حسن نافعة*

في مثل هذه الأيام من العام 1973، أي منذ نصف قرن بالتمام والكمال، كان الجيشان المصري والسوري يضعان اللمسات الأخيرة على خطة مشتركة تستهدف عبور قناة السويس من ناحية، واجتياح هضبة الجولان من ناحية أخرى، في عملية عسكرية متزامنة ضد الاحتلال الإسرائيلي أطلق عليها لاحقاً “حرب أكتوبر”.

لم يكن بمقدور أحد أن يصدق آنذاك أن جيوشاً تجرعت مرارة الهزيمة قبل 6 سنوات يمكنها إعادة بناء نفسها خلال هذه الفترة القصيرة والانقضاض على “الجيش الذي لا يقهر” لإذاقته من الكأس نفسها، لكن هذا ما حدث بالفعل.

ولولا مسارعة الولايات المتحدة إلى إنقاذ “إسرائيل” من هزيمة ساحقة، لما تمكنت من الصمود أبداً. على أي حال، وبصرف النظر عما جرى في ميادين القتال بعد ذلك، فمن المهم أن نتذكر أن ما جرى خلال تلك الأيام المجيدة لم يكن مجرد معركة عسكرية فحسب، بل كان معركة شاملة أيضاً شاركت فيها الشعوب والحكومات العربية بكل ما تملك، ما جعل العالم العربي يبدو في ذلك الوقت أمة واحدة، وأيضاً قوة دولية مؤهلة لتتبوأ مكانة مرموقة في الساحتين العالمية والإقليمية.

اليوم، وبعد مرور نصف قرن، يبدو العام العربي في حالة يرثى لها من التشرذم والانقسام والضياع وفقدان الإرادة والقيادة والبوصلة، بسبب ما تعرض له من هزات كبرى تعدّ في حد ذاتها كاشفة عن خلل بنيوي ينبغي تشخيصه ومعالجته.

الهزة الأولى التي تعرض لها العالم العربي تسببت بها مصر، وتحديداً الرئيس أنور السادات؛ فبعد الإنجاز العسكري الذي تحقق في حرب تشرين، تصور السادات أنه استطاع أن يحقق ما لم يستطع عبد الناصر نفسه أن يحققه، ومن ثم أصبح بمقدوره إعادة صياغة الحياة السياسية في مصر، وربما في العالم العربي كله، على هواه ووفقاً لرؤيته وقناعاته، وهي رؤية وقناعات تناقضت كلياً مع رؤية عبد الناصر وقناعاته.

اعتقد السادات أن الولايات المتحدة “تملك 99% من أوراق الحل”، ومن ثم إذا استطاعت مصر أن “تجلس على حجرها”، وفقاً للتعبير الذي استخدمه الراحل الكبير أحمد بهاء الدين، فلن تنجح في التوصّل إلى تسوية مقبولة للصراع مع “إسرائيل” فحسب، إنما في الحصول أيضاً على مساعدات مالية وفنية ضخمة تمكنها من الانطلاق على طريق التنمية والتحديث.

وتأسيساً على هذا التصور، لم يكتفِ السادات بفتح قناة اتصال سرية مع الإدارة الأميركية إبان حرب تشرين فحسب، إنما تبنى بالكامل خطة كيسنجر لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي في أول لقاء جمعه به.

ولأنها خطّة ارتكزت على منهج “الخطوة خطوة”، أي فصل مسارات التسوية عن بعضها بعضاً ودفع كل دولة عربية إلى التفاوض على حدة مع “إسرائيل”، فقد كان من الطبيعي أن تفضي، آجلاً أو عاجلاً، إلى حشر السادات في زاوية لا تسمح له إلا بالفرار الدائم إلى الأمام، ما يفسر قراره المفاجئ بزيارة القدس عام 1977، ثم توجهه إلى كامب ديفيد للتفاوض مع “إسرائيل” تحت رعاية أميركية، ثم توصله إلى “اتفاقية سلام” منفردة مع “إسرائيل” أحدثت انشقاقاً عمودياً داخل النظام العربي، ودفعت الدول العربية إلى نقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس.

صحيح أنّ العالم العربي حاول تعويض خروج مصر من معادلة الصراع العسكري مع “إسرائيل” بتشكيل “جبهة الصمود والتصدي”، لكنها لم تصمد طويلاً، وما لبثت أن انهارت بعد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران ودخول العراق في حرب طويلة معها، ما أدى إلى تكريس حالة الانقسام التي ألمّت بالعالم العربي.

الهزة الثانية التي تعرض لها النظام العربي تسبب بها الرئيس العراقي صدام حسين، وخصوصاً عقب إقدامه على غزو وضم الكويت في 2 أغسطس 1990؛ فقد أدى قراره هذا، غير المنطقي وغير المبرر، وخصوصاً أنه جاء بعد انهيار جدار برلين وظهور مؤشرات واضحة على أن الولايات المتحدة في طريقها إلى الهيمنة المنفردة على النظام العالمي، إلى انقسام عمودي جديد في نظام عربي.

وبعد انتهاء المقاطعة العربية التي فرضت على مصر واستمرت عقداً كاملاً، تجدد الأمل في احتمال تعافي النظام العربي من حالة الضعف التي ألمت به عقب إبرام السادات معاهدة “سلام” منفردة مع “إسرائيل”، غير أن الغزو العراقي للكويت تكفل بوأد هذا الأمل في المهد، وساعد على تعميق الانقسامات العربية من جديد، وخصوصاً أن سوريا كانت ترى أن إيران الثورة يمكن أن تصبح عمقاً مسانداً للموقف العربي في مواجهة “إسرائيل”.

لم يترتب على هذا الغزو تكريس النهج الساداتي أو الكيسنجري في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي فحسب، إنما أيضاً ترجيح كفة “إسرائيل” في معادلة موازين القوى في المنطقة، وتمكين الولايات المتحدة الأميركية من الانفراد بدور الوساطة في هذا الصراع. ولأنه دور غير محايد، فقد كان من الطبيعي أن يوظف لخدمة المصالح الإسرائيلية وحدها.

لذا، ما إن انتهت “حرب تحرير الكويت” التي قادتها الولايات المتحدة وشاركت فيها أطراف عربية، من بينها مصر وسوريا، حتى عُقد مؤتمر مدريد بحضور “إسرائيل” وجميع الدول العربية، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لينفسح الطريق مجدداً أمام نهج التسويات المنفردة، حين أقدمت منظمة التحرير الفلسطينية على التوقيع على “اتفاقية أوسلو” عام 1993، وأقدم الأردن على التوقيع على اتفاقية وادي عربة عام 1994.

الهزة الثالثة التي تعرض لها النظام العربي هذه المرة تسبب بها فشل “ثورات الربيع العربي” التي اندلعت في موجات متلاحقة لإطاحة نظم استبدادية بدت في ذلك الوقت عصية على أيّ تحول ديمقراطي.

بعدما تمكّنت هذه الثورات من تحقيق نجاح أولي خلال موجتها الأولى، حين تمكنت من إطاحة رؤوس النظم الحاكمة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، ثم خلال موجهتها الثانية، حين تمكنت من إطاحة رؤوس النظم الحاكمة في كل من السودان والجزائر، تحالفت قوى الداخل المعادية للتحول الديمقراطي مع النظم المعادية لهذا التحول في الإقليم، وخصوصاً النظم الخليجية، وتمكنت في النهاية من الإجهاز على جميع هذه الثورات من دون استثناء، ليسفر المشهد الذي ساد العالم العربي منذ ذلك الحين عن فوضى هائلة، جسدها مزيج غريب من حروب أهلية وتدخلات خارجية وانقلابات عسكرية…

وكانت النتيجة مزيداً من الضياع ومن الاستسلام للضغوط الأمريكية والإسرائيلية التي استهدفت دائماً تصفية القضية الفلسطينية، ما يفسر إقدام مجموعة جديدة من الدول العربية البعيدة جغرافياً عن ساحة الصراع، كالإمارات والبحرين والمغرب والسودان، على تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل” (اتفاقيات أبراهام)، في انتهاك واضح وصريح لمبادرة التسوية التي تبنتها القمة العربية التي عُقدت في بيروت عام 2002.

اليوم، يبدو واضحاً أن سلسلة الهزات التي يتعرض لها النظام العربي منذ نصف قرن لم تنتهِ أو تتوقف بعد، فها هو يتحسَّب في المرحلة الراهنة لتلقي ضربة جديدة، كما يبدو، يتوقع أن تأتيه هذه المرة من المملكة العربية السعودية، ومن الأمير محمد بن سلمان تحديداً.

تدل مؤشرات عديدة، منها تصريحات الأمير ابن سلمان نفسه، على أن السعودية في طريقها إلى التوقيع على اتفاقية لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” في مقابل دخولها في اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة وتمكينها من بناء برنامج نووي سلمي يسمح لها بتخصيب اليورانيوم على أراضيها.

صحيح أن السعودية لا تزال، ظاهرياً، تتمسك بالمبادرة العربية التي تربط بين التطبيع وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على الأرض المحتلة عام 1967، غير أن التقارير الإعلامية الصادرة عن جهات موثوق بمصداقيتها تؤكد أن السعودية أصبحت الآن مقتنعة باستحالة تحقيق هذا الهدف، وخصوصاً في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، ومن ثم باتت على استعداد للقبول بفكرة مفادها أنَّ هدف إقامة الدولة الفلسطينية ينبغي أن يكون “محطة النهاية” وليس البداية.

لذا، يتوقع أن تكتفي السعودية في المرحلة الحالية بعدد من الخطوات الرمزية التي تستهدف “تحسين الأوضاع الاقتصادية” للفلسطينيين. وإذا صحت هذه التقارير، والأرجح أنها صحيحة، فمعنى ذلك أن الموقف السعودي من القضية الفلسطينية بدأ يتأكّل بالفعل في مرحلة شديدة الخطورة والحساسية يتعرض فيها المسجد الأقصى لأخطار حقيقية تهدده بالهدم والشروع في إقامة “الهيكل الثالث” مكانه.

بعبارة أخرى، يمكن القول إن السعودية قد تقبل في النهاية السير في الطريق نفسه المفضي إلى تصفية القضية الفلسطينية، في مقابل حصولها على اتفاقية أمنية وعلى برنامج نووي سلمي، وهو إن حدث، لا قدر الله، فسوف يهتز النظام العربي من أقصاه إلى أقصاه من جديد ويصاب بانتكاسة كبرى.

في تقديري، إنَّ النظام العربي لن يحتمل الآن هزة جديدة من هذا النوع، وبالتالي قد لا تقوم له قائمة بعد الآن، فإقدام السعودية على تطبيع علاقاتها مع أكثر الحكومات في تاريخ “إسرائيل” تطرفاً وعنصريةً سيكون معناه ببساطة قطع الطريق نهائياً أمام قيام الدولة الفلسطينية في المستقبل.

* المصدر: الميادين نت

* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع