لفيف بني اسرائيل ووعدا الاولى والآخرة
رؤية قرانية تاريخية وفقا للاحداث التي حدثت وتحدت الان لما سيحدث مستقبلا
بقلم / د.يوسف الحاضري*
(وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا)
يتحدث الله في هذه الاية عن وضعية بني اسرائيل تاريخيا وحاضرا ومستقبلا من منطلق اته عز وجل اراد عزتهم واستقرارهم ليتمكنوا من عبادة الله كما ينبغي بعد ان اهلك عدوهم فرعون كما تحدث في الاية السابقة بقوله ( فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا) غير انهم رفضوا هذه النعمة فقالوا لموسى (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) فكانت النتيجة ان يبعثرهم في الأرض ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) فتشتتوا بعد ذلك في الأرض قاطبة بصورة ضعيفة انزامية تابعة لأنظمة الدول التي كانوا فيها فكان جزء منهم في الاوطان العربية مجرد مواطنين تابعين لانظمتها وكذلك في أوروبا ولم نسمع لهم ابدا عن ان لهم دولة خاصة بهم وقوة الى ما قبل (وعد الأولى ثم وعد الآخرة) الذي بدءتا في ١٩٤٨م بتكوين دولة خاصة لهم والتي منذ تلك اللحظة وحتى يومنا هذا والله يلفلفهم لفلفة الى الأراضي الفلسطينية المغتصبة من قبلهم (جئنا بكم لفيفا) واللفيف يعني الخليط الغير متجانس والغير سوي والغير متناسب من كل شيء سواء من الدول المختلفة الأوروبية والعربية والاسيوية وايضا خليط النفسيات الفاسقة والاجرامية والمفسدة في الارض وغيرها ، لذا استخدم الله كلمة (لفيف) وسبب هذا الجمع اللفيف لهم ليحق عليهم سنة الله في الفاسدين كما تحدث الله عن ذلك في بداية سورة الاسراء ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) وهذا امر قاطع الحدوث من خلال تدمير الله لهذه النفسية الاجرامية المفسدة في الارض الفاسقة عن دروب الحق وصراط الله المستقيم وسوف يصابون في نفوسهم الإستعلائية المتكبرة (ليسوءوا وجوهكم) حتى تنكسر هذه النفسية ويخضعوا ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (صاغر عكس مستعلي) كما وضح الله ذلك العلو بقوله ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا )والعلو متمثل في العلو النفسي (الاستكباري) والعلو المادي والمعنوي (التطور الصناعي والاقتصادي والتجاري والسياسي) والعلو العسكري وغيرها لذا وصف الله العلو ب(الكبير) وأكده بقوله (علوا) وهذا العلو كاملا سوف يتم تتبيره (أي تدميره وإهلاكه) كما وضح الله ذلك بقوله (وليتبروا ما علوا تتبيرا) اي سيتم تدميرهم أقتصاديا وعسكريا وسياسيا وصناعيا أيضا وكل ذلك سيسبقه دخول أهل الحق من المسلمين المجاهدين المسجد الأقصى بقوة الإنتصار وليس بقرارات أممية ولا بما يسمى حل الدولتين وليس بالتفاهمات ومفاوضات السلام على الإطلاق والتي يسعى الصهاينة لاغراقنا فيها لان بقاءنا فيها ضمان لبقاءهم وعدم تدميرهم كونهم يعلمون سنن الكتب السماوية كما يعرفون ابناءهم ، وهنا يأتي تساؤل شغل الكثيرون هل نحن نعيش وعد الأولى او وعد الآخرة ؟
الإجابة واضحة وسهلة جدا، ولكن قبلها علينا ان نعي ان مفهوم وعد الاولى ووعد الاخرة هو (افساد بني إسرائيل في الأرض مرة اولى ومرة ثانية) كما وضحه الله (لتفسدن في الأرض مرتين) وخلال الوعدين يكون علوهم مطرد حتى يصلوا الى قمة العلو (علوا كبيرا) ويلحق الوعد الاول عمل جهادي كبير يمهد للوعد الثاني الذي سيحصل بإفساد اكبر ليمهد للعمل الجهادي الثاني، لذا علينا ان نفهم انه عندما بدأ وعد الأولى قرب وعد الآخرة والذي سيأتي بمجرد اتتهاء وعد الأولى مباشرة لأن الثاني يلحق الاولى مباشرة والآخرة تلحق الاولى مباشرة ولا يوجد بينهما فارق زمني لأمر ثالث ابدا ابدا، فمنذ ١٩٤٨ بدأ افسادهم الاول المصاحب لعلوهم حتى اكتمل وعد الاولى (فإذا جاء وعد اولاهما) والإكتمال كان في ٧ اكتوبر ٢٠٢٣م والتي عندها بدأ العمل الجهادي المرتبط بوعد الاولى والذي رأيناه كما ذكره الله تماما في القران ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ) فقد تحرك مجاهدون عبادا لله اي مرتبطون به وواثقون فيه ومتحركون بقوة الإيمان الحقيقي كونهم لم يهابوا قوة العدو وعتاده واستعداده وتحالفاته ونفسيته الاستعلائية التي وصل إليها في العلو الكبير كون هذه المرحلة يستحيل على اي قوة مادية اخرى ان تتحرك ضد هؤلاء الا من كانت تنطبق عليه (عبادا لنا) وهذا ما نراه من تسابق المطبعين العرب والمسلمين الى احضان الصهاينة رغم ما يمتلكه هؤلاء من ثروات مادية وبشرية وغيرها الا ان هذه تعتبر لا شيء مقارنة بعلو بني إسرائيل ، لذا لم يكن ليتحرك الا من هم في خانة (عبادا لنا) والسبب ان العبودية الحقيقية لله ستجعل العبد هذا يمتلك بأسا شديدا (وليس قوة مادية) وهذا ما ذكره الله في وصفه لهؤلاء العبيد (أولى بأس شديد) واكده ب(الشديد) والبأس يعني قوة الايمان وعدم الخوف من العدو وعلوه العسكري والاقتصادي والمجتمعي وغيرها ، اولي بأس اي لا يخشون الموت بل يتلذذون فيه ويخوضون المنايا بعشق كما يخوض الاسرائيليون متاع الدنيا وملذاتها بعشق وهذا ما رأيناه في اولئك المجاهدين عندما اقتحموا غلاف غزة والمستوطنات الصهيونية بطرق متعددة لا يمكن ان يقوم بها الا عبادا لله اولي بأس شديد لذا احدثوا في الكيان الصهيوني وجيشه ما أحدثوه في ساعات معدودة من خلال تحركهم في ديار الصهاينة ومستوطناتهم (فجاسوا خلال الديار ) وبطبيعة الحال الجوس في الديار ليس للنزهة والمتعة وانما للقتل والتدمير والعمل ما عملوه الابطال في ٧ اكتوبر وما بعده ذلك اليوم وقد اكده الله بقوله (وكان وعدا مفعولا) والتاكيد هنا جانب من حوانب الدعم الإلهي لعباده ان لذك سيحدث كسنة من سنن الله وأقداره فما عليكم الا التحرك السليم والسديد وهذا ما حصل .
المرحلة الثانية من الافساد بدأ مباشرة بإنتهاء (جاسوا خلال الديار) أي ما اسميت عملية طوفان الأقصى لان الله بدأ الآية بحرف العطف (ثم) وهذا الحرف يعني بدأ الحدث الثاني مباشرة بعد انتهاء الحدث الأول ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) وهذا ما نشاهده الايام هذه من خلال ازدياد ما يمتلكه الصهاينة من اموال وكثير من المقاتلين والنفير الاكثر بنفير زائد عما كانوا عليه قبل وعد الاولى فراينا امريكا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا والمانيا وكثير من الدول خاصة دول عربية عديدة استنفرت الجهد والمال والجيش والاعلام لتصبح الكرة للاسرائيليين على المجاهدين ويتمالك الاسرائيليون انفسهم مرة اخرى ويستقروا بقوة اكبر ونفير اكبر . وهنا يصبح الاسرائيليون بين مسارين اما مسار الاحسان والرجوع الى الحق او مسار الاستمرار في الباطل والطغيان وكلا الامرين لن يفيدهم في البقاء فوعد الله المفعول محققا وانما الاحسان او الفساد فهو لانفسهم وليس لغيرهم (ان احسنتم احسنتم لأنفسكم وان اسأتم فلها) وخلال هذه الفترة التي نعيشها الان تبدأ ملامح وعد الآخرة لأن الله استخدم في سياق الآية العطف بحرف (الفاء) والتي تعني حدوث الامر الثاني في لحظة انتهاء حدوث الحدث الأول وليس كحرف ( ثم ) الذي يدل على حدوث الحدث الثاني بعد اكتمال انتهاء الحدث الأول أي ان الوعدين متداخلين ومتتالين في زمنين متتاليين كما وضحنا ذلك اعلاه (فإذا جاء وعد الآخرة) أي اننا الان وبعد استمرار الإسرائيليين في افسادهم الاكثر شناعة في الأرض ومخططاتهم لتوسيع هذا الافساد سيستمر عباد الله الذي تحدث عنهم الله في اية وعد الاولى بالتحرك وبشكل اوسع وفي مناطق فلسطينية أوسع واشمل وعلى رأسها الأقصى والقدس ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) وستكون النتائج النهائية لهذه الاحداث والتي قد تطول كسر هيبة الكيان وعلوه وتحرير المسجد الأقصى والقدس وتدمير الجانب الاقتصادي والسياسي والعسكري تدميرا (وليتبروا ماعلوا تتبيرا) ومع ذلك وبعد ذلك سيبقى الاسرائيليون في ارض فلسطين ولكن ليس بما كانوا عليه وانما بشكل مواطنين عاديين او حتى بشكل دولة في مناطق عادية منزوعة القوة والاستعلاء والتسلط على الاخرين من منطلق رحمة الله بهم واعطاءهم فرصة اخرى للعودة للحق ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) وسيكونون تحت الرقابة الإلهية والبشرية لعباد الله فيما اذا فكروا في الاستمرار في المؤامرات والافساد وغيرها (وان عدتم عدنا) وستكون نهايتهم التامة والكاملة .
هذه نظرتي ورؤيتي التحليلية المنبثقة من فهمي لهذه الآيات القرآنية وربطها بالأحداث التي حدثت وتحدث الان لاستشف ما سيحدث مستقبلا في اطار الصراع الازلي والدائم بين الحق والباطل من منطلق الآية اللاحقة لهذه الاحداث ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْـمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا).
*كاتب وباحث في الشئون الدينية والسياسية