العلاقات السعودية الأميركية… إغراءات واشنطن باتفاق دفاعي مقابل التطبيع
منذر سليمان*
مسار صعود ولي العهد السعودي دشّنه بإبعاد الطاقم “القيادي التقليدي” في الرياض، والموالي بالكامل لواشنطن ولندن، عن مراكز القوى وصناعة القرار، وما لحقه من تداعيات نتيجة اغتيال جمال خاشقجي.
تعتبر الحكومات الأميركية المتعاقبة أنّ جوهر علاقاتها مع الكيان السياسي في السعودية هو “علاقة أمنية طويلة الأجل”، لكنها دوماً ما كانت تشهد بعض التجاذب، لخشية الأخيرة من تراجع مكانتها في الاستراتيجية الكونية الأميركية، إذ سرعان ما “تتطوّع” لتقديم العون المالي، والبشري عند الضرورة، كقطب مساعد لبسط الهيمنة الأميركية، كما شهدت ساحات عالمية عديدة امتداداً من أفغانستان وليس انتهاء بنيكاراغوا والبوسنة (الاقتباس من تقرير لوزارة الخارجية الأميركية بعنوان “علاقات الولايات المتحدة مع السعودية”، بتاريخ 11 أيار/مايو 2022).
وفي وقت لاحق، عدّلت الخارجية الأميركية مبتغاها من العلاقة مع السعودية بأنها تتشاطر والأهداف الأميركية في “رسم القضايا السياسية والأمنية، ومكافحة الإرهاب، والقضايا الاقتصادية والطاقة، بما في ذلك ابتكار الطاقة النظيفة، لتعزيز رؤيتنا المشتركة لشرق أوسط أكثر سلاماً، وأمناً وازدهاراً واستقراراً”. (تقرير وزارة الخارجية بعنوان “علاقة الولايات المتحدة والسعودية: 8 عقود من الشراكة”، 6 حزيران/يونيو 2023).
بالمقابل، يجزم الجانب الرسمي السعودي بأن العلاقة مع الولايات المتحدة تستند إلى “أسس راسخة مبنية على الاحترام والتعاون المتبادل والمصالح المشتركة”، خصوصاً بعد انخراطها وقبولها في مجموعة G-20الصناعية، وعقب زيارة الملك سلمان لواشنطن في أيلول/سبتمبر 2015 (تقرير لوكالة الأنباء السعودية، واس، 15 تموز/يوليو 2022).
تطوّرت طبيعة العلاقات اطراداً باقتراب الرياض من واشنطن بوتائر أسرع وتقديم معدلات أكبر من “الخدمات”، وأنها لا تكلّ عن جهود تطويع الإقليم وما بعده للاصطفاف وراء “السيّد الأميركي”، بدءاً بنقل مصر من مرحلة “الجمهورية العربية المتحدة” إلى الصلح المنفرد مع عدوّها القومي، و”تسويق” تبعيّتها للاقتصاد الأميركي بالقضاء تدريجياً على مكتسبات آليات التصنيع في القطاع العام وإعلاء نهم الاستهلاك عوضاً عن التنمية الداخلية.
شدّدت واشنطن على اختزال العلاقة مع الرياض، منذ مطلع الألفية الثانية، إلى مستويات “ترتيبات أمنية” في الإقليم، ولا تزال السعودية تحتل المرتبة الأولى كأكبر مشترٍ للمعدات العسكرية الأميركية في العالم. ولم تعد واشنطن تولي الأهمية السابقة لمصادر الطاقة في الجزيرة العربية بعد بلوغها المرتبة الأولى عالمياً في استخراج وتصدير النفط.
دخلت العلاقات الثنائية بين الرياض وواشنطن أطواراً متعددة منذئذ، نتيجة تطورات القوة العسكرية والاقتصادية الأميركية، وشهدت بعض التجاذب إلى أن بلغت مرحلة تعرّضها إلى هزات وارتجاجات بعد صعود ولي العهد محمد بن سلمان، وانضمام الرياض إلى مجموعة “أوبك +” التي تضم روسيا لخفض إنتاج النفط بمعدل مليوني برميل يومياً.
مسار صعود ولي العهد السعودي دشّنه بإبعاد الطاقم “القيادي التقليدي” في الرياض، والموالي بالكامل لواشنطن ولندن، عن مراكز القوى وصناعة القرار، وما لحقه من تداعيات نتيجة اغتيال جمال خاشقجي، في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2018، والتي على أثرها أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن جملته الشهيرة بأن السعودية تحت “وصاية” محمد بن سلمان أضحت “منبوذة” عالمياً، متوعّداً بمعاقبته.
بيد أن المصالح الأميركية العليا اقتضت تراجع الرئيس بايدن بعض الشيء عن معارضته لتصرّفات ولي العهد الجديد، وما لبث أن قام بزيارة رسمية للقاء الأخير في جدّة لتهدئة العلاقات المتوتّرة، في 16 تموز/يوليو 2022، أسفرت عن “توقيع اتفاقية بشأن شبكات اتصالات السعودية، ووافقت الرياض على فتح مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية المدنية الصهيونية مقابل السيطرة السعودية على جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر، كما تم تمديد الهدنة في اليمن لمدة شهرين آخرين. ومع ذلك غادر بايدن جدّة من دون اتفاق بشأن تعزيز إنتاج النفط أو تطبيع العلاقات مع كيان “إسرائيل”، و”هما هدفان رئيسيان للزيارة”، بحسب مراكز الأبحاث المقرّبة من الرياض.
على الرغم مما شهدته الفترة الزمنية القريبة من انفراج نسبيّ في العلاقات بين الرياض وطهران، إلا أن الأولى ما زالت تطرق ما استطاعت من أبواب في مراكز القوى العالمية للتحذير من “امتلاك إيران سلاحاً نووياً”، غير عابئة بتأكيدات وفتاوى صدرت عن المرشد الأعلى يحرّم فيها اقتناء أسلحة نووية.
ويأتي ذلك في سياق دعم “مخاوف كيان إسرائيل” من فقدانها المركز الأوحد نووياً في عموم المنطقة، لتبدأ الرياض باتخاذ خطوات موازية وإعرابها عن “حتمية تطبيع العلاقات مع تل أبيب”، طمعاً فيما تعتقد أنه إمكانية تسخير نفوذ اللوبي الصهيوني في أميركا لخدمة سياسة ولي العهد.
ومن أبرز التطورات في هذا الشأن كانت مقابلة متلفزة مع الأمير الشاب، سُجّلت مسبقاً، أجراها باللغة الإنكليزية التي يتقنها “بطلاقة”، مع شبكة “فوكس نيوز” وهي المنبر الرئيسي لتيار اليمين الأميركي المتشدّد، وللمحافظين الجدد على السواء.
موعد البث جاء بعد وقت قصير من لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن مع بنيامين نتنياهو، أثناء وجودهما في نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، الأمر الذي طغى على مقابلة الأمير السعودي في وسائل الإعلام.
اللافت في تلك المقابلة كان خفّة اهتمام وسائل الإعلام الأميركية المختلفة، واكتفت معظمها بنقل تسريب شبكة “فوكس نيوز” لمقتطفات منها قبل موعد البث، باستثناء إطراء الشبكة عينها والترويج للمقابلة بأنها “المقابلة الأولى التي يجريها مع شبكة إخبارية أميركية رئيسية منذ عام 2019” (موقع “فوكس نيوز” الإلكتروني، 18 أيلول/سبتمبر 2023).
ربما أهم وأخطر ما جاء من تصريحات في المقابلة المذكورة، طمأنة ابن سلمان للمتلقّي الأميركي، وامتداداً الغربي، بعزمه تطبيع العلاقات مع “تل أبيب” والتي “يقترب منها يوماً بعد يوم”، بحسب المادة الإعلامية المنشورة، وذلك في سياق نهج ولي العهد في “العلاج بالصدمة” (معهد “كارنيغي”، 27 تشرين الأول/أكتوبر 2020).
أيضاً، وجّه ابن سلمان سهام انتقاداته لإيران من زاوية رجائه لواشنطن بمعاملته أفضل عما ذي قبل، خصوصاً بطرحه سابقاً على الرئيس بايدن خلال زيارته المذكورة لجدّة طالباً المساعدة الأميركية لإنشاء بنية تحتية للأبحاث النووية، “أسوة بإيران” التي “إن امتلكت القنبلة النووية فينبغي على الرياض حيازتها أيضاً”.
معظم مراكز الأبحاث والنخب السياسية الأميركية تحذر دوماً من “انتشار الأسلحة النووية” في الشرق الأوسط، مع إقرارها بأن كيان “إسرائيل تمتلك أكثر من 200 رأس نووي”، لكنها لا تخضع للمساءلة أو المراقبة.
بيد أن المقابلة المذكورة لا تشكّل المرة الأولى التي يتم فيها “طلب مسؤول سعودي” الحصول على قنبلة نووية. إذ قال ابن سلمان في تصريحات أجراها مع شبكة “سي بي أس” الأميركية عام 2018، إنه إذا طوّرت إيران قنبلة نووية فستفعل المملكة العربية السعودية الشيء نفسه في أسرع وقت.
وتبعه رئيس جهاز الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل بتصريح مماثل لشبكة “أم أس أن بي سي” الأميركية قائلاً: “يتحتم علينا القيام بكل ما هو ضروري للدفاع عن أنفسنا، بما في ذلك تطوير قنبلة نووية، لمواجهة احتمال وجود إيران مسلحة نووياً” (موقع “سي أن أن” الإلكتروني العربي، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2021).
أميركياً، لم يُرصد أيّ تحوّل لافت في الموقف الرسمي من “عدم انتشار الأسلحة النووية”، باستثناء كيان “إسرائيل”. وأبعد ما تذهب إليه دوائر صنع القرار في واشنطن هو التماهي مع “النموذج الإماراتي”، إذ يجري تطوير قدرات نووية من دون تخصيب اليورانيوم، بل الحصول عليه من الخارج بكميات تتناسب مع التطبيقات المدنية. يشار أيضاً إلى أن “النموذج الإماراتي” يحظى بتأييد الثنائي واشنطن و”تل أبيب”، وديمومة التنسيق بينهما.
في الشق القانوني الصرف، يقيّد القانون 22 ساري المفعول السلطة التنفيذية الأميركية من نشر التقنية النووية، ويعتبره “تهديداً مميتاً للأمن والمصالح الأميركية، وكذلك لاستمرار التوجّه العالمي نحو إرساء السلام والتنمية الدوليّين”.
لكن في ظل الصراع الكوني بين الولايات المتحدة من جهة، وكلّ من روسيا والصين اللتين تتقدّمان بثبات في شبه الجزيرة العربية، قد تنحو باتجاه تحوّل الرياض شرقاً لتبرم صفقة مماثلة مع الصين التي ستعطي شروطاً أفضل للسعودية.
ربما أفضل الخيارات المتداولة بشدة في العاصمة الأميركية يتمحور حول عقد معاهدة دفاع مشترك مع الرياض لكن بشروط أميركية تبقي على “تفوّق الأسلحة الصهيونية”.
تسارع إدارة بايدن لتحقيق اختراق بالتوصّل إلى تطبيع سعودي-صهيوني وتلوّح بتقديم مغريات لولي العهد للإقدام عليها، لكن شروط السعودية لا تزال تواجه عقبات في الداخل الأميركي، ولطبيعة تكوين حكومة نتنياهو العاجزة عن تقديم الحد الأدنى الذي يمنح السعودية الغطاء الذي تحتاجه لتسويق التطبيع، لا يبدو أن فرص بايدن متاحة بشكل وافٍ لتحقيق هكذا إنجاز لتوظيفه في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب