حسام حمزة*

بعد انقضاء المهلة الممنوحة من المجلس العسكري الحاكم في النيجر لفرنسا، يسير موقف الحكومة الفرنسية الرسمي من الوجود العسكري في النيجر إلى التزحزح عن التصلّب الذي طبعه طيلة الأسابيع الماضية، فيما يبدو أنه رضوخ للأمر الواقع وقناعة بلا جدوى المكابرة أمام واقع نيجري يتّسم بتآلف المواقف بين الشعب والمجلس العسكري الحاكم ضدّ فرنسا.

وبقدر ما أوجدت حالة التآلف السابقة تماهياً منظوراً في المطالب الشعبية والرسمية كوّنت بدورها قوة ضغط شديدة أربكت فرنسا وأجبرتها على الانصياع تدريجياً للرفض النيجري العارم لها، فإنها كانت سبباً في تشكيل صورة جلية لديها عن مستقبلها ومستقبل وجودها ونفوذها في النيجر قد تكون منطلقاً لمراجعات جدية وعميقة للاستراتيجية الفرنسية في أفريقيا ضمن ما يعرف بـسياسة “فرانس أفريك” (Françafrique) لمؤسسها الأمين العام السابق للإيليزيه (1960-1974) جاك فوكار.

إعلان بداية انسحاب موارب
انطوى تصريح الناطق باسم الحكومة الفرنسية أوليفييه فيران في 6 أيلول/سبتمبر حول استحالة التعاون من الآن فصاعداً مع جيش النيجر على تلميح واضح إلى المراجعة التي يجريها صناع القرار الفرنسيون لمواقفهم ولوجودهم العسكري هناك: “بخصوص قواتنا في النيجر، من المهم التذكير بأنها موجودة هناك بناءً على طلب سلطات النيجر لدعمها في الحرب ضدّ الجماعات الإرهابية المسلحة وتنفيذ مهام تدريبية. اليوم، لم يعد من الممكن ضمان هذه المهام بالنظر إلى عدم إمكانية تنفيذها بالاشتراك مع الجيش النيجيري.

يأتي هذا التصريح الذي جاء بلهجة ليس فيها تشدّد أو عدوانية، ليخالف في مضمونه نمط التعامل الفرنسي مع النيجر منذ لحظة الانقلاب الأولى في 26 تموز/يوليو الفائت ولغاية الأيام القليلة الماضية، إذ شهدنا مناوأة عنيفة وجلية لقادة الانقلاب في الخطاب الرسمي الفرنسي، تحريضاً ضدهم ورفضاً قاطعاً للاعتراف بهم على نحو قد يشرعن حكمهم للنيجر.

ذلك أن إقرار أوليفييه فيران بوجود اتصالات محلية بين القوات الفرنسية وجيش النيجر يضمر رضوخاً فرنسياً للأمر الواقع، وقناعة باستحالة إيجاد مخرج لحالة الجمود في العلاقات الفرنسية-النيجرية من دون قناة التواصل هذه على الأقل في ظل تصاعد موجات الاحتجاج الشعبي والتظاهرات في محيط السفارة الفرنسية وحول مراكز القوات العسكرية الفرنسية في نيامي.

إنّ موقف الحكومة الفرنسية هذا، علاوة على ما فيه من اعتراف موارب بحكّام الأمر الواقع في النيجر، حتى وإن لم يتضمّن إعلان نية صريحاً للانسحاب، إلا أنّ تأكيده وجود تواصل نيجري-فرنسي على مستوى محلي فيه إشارة إلى انفتاح فرنسي على إمكانية التواصل مع سلطة الأمر الواقع في نيامي قد يتطور مستقبلاً إلى اتصالات على مستويات أعلى بين الجانبين، وهو يحمل برهاناً على إرهاصات تغير في القناعات الفرنسية وبدايات تنازل عن فكرة عودة محتملة لمحمد بازوم إلى سدة الحكم.

قد يكون هذا التراجع الفرنسي مؤشراً على بدايات مراجعة أكبر للاستراتيجية الفرنسية في التعامل مع النيجر، ومع أفريقيا عموماً، وذلك ما ينبئ به أيضاً وعد الرئيس إيمانويل ماكرون يوم 7 أيلول/سبتمبر بإعطاء البرلمان الفرنسي صلاحية مناقشة الاستراتيجية الفرنسية في أفريقيا والساحل بدءاً من هذا الخريف، فيما يعد تطوراً ملحوظاً في النمط “الماكروني” في التعامل مع المؤسسة التشريعية الفرنسية إذا ما قورن مثلاً بالتعامل معها في المسألة الأوكرانية، إذ لوحظ استئثار الرئيس بالقرار وانخراطه القوي في الحملة الأوروبية والغربية لدعم أوكرانيا ومعاداة روسيا من دون أدنى استشارة للبرلمان.

أخذاً بالاعتبار هذه المؤشرات، فإن مستقبل الجنود الفرنسيين في النيجر، المقدر عددهم بـ1500 جندي، الموجودين في قواعد والام وأيـورو ونيامي، ناهيك بطائرات “ريبر” (Reaper) المسيرة وطائرات ميراج المقاتلة المتوقفة على مدارج قواعد نيامي الجوية، سيكون محل إعادة نظر.

وإذا انطلقنا في تحليلنا من تصريح الناطق باسم الحكومة الفرنسية الذي أوردناه سابقاً، فإن الانسحاب سيكون تدريجياً بدءاً بسحب الآليات والمعدات كخطوة أولى، على أن تجري بالتوازي مع تقليص عدد الجنود الموجودين هناك.

رضوخ للضغط الشعبي
كلّ ما ذكرناه سابقاً، ناهيك بتسلسل الوقائع في النيجر منذ 26 تموز/يوليو المنصرم، يثبت أننا بصدد تراجع ملحوظ في الموقف الفرنسي. لقد انتقلت فرنسا من التلويح بالتدخل العسكري والرفض القاطع إلى الاعتراف بالمجلس العسكري وكل قراراته والمهل التي منحها لسفيرها وقواتها لمغادرة البلاد إلى تقهقر وتراجع عن تلك الشدة التي لا يبدو أنها كانت تملك آليات تجسيدها إلى قرارات فعلية في ظل معارضة فواعل إقليمية ودولية عديدة لمنطق عسكرة رد الفعل على الانقلاب، ولا سيما الجزائر وتشاد ومالي وبوركينافاسو، والأخيرتان أكدتا أن كل عدوان عسكري على النيجر سيعتبر –تلقائياً- عدواناً عليها.

حتى رفض الإليزيه سحب السفير، رغم ما فيه من خرق للمادة التاسعة من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961، لاستفزاز حكام نيامي للقيام بما يمكن أن يستخدم ذريعة للتدخل ضدهم فشل أيضاً بعدما تفطنت حكومة نيامي الجديدة للمصيدة التي تريد فرنسا إيقاعهم فيها، بيد أن التأثير الأكبر في القرار الفرنسي كان للتأييد العارم الذي تلقاه الجنرال تياني من الشعب النيجري والتفافه حول كل القرارات التي أصدرها حكامه الجدد ضد فرنسا.

إن هذا السلوك الشعبي غير المتوقع من فرنسا كان الدافع الأقوى الذي كون قناعة لدى القيادات الفرنسية بأن الرهان على عامل الوقت وطول المدة لسقوط المجلس العسكري الحاكم وعودة محمد بازوم هو سير نحو طريق مسدود لن يؤدي الإصرار عليه إلا إلى اشتداد الكراهية والعداوة لفرنسا، وإلى مزيد من ضرب مصالحها المتضعضعة أصلاً.

المذهل في الأمر أن الشعب النيجري لم يقم بأي فعل من شأنه تهديد أمن واستقرار البلاد أو جوارها، كما لم نلحظ أي حركية نزوح أو هروب نحو دول الجوار من شأنها تحفيز موجات ضغط إقليمي على سلطات نيامي أو شرعنة السردية الفرنسية التي كانت تدفع نحو التدخل العسكري. وخلاف هذا، شهدنا تعبئة شعبية ضخمة واستثارة للنزعة القومية واستدعاءً لأطروحة الدفاع الشعبي في وجه أي عدوان عسكري يجري التلويح به تحت أي مسمى.

هذا هو الواقع الذي أفلت من حسابات باريس الاستراتيجية ومن حسابات حلفائها ومواليها في أفريقيا الغربية أيضاً، وهو ما سيرسخ مع الوقت تراجع النفوذ الفرنسي في النيجر والساحل عموماً.

لقد حان الوقت للإدراك أن منطق “فرانس-أفريك” النيوكولونيالي القديم المبني على عسكرة وجود فرنسا في أفريقيا ودعم النخب والحكومات المتواطئة معها للبقاء إلى أقصى فترة ممكنة في الحكم وتكبيل الدول والشعوب الأفريقية بكل أنواع قيود التبعية للمستعمر القديم هو أصل الداء، وهي الحقيقة الشاخصة التي لن يقود الفرار منها إلا إلى موجة رفض أشد وأكبر لفرنسا في القارة السمراء.

حتى تلك السردية السمجة التي توعز هذا العداء البنيوي لفرنسا لدى الشعوب الأفريقية إلى الحملات الإعلامية التي تشنها فاغنر ومن خلفها روسيا ضد فرنسا في دول المنطقة هي كذبة لا يبدو أن هناك من يصدقها إلا من اختلقها بعدما أفرط في تكرارها.

* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب