عباس الجمري*

تسعى الإمارات العربية المتحدة للقيام بدور كبير جداً في قارة أفريقيا، فدعمها قوات حفتر في ليبيا، ودعمها الذي كُشف مؤخراً لقوات الدعم السريع في السودان بقيادة حميدتي، إضافة إلى هندسة دعمها واستثماراتها لمصر/السيسي، ينبئ بأن أبو ظبي تحاول أن تخلط أوراق القارة السمراء، وخصوصاً أن لها قواعد عسكرية ومراكز إنسانية وموانئ في عدد من الدول الأفريقية الأخرى، مثل تشاد التي تقول عنها صحيفة “نيويورك تايمز” في تحقيق استقصائي -نشر الأسبوع الماضي- إنها منصة الدعم الإماراتي لقوات حميدتي، إذ تطير يومياً طائرات شحن من الحدود التشادية السودانية إلى مناطق تسيطر عليها قوات الدعم السريع لإمدادها بكل اللوازم اللوجستية.

هذا الأمر له امتداد بأطماع الإمارات في هذه القارة المتناحرة؛ ففي عام 2017، نشرت وكالة “أسوشيتد برس” تقريراً عن محاولات أبو ظبي نشر نفوذها في شرق أفريقيا، وقالت الوكالة في تقريرها إن الإمارات قامت بالفعل ببناء قواعد عسكرية وموانئ في الصومال وإريتريا.

ونشر معهد “ستراتفور” الأمريكي في الفترة نفسها تقريراً مدعماً بصور للأقمار الاصطناعية عن نشاط عسكري وعتاد كبير للإمارات في أسمرة، من بينها دبابات وطائرات مسيرة صينية وناقلات جند.

وقد علق بأن حجم المعدات العسكرية الموجودة تنبئ بخطط طويلة المدى، ولا يمكن أن تكون تلك المعدات لمهمات بسيطة ومؤقتة، والسيطرة على القرن الأفريقي تؤدي إلى السيطرة على ممرات مهمة من البحر الأحمر، الذي يربط بدوره أفريقيا بآسيا وأوروبا، وهذا يتيح للإماراتيين-في حال نجاحه- مروحة كبيرة في التحكم في عوائد الموانئ من جهة، واستثماره سياسياً من جهة أخرى.

خلط الأوراق قد تستثمره أبو ظبي في ساحات عديدة. مثلاً، حين مدت جسور التواصل مع قوات حميدتي في بدايات حرب اليمن، وشارك السودان بالفعل في الحرب عبر قوات الدعم السريع، تمكَّن الإماراتيون من أن يفصلوا بين الدولة السودانية كمؤسسات رئاسية وتشريعية وبين قوات الدعم السريع، وصار تعامل أبو ظبي مع الأخيرة تواصلاً مباشراً يتخطى عمر البشير ووزراءه آنذاك.

هذا النوع من الاستثمار السياسي تواصل حتى جاءت محاولة انقلاب قوات الدعم السريع في أبريل الماضي، والتي لم تكلل بالنجاح، فتحول الصراع إلى حرب أهلية.

الإمارات فعلياً لا تخسر الكثير في هذا الاستثمار السياسي، لأنها تستفيد من الثروات المعدنية الهائلة الموجودة في مناطق نفوذها وسيطرتها في أفريقيا، وتستفيد من عوائد الموانئ، كما تحاول أن تُدوِّر الأزمات بتدوير ثرواتها المحلية وتجني تنامي نفوذها، أي تسعى إلى أن تصرف على مشاريعها الأفريقية من ثروات المناطق نفسها التي لها فيها نفوذ ومغانم، وهذا تماماً ما حاولت تنفيذه في اليمن، وعندما حاولت إحكام سيطرتها على باب المندب. ولولا المقاومة اليمنية الكبيرة وضرب العمق الإماراتي، لابتلعت أبو ظبي الجنوب اليمني وسواحله وممراته المهمة.

قد يقول قائل إنَّ الدولة الخليجية المثيرة للجدل تقوم بذلك بإيعاز أمريكي، والأخير هو المستفيد الأصيل مما يفعله الوكيل. هذا صحيح، لكن الإماراتيين يعلمون أن الولايات المتحدة إمبراطورية في طور الأفول، وأن الاستفادة منها بأقصى قدر ممكن في هذه الفترة تمثل فرصة ذهبية لتطلعات أصحاب القرار في الإمارات لبناء موضع قدم لهم، لكن من قال إن الأمور ستجري بشكل سلس؟

هناك قوى وطنية أفريقية بدأت بالنمو والتحرك لفكّ الارتباط عن المحتل الفرنسي، كما حدث في النيجر، كما أنّ القوى المتحاربة التي تشكل خرائط الحروب الأهلية الأفريقية لا تتوافق مع المصلحة الإماراتية، فلا الجيش الليبي يريد الإماراتيين في بلده، ولا الجيش السوداني يريدهم كذلك، كما أن نفوذ أبو ظبي في إريتريا يثير حفيظة جيبوتي بشكل كبير، ويؤزم العلاقة بينها وبين إريتريا والإمارات، كما شهدت العلاقات بين مقديشو وأبو ظبي توترات عدة بشأن ميناء بربرة.

المثير في كل قصص الإمارات وهي تحاول أن تنشر نفوذها خارج حدودها أن مقوماتها الاستراتيجية محدودة، وإن كانت مقوماتها المالية والاقتصادية كبيرة، فالدولة الطموحة هي أكثر دولة خليجية توجد فيها قواعد أجنبية لحمايتها، ففيها قواعد أمريكية وقاعدة بريطانية وقاعدة إيطالية وأخرى فرنسية لحمايتها والحفاظ على تدفق النفط الذي تنتجه وتصدّره إلى الخارج، كما أنها دولة محدودة الجغرافيا، ما يضيّق تمكنها المريح من امتصاص أي ضربات قد تتعرض لها، وهذا ما ظهر جلياً حين قصف الجيش اليمني العمق الإماراتي وهدَّد بقصف مناطق حيوية في دبي، فكان رد فعل الإمارات سحب قواتها من اليمن.

هل هناك وضوح استراتيجي؟

يمكن أن تُسرد المخاطر والأضرار في إضبارة الأضرار الجانبية للنفوذ السياسي التي ستحصل عليه الإمارات، وسيكون ذلك صحيحاً جداً لو وُجدت رؤية استراتيجية محسوبة بدقة تتناسب مع إمكانيات البلاد.

مشكلة الإماراتيين أنهم ثملون بالمال، ويعتقدون أن المال الوفير يمكنه -وحده- أن يعطي دولة صغيرة إمكانيات دولة عظمى في القيام بمهمات خطرة وجسيمة وأخرى غير منظورة العواقب، وإن بدت غير خطرة، من أمثلة ذلك:

1 – خلق الأزمات البعيدة ومحاولة إدارتها كما يحصل في أفريقيا.

2 – خطوة التطبيع مع الكيان الصهيوني بطريقة غير مسبوقة في المبالغة فاقت عرب كامب ديفيد، مع عدم قدرة الإمارات على تحمل أي عواقب أمنية فيما لو نشبت الحرب مع الصهاينة وتورط الإماراتيون بدعم الكيان وفقاً للمعاهدات الأمنية الموقعة بين الطرفين.

3 – عدم مواءمة الحاجة الجيوسياسية مع الاقتصاد الإماراتي، إذ إن الاقتصاد هش من حيث طبيعته، وإن كان قوياً من حيث ناتجه، لأنه معتمد على 3 عوامل: النفط والمصارف والعقارات، وكلها تتطلب بيئة أمنية للحفاظ عليها، لكن مشكلتها الكبيرة أن إخماد تلك العوامل الثلاثة لا يتطلب المصاعب الجمة كالذي يواجه من يريد أن يوقف اقتصاد دولة زراعية أو صناعية أو تملك الحقلين الصناعي والزراعي، كالدول العظمى والكبرى.

ومع وجود مشكلات جمة في أماكن كثيرة بسبب الأطماع السياسية للإمارات في النفوذ، تحاول الدولة الخليجية أن تكون علاقاتها جيدة في الجانب الاقتصادي على الأقل، وهذا يتعارض كلياً مع خطواتها السياسية والعسكرية والأمنية، بل راحت الإمارات تشوه صورتها الإنسانية من خلال تمرير بعض أجنداتها السياسية والأمنية من خلال حملاتها الإنسانية، فجزء كبير من مساعداتها لقوات الدعم السريع في السودان ولقوات حفتر في ليبيا يتم من خلال المساعدات وأغطية الغذاء والدواء.

هذا الأمر يضر كثيراً بسمعة الدولة ومصداقيتها، كما يجعل بعض الدول تحذّر أياديها البيضاء التي تُمد هنا وهناك، خشية أن يتبين ذلك البياض بصورة أخرى، ويظهر أنه قفاز يخفي بصمات النيات السياسية.

متى ستعرف الإمارات ما لها وما عليها؟

في خضم الثمل المالي، والاندفاع السياسي، والحماسة الأمنية والعسكرية للحظوة بالنفوذ قد ينقدح سؤال: متى ستتمكن الإمارات أن تحسب خطواتها بدقة؟

للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي معرفة أن الإمارات تستخدم الفوائض المالية للقيام بمشاريعها السياسية خارج الحدود. لذا، فإنها حتى الآن لا تشعر بأي ألم، كما أن الحماية الأجنبية المتعددة للبلاد تجعل أصحاب القرار في مأمن مخملي، وربما خيالي، بأن الدولة لا يمكن أن تتضرر، رغم أن ما أثبتته الساحة اليمنية عكس ذلك، إلا أن التصور ما زال باقياً.

معرفة وضعية أبو ظبي قد تفتح لنا مساراً لفهم عدم اكتراث أصحاب القرار بحجم التدخلات الخارجية الذي يفوق حجم الإمكانات الفعلية للدولة، بل حتى طبيعة حظوة النفوذ، ولا يمكن أن تحمله دولة صغيرة، لأن النفوذ الخارجي الكبير يحتاج في إدارته إلى موارد كثيرة لا تتوفر الإمارات على جلها، ومن ثم، إن تصريف ذلك النفوذ يحتاج إلى طاقة استيعابية سياسية وأمنياً وعلى مستوى الخبر والتمرس لا تمتلك أبو ظبي إلا جزءاً يسيراً منه، ولا بد من التذكير بأن حياة هذا النفوذ الإماراتي قائمة حالياً على مصل المال وإنعاش الدول العظمى كأميركا وبريطانيا. ومع شح الأول وتغير معادلة الأخير، قد يتهاوى النفوذ.

ولعل تراكم المشكلات والتحديات هو العامل البارز في استيقاظ الإمارات من كل هذا العبث السياسي، مع التأكيد أن السعي إلى النفوذ الخارجي لأي دولة هو ممارسة طبيعية، إن كان بحجم الدولة أو إمكاناتها وقدرتها الاستيعابية.

* المصدر: الميادين نت

* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع