تداعيات “طوفان الأقصى” على الوعي الإسرائيلي
د. علي زعيتر*
عبر المجاهدون الفلسطينيون الجدار الفاصل بين غزة وغلافها، براً، وبحراً، وجواً، فلا رادارات الاحتلال رصدت طائراتهم الشراعية والمسيرة، ولا خفر سواحله ألقى القبض عليهم، ولا حراس حدوده منعوهم من التسلل. عبروا، ثم انتشروا، ثم ربضوا، ثم كمنوا، ثم أسروا، ثم غنِموا، وها هم حتى اللحظة يرابطون في ثلاث مستوطنات، ولم تنجح كل آلة القتل الهمجية في الإجهاز عليهم أو إجبارهم على الانسحاب.
يوم من أيام الله، بهذه العبارة يمكن أن نختصر ما جرى صبيحة السابع من تشرين الأول لعام ٢٠٢٣. قوات برية وبحرية ومظلية اجتاحت جدار الفصل العنصري في مستوطنات غلاف غزة، فكان طوفان الأقصى وكانت ملحمة الفداء.
١٠٠٠ قتيل وأكثر من ثلاثة آلاف مصاب بحسب الإعلام العبري سقطوا خلال ملحمة طوفان الأقصى، والعدد ما زال في ازدياد. أعداد غير محددة من الأسرى، لم يسبق لإسرائيل أن عاينت مثلها منذ ٧٥ سنة. فما أهم تداعيات معركة طوفان الأقصى على المدَيَيْن القريب والبعيد؟ وما مصير المعركة التي لا تزال دائرة حتى الساعة؟ وماذا بوسع حكومة نتنياهو أن تفعل للملمة تداعياتها؟ وهل يمكن أن تتطور الأمور إلى معركة كبرى في المنطقة؟
لمعركة طوفان الأقصى تداعيات عديدة على الوعيَيْن الجماعييْن العربي والإسرائيلي، ستظهر تباعاً بعد أن تتضح تفاصيل ما جرى، نذكر منها الآن على سبيل المثال لا الحصر:
أ_ لم تعد فلسطين المحتلة ملاذاً آمناً لليهود، ولم تعد أرضهم الموعودة كما كانوا يحلمون. بات الخطر يحيط بصهاينة الداخل من كل جانب بعدما نجح مجاهدو القسام في الحفر عميقاً في وعي ولا وعي قادة الاحتلال. هذا أول درس تلقاه العدو الإسرائيلي، وهذا أول تداعيات ما جرى صبيحة السابع من تشرين الأول ٢٠٢٣.
ب_ سقط وهم “إسرائيل” الكبرى التي يحدها نهر الفرات من الشمال ونهر النيل من الجنوب منذ العام ٢٠٠٠، بعد تحرير جنوب لبنان مباشرة، واليوم سقط معه وهم “إسرائيل” الصغرى، فلا أراضي الـ ٤٨ عادت صالحة للسُّكنى، ولا أراضي الـ ٦٧، ولا أي بقعة من بقاع فلسطين المحتلة.
ج_ ها هي نبوءات العهد القديم تتساقط واحدة تلو الأخرى، فلا مملكة يهوذا والسامرة صالحة للبقاء، ولا نبوءة ظهور مخلص اليهود آيلة للتحقق.
د_ بعد عمليات حزب الله الأخيرة في جنوب لبنان، والتي اعتبرها العديد من المراقبين بمثابة عمليات ردع، وبعد خطاب سماحة السيد عبد الملك الحوثي الأخير الذي أعلن فيه عن استعداد أنصار الله لقصف الأراضي المحتلة في حال تعرضت غزة لاجتياح بري، وبعد بيانات فصائل المقاومة العراقية، نجح محور المقاومة حتى الآن في مساندة غزّة كما يجب.
هـ_ لم يعد الجيش الإسرائيلي ذلك الجيش الذي لا يقهر، فقد قهره عدد يسير من المجاهدين الأشداء.
و_ انقلبت الصورة، فما عاد العربي يمشي القرفصاء، وبندقية الجندي الإسرائيلي مسددة إلى رأسه، بل العكس بات صحيحاً، فقد شاهدنا لأول مرة الجندي الإسرائيلي وهو يسير القرفصاء أسيراً، وبندقية المقاوم العربي موجهة إلى رأسه.
ز_ تبين عدم صوابية النظرية التي تقول إن الإنسان العربي يخفق في كل شيء حتى في الدفاع عن نفسه والحفاظ على مكتسباته، واسترداد حقوقه، وأنه متواضع الذكاء حدَّ الغباء، فقد أثبتت معركة طوفان الأقصى، أن العربي إذا سنحت له الفرصة وتوفرت له شروط النصر، قادر على اجتراح المعجزات.
ك_ انتهت صلاحية الدعاية الغربية التي كانت تروج لفكرة تفوق العنصر الأبيض. إذ لم يعد لكل مضامين تلك الدعاية قيمة. فقد أثبت العرب مجدداً أنهم جديرون بالحياة، وبالتنافس على ريادة المنطقة والعالم.
ل_ سقطت النظرية التي دأب على الترويج لها بعض المستشرقين ومن شايعهم من مرجفي العرب، والتي تقول إن الإسلام سبب تخلف الشعوب العربية والمسلمة، فقد برهنت حركة المقاومة الإسلامية حماس أن أُفْهُومَ الإسلام السياسي الذي تتبناه جدير بالاقتداء.
م_ أعادت عملية طوفان الأقصى كي الوعي العربي والإسرائيلي على حد سواء. فقد رسخت في أذهان الناشئة العرب فكرة المقاومة ونجاعة خيارها، ومحت من ذاكرتهم كل مشاهد الخزي والعار التي تكرست فيها على مدى السنوات الماضية. فيما وطَّأت للخوف طريقه إلى قلوب وعقول جيل الشباب الإسرائيلي، فحطمت شيئاً من غروره الزائف، والذي سعى جيل المؤسسين (مائير، بن غوريون..) جاهداً لترسيخه في أذهان أبناء ذلك الجيل.
ن_ أيقظت في الشعوب العربية جذوة المقاومة، وأعادت لهم الأمل بغدٍ أفضل.
ح_ أثارت حفيظة كل دول الاستكبار، فبات قادة تلك الدول يتحسسون مقاعدهم. اليوم فلسطين تُنتَزَع من أيدي الأنغلوساكسون وشتات اليهود، وغداً أفريقيا تُنتزع من أيدي الفرنسيين وأدواتهم.
ط_ أصابت مشروع التطبيع، وخرافة الدين الإبراهيمي في مقتل. فبعد أن وضع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وساعده الأيمن ابن زايد كل رهاناتهما على التطبيع، ها هي عملية طوفان الأقصى تضرب بكل تلك الرهانات عرض الحائط، وتعيد خلط الأوراق بشكل غير مسبوق.
ي_ أحرجت حكومة نتنياهو وبن غفير اليمينية المتطرفة، فلا هي قادرة على رد الصاع صاعين، ولا هي قادرة على تجاهل خسائرها الفادحة، كأن شيئاً لم يكن.
إن حكومة نتنياهو حالياً، في موقف لا تحسد عليه، فهي أمام خيارين، أحلاهما مر: إما أن تمضي قدماً في عملية برية واسعة فتجر المنطقة إلى حرب شاملة لا قِبل لها بتحمل تبعاتها، وإما أن تعض على جراحها، فتكتفي بإنزال جام غضبها على النساء والأطفال والمدنيين الأبرياء بواسطة طائراتها الحربية.
* المصدر: موقع العهد الاخباري