الكيان الصهيوني واستراتيجية “جيشه”.. ماذا بقي من وثيقة عام 2015؟
وسام إسماعيل*
عام 2015، توصَّل “جيش” الكيان الصهيوني إلى قناعة مفادها تغيّر البيئة الاستراتيجية المحيطة به، بما يعنيه ذلك من تغير في طبيعة المخاطر التي تهدد الكيان. وانطلاقاً من ادعائه ديناميةً يفتقدها الكثير من جيوش العالم، أوحى “الجيش” الصهيوني، من خلال وثيقة أصدرها عام 2015 تحت عنوان “استراتيجية الجيش الصهيوني”، بأنه قادر على مواءمة قدراته وتكييفها من أجل التصدي للمخاطر المستجدة التي تهدد تحقيق الكيان الصهيوني أهدافه القومية.
وفي هذا الإطار، حدد “الجيش” أهم أهدافه في إطار تأمين قيام “كيان إسرائيل” وقيمها “اليهودية الديمقراطية” وتقوية مكانتها الدولية والإقليمية. من ناحية أخرى، أقر الكيان الصهيوني بأن الخطر الذي يواجه الكيان يكاد ينحصر فعلياً ضمن مجموعة من الدول التي لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، إيران لبنان وسوريا، إضافة إلى مجموعة من التنظيمات التي يذكر منها بالتحديد حزب الله اللبناني وحركة حماس.
وإذا كان من المنطقي مقاربة رؤية “الجيش” الصهيوني لمصادر التهديد وفقاً لأولويتها وأهميتها، فإنَّ مواجهة التنظيمات اللادولتية، كما يسميها، تركت أثراً كبيراً في استراتيجيته، بحيث إنه أقرَّ بتراجع تهديدات الجيوش النظامية.
وبناء عليه، ركز في إطار هذه الاستراتيجية على ضرورة نجاح “الجيش” في إنهاء المعركة بسرعة والعمل على تقليص الأضرار في الجبهة الداخلية، إضافة إلى وضع العراقيل أمام إعادة تسلُح العدو من جديد.
وفي إطار استكمال رؤيته في مواجهة أعدائه، يؤكد “الجيش” في وثيقته الاستراتيجية خوض المعارك الوقائية وتفعيل القدرات الاستخباراتية لإحباط أي قدرات مؤثرة للعدو، إضافة إلى توسيع التعاون الإقليمي والشراكة الدولية وتوفير الردع الدائم، سواء على صعيد المعارك الاستراتيجية أو المواجهات التكتيكية.
أما ضمن إطار مقاربته لشكل العلاقة مع المستوى السياسي، فتشدد الوثيقة على ضرورة تعاون المستوى السياسي مع قيادة الأركان لجهة تحديد ماهية الأهداف النهائية والصورة الاستراتيجية في نهاية الحرب، وكذلك تحديد مهمة “الجيش” والضوابط التي قد تقع على كاهل المستوى العسكري عند تشغيل قوته العملياتية.
منذ عام 2015، استطاع “الجيش” الصهيوني أن يقدم تطبيقاً عملياً لمندرجات هذه الوثيقة، إذ ادعى نجاحه في تحييد الجبهة الشمالية، ذلك أنها لم تشهد تصعيداً عسكرياً وبقيت منضبطة ضمن ما اعتبره هدوءاً استطاع أن يفرضه على المقاومة.
وإذا كان هذا الهدوء قد ظهَر على أنه نتيجة لقدراته الردعية، فإن تاريخ المواجهة بين الطرفين، والتي لم تكن أبداً نتيجة مبادرة المقاومة التي كانت تؤكّد دائماً تبنيها استراتيجية دفاعية تحولت في السنوات الأخيرة لناحية اعتراف المحللين الصهاينة بقدرات المقاومة على منع أي اعتداء أو نشاط عملياتي صهيوني ضمن الأراضي اللبنانية.
أما لناحية غزة، فقد ظهر أن الانكفاء والحياد الذي مارسته حركة المقاومة الإسلامية لم يكن نتيجة نجاح “الجيش” الصهيوني في ردع الحركة من خلال تهديدها بالثمن الذي من الممكن أن تتكبده نتيجة تحرك غير محسوب، إنما كان هذا الانكفاء مجرّد ستار تحّضر من ورائه لعمل لا يمكن حتى هذه اللحظه توصيف نتائجه بشكل دقيق.
أما بالنسبة إلى ما ادعاه “الجيش” الصهيوني فيما يعتبره معركة بين الحروب كحقيقة تؤكد فعاليته وقدرته على خوض معارك وقائية واستخباراتية تتعلق بتقييد حركة الفصائل المقاومة، فقد ظهرت مراكمة القوة لدى الفصائل بشكل واضح في هذه المعركة.
لقد استطاعت المقاومة بأطيافها أن تثبت نجاحها في امتلاك كميات كبيرة من السلاح النوعي وفي إثبات قدراتها على التحرك في بيئة معادية تهدف إلى محاصرتها وإعاقتها. وبناء عليه، فشل الهدف الذي ادعى “الجيش” الصهيوني العمل عليه، أي المتعلق بوضع عراقيل أمام تسلح عدوه، إذ إن “طوفان الأقصى” أظهرت أن ما تمتلكه حركة المقاومة الإسلامية من تجهيز يتخطى حدود استيعاب العقل الصهيوني. وإذا قلنا إنه يتخطى حدود استيعاب العقل الصهيوني، فإن حجم الصدمة والمفاجأة وعدم القدرة على استيعاب الموقف والتخبط الذي أصاب القوات الصهيونية المحاصرة لغزة يؤكد هذا الأمر.
من حيث الشكل، نجح “الجيش” الصهيوني نسبياً في تقدير وحيد من ضمن كل التقديرات التي تحدث عنها في وثيقته؛ فالحديث بإسهاب عن خطر الجماعات اللادولتية مع إهمال أو تصنيف خطر التهديدات الدولتية له في درجة الثانية قد يظهر حقيقة واقعية من خلال شكل ما يواجهه حالياً.
وإذا كان من الضروري الإشارة إلى الخطر الذي تشكله دول محور المقاومة، إذ يعتبر الكيان أن كل التحضير والتجهيز الذي نجحت المقاومة في تحقيقه ما كان ليتم من دون الدور الإيراني والسوري والعراقي الذي من الممكن اعتباره مسهلاً أو ممراً، فإن الأنظمة العربية، وخصوصاً دول الطوق، أي مصر والأردن، ظهرت على أنها خارج معادلة الصراع.
وإذا قاربنا موقف الدول العربية الأخرى، فإن أكثر هذه الدول التي كان من الممكن أن تؤدي دور الداعم اللوجستي على أقل تقدير التزمت منذ تسعينيات القرن الماضي بالرؤية الأميركية الحاضنة للكيان، بما يؤكد نسبية الدور الإسرائيلي في هذا المجال.
وبناء عليه، فإن التعاون الإقليمي الذي يعتبره “الجيش” الصهيوني هدفاً يرقى إلى الحاجة الاستراتيجية لم يكن نجاحاً صهيونياً، إنما نتيجة ضغوط أميركية لا تصنف في خانة الإنجاز الصهيوني، إنما في خانة الاستراتيجية الأميركية التي تستهدف المنطقة كهدف يخدم مصالحها الاستراتيجية كقطب أوحد.
وإذا قاربنا استراتيجية “الجيش” لناحية العمل على إنهاء المعركة بنجاح وبسرعة ولناحية تقليص الأضرار على الجبهة الداخلية، فإن حرب لبنان الثانية تركت أثراً عميقاً في هذه الوثيقة؛ فالاستنزاف الذي تسببت به المقاومة في تلك المرحلة وحفاظها على قدراتها الصاروخية ونجاحها في تحديد أهداف صواريخها البعيدة المدى، بما ألحق أضراراً جسيمة بجبهة الكيان الداخلية، إضافة إلى فشل الكيان في إنهاء المعركة في أيام قليلة، شكلا أهم ما تطرقت إليه الوثيقة لناحية تفادي إخفاقات المستويين العسكري والسياسي وعدم تمكنهما من تحقيق التنسيق المطلوب.
وبناء عليه، فإن ما أشارت إليه الوثيقة في هذا الإطار أظهر فشلاً ذريعاً من خلال الاستراتيجية التي تعتمدها المقاومة في غزة وعلى الحدود الجنوبية للبنان، إذ يعجز الكيان عن تحييد الداخل والتقليل من الأضرار التي تصيب جبهته الداخلية، إضافة إلى فشل المستويين السياسي والعسكري في تنسيق مهامهما وحسم المعركة بالسرعة المطلوبة.
وبناء عليه، إذا كان العنوان الأساسي للوثيقة يرتبط بالردع، فإن معركة “طوفان الأقصى” نسفت كل مندرجات الوثيقة، وأعادت “جيش” الكيان الصهيوني إلى مربع الإخفاق الذي انطلق منه، والذي يمكن توصيفه بمحاولة معالجة نقاط الضعف التي أصابت الكيان ومؤسساته العسكرية والأمنية والسياسية التي تطرقت إليها بإسهاب لجنة فينوغراد التي شُكلت بعد حرب لبنان الثانية، فـ”طوفان الأقصى” وإصرار محور المقاومة على إلحاق هزيمة عسكرية واستراتيجية وسياسية بالكيان يؤكدان أن ما بقي من الوثيقة لا يتعدى الحبر الذي كُتبت به.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب