُ درجةً وظلّت على مسارها التصاعدي.
حرب عصابات ونهاريا وكريات شمونة في واجهة الأهداف
عناقيد الحقد في نيسان 1996. العدو يُشغّل مجدّدًا آلة المجازر. المقاومة في المرصاد.
يتزايد الغضب الصهيوني جرّاء تكثيف ضربات المجاهدين في كلّ المحاور وبوجه العملاء اللحديّين. عشرات الملاحم تُسطّر في المنطقة الجنوبية المحتلّة فاقت الأربعين عملية شهريًا توزّعت على قرى بيت ياحون وكونين وطيرحرفا وخلّة ميفيدون والجرمق وجزين وأرنون والشقيف وحولا ومركبا وصولًا الى عمق الشريط المحتلّ في تلك المرحلة. نشاطٌ عسكريٌّ مُتصاعد دفع قائد المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال آنذاك عميرام ليفين الى التحدّث عن تدريبات يجريها الجنود الصهاينة للمرة الأولى تُحاكي حرب عصابات مع مُجاهدي حزب الله.
مجازر كثيرة ارتكبها الاحتلال في تلك الفترة، قانا والمنصوري أشهرها، لكنّ الخلاصة التي انتهت إليها المواجهة ثبّتت معادلة ردعٍ متقدّمة. لم تضعف وتيرة العمليات، لم يتمكّن الاحتلال من ضرب قيادة المقاومة. مدى صواريخ الكاتيوشا توسّع ليشمل مستوطنات جديدة كنهاريا وكريات شمونة.
غزارة في العمليات.. المقاومة تؤلم العدو وتُحرّر الوطن
في العام 2000 وقُبيل تحرير الجنوب، الصورة أوضح وأقسى بالنسبة للصهاينة. الى أن اكتملت الهزيمة، أخذت المواجهة مع العدو طابعًا مؤلمًا. الضربات تتوالى. التحصينات الصهيونية المتطوّرة في مرمى نيران المقاومة وعبواتهم وكمائنهم وكذلك الرادارات المُخصّصة لرصد تحرّكات المجاهدين. تغيّرت القواعد تباعًا.
اقتحامات المواقع تتلاحق من البياضة الى الحردون الى العزّية وغيرها. الأسر أيضًا كان حاضرًا في أساليب المقاومة.
مواقع جيش الاحتلال وعملائه تتلقّى ضربة تلو ضربة. العبّاد والطهرة وسجد ومشعرون وعرمتى والطيبة شكّلت عبئًا وضغطًا مُتفاقمًا على قيادة المنطقة في جيش الاحتلال.
333 عملية نفذّها المقاومون في أيار وحده، قبل أن تتكامل مع جُهدٍ خارق أدّى الى إجبار العملاء اللحديّين على الفرار من مواقعهم في القرى المحتلّة من بئر كلاب، بركة الدجاج، ثكنة الريحان، تلة هارون، مرج حولا، قيادة فوج السبعين في القبع، العبّاد، الجاموسة، شلعبون، العيشية، حداثا، الزفاتة، بلاط، الشريقي، المحيسبات، ضهور الكسّارة وبرعشيت، الى أن أمْسَت بلدات الطيبة ودير سريان والقنطرة، وعلمان وعدشيت القصير وبلدات ميس الجبل، ورب ثلاثين، ورشاف، وبني حيان، بيت ياحون، محيبيب، وبرعشيت وطلوسة، ومركبا، وحولا، والعديسة، وكونين مُحرّرة بفعل إجهاز المقاومة على الصهاينة وعملائهم، وأصبح كلّ الجنوب اللبناني فارغًا من أيّة قوة صهيونية أو عميلة.
الترسانة الصاروخية تتقدّم
2006 المعادلة تتبدّل. الحقّ ينتزع بالقوة. الأسرى عنوان عمل المقاومة. الوعد الصادق يتحقّق، وأسْر جندييْن صهاينة في عملية مباغتة للعدو في “خلّة وردة”. 33 يومًا خاضها المجاهدون لكسر العدو وتسطير معادلات ردع بالجملة عمادها العتاد العسكري والعامل النفسي. المقاومة تضع صواريخَ جديدة في معاركها. تطوّرٌ نوعيّ أرهب العدو ولم يدع له مجالًا للانتصار. سلاح الجو الصهيوني يُعيد عرض عضلاته بالقصف والغارات والتدمير والقتل، والمقاومة تترك ترسانتها الصاروخية (غير الموجّهة) تصنع المشهد، من غراد (مدى بين 5 و35 كلم) وفجر 3 و5 (مدى بين 45 و75 كلم) وزلزال 1 و2 وخيبر 1 (مدى بين 100 و180 كلم). مستوطنات ومدن عدّة عرفت هذه الصورايخ للمرة الأولى في هذه الحرب: طبريا – حيفا – العفولة – الناصرة- عكا- نهاريا- رامات ديفيد – بيسان – الخضيرة.
الردع ثابت
الردع الذي أسّس له حزب الله في 2006 آتى أُكُله في المرحلة اللاحقة. الاحتلال أطلق في أكثر من مواجهة محدودة مصطلح “معركة بين الحروب”. الصورة تجلّت في مزارع شبعا عام 2014، ثمّ في 2015 عندما انتقمت المقاومة لشهداء القنيطرة الذين اغتالهم العدو، مُستهدفة موكبًا عسكريًا صهيونيا مؤلّفًا من عددٍ من الآليات بالأسلحة الصاروخية.
ظلّت العمليات اللغة السائدة، ففي 2019 استهدفت المقاومة آلية عسكرية صهيونية في مستوطنة أفيفيم. عام 2020، أَعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن معادلة مختلفة. تهديدٌ علنيّ أربك العدو لأسابيع اضطرّته الى إخلاء مواقعه الحدودية مع لبنان والاستعاضة بالدُمى ووضعها في آلياته العسكرية. عقب كلّ هذا، شنّ حزب الله حربًا على المُسيّرات وطائرات التجسّس الصهيونية ، فلم يعد مرورها آمنًا في الأجواء اللبنانية.
نوعٌ جديدٌ من المعارك
يقول السيد نصر الله في خطاب 3/11/2023 “إننا اليوم أمام معركة حقيقية مُختلفة عن كلّ المعارك التي خاضتها المقاومة في لبنان، سواءٌ قبل عام 2000 أو في عام 2006 وما بعدها، معركة مُختلفة من نوع آخر، في ظروفها، في حيثيّاتها، في عناوينها، في أدواتها، في استهدافاتها، في إجراءاتها”.
يرى بعض المُحلّلين أن ما يجري ليس معركة بين الحروب، وليس جولة قتالية محدودة. كلّ شيء اليوم مُعاكس. معركة جديدة أدبيّاتها حيّة ومُتواصلة، نتائجها جارية، تداعياتها مباشِرة ومُتدفّقة في كيان العدو في كلّ دقيقة. كيف ستنتهي؟ قد يكون من المُفيد جدًا قراءة صحافة الاحتلال التي تحسم الجدل: مستقبل بنيامين نتنياهو انتهى وزمن نكبات كيان “اسرائيل” بدأ.
* المصدر: موقع العهد الاخباري
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب