عباس محمد الزين*

عندما تتعلق المسألة بالمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، فإن الغاية تتجاوز الحاجة إلى وسيلة أو وسائل، بل تتطلّب مسار عملٍ يحيط بكل جوانب المواجهة وعناصرها وساحاتها. وإذا كان الحديث عن محور المقاومة، كونه موحداً في الهدف من تلك المواجهة، فإن الوحدة يجب أن تلحَظ المسار المتبّع أيضاً، ليس بهدف التنسيق فقط، بل أيضاً من أجل حماية هذا التنسيق من أي ثغرة يمكن أن يستغلها الاحتلال في ضرب ساحة من الساحات.

ظهور الضفة الغربية، في الآونة الأخيرة، ساحةً متقدمةً وفاعلة ضمن المواجهة، لم يكن عبثياً. وكونه كذلك، فإن محور المقاومة، على امتداده الجغرافي، بات معنياً مباشرة بالأحداث الجارية، على صعيد العمليات وردة الفعل الإسرائيلية عليها.

كيف نردّ؟ ومتى نردّ؟ وأين نردّ؟ وضدّ من؟ ولماذا نرد؟ هي أسئلة تدور في رؤوس مصادر القرار لدى كيان الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة لقمع العمليات في الضفة الغربية، وسط حديث متصاعد عن أن ما يجري لم يعد موجة عمليات، بل هو حرب.

تحدّث الاحتلال الإسرائيلي، في الأيام والأسابيع الماضية، عن إدارة للأحداث الجارية في الضفة، متَّهماً إيران أو أطرافاً خارجية بها، وملمحاً، أو أبعد من ذلك، مهدّداً بأن الرد سيكون في الخارج. تناول مسؤولون إسرائيليون هذا الأمر، كونه محاولة من حكومة نتنياهو للهروب من المأزق، بينما سلط الإعلام الإسرائيلي الضوء على تلك الاتهامات، كونها “مخجلة… وتمثّل هروباً من الورطة”.

يدرك نتنياهو ومن معه جيداً أن المقاومة الفلسطينية تتحرك وفق قواعد اشتباك مرتبطة بعقيدة قتالية، تسعى دائماً للمواجهة والالتحام مع الاحتلال ومستوطنيه، لكن الغاية من رمي تلك الاتهامات ليست فقط الهروب من الأزمة، بل محاولة فصل ساحات المواجهة، بحيث تبقى الساحة الفلسطينية معزولة عن الدائرة التي تدعمها. في هذه النقطة تحديداً، اصطدم الاحتلال بحالة مستجِدّة، وصلت إلى مرحلة متقدمة جداً على صعيد الصراع، وهي الحماية أو التحصين، وليس فقط الدعم. ومع فشل الاحتلال في ضرب البنيتين الشعبية والجهادية للمقاومة في الضفة، وهو ما ظهر في عملية جنين الأخيرة ونتائجها، فإن مواصلة المقاومة زَخَمَ عملياتها رفعت مستوى التهديدات الإسرائيلية، ومعها ارتفع مستوى الردع المرتبط بذلك من جانب محور المقاومة.

الهدف، الذي وضعته المقاومة الفلسطينية ضمن موقعها في المحور، هو استمرار العمليات في الضفة الغربية، وتوفير كل ما يلزم من وسائل لاستمرار تلك العمليات، ضمن 3 مسارات: الأول، القيام بالفعل (العملية). والثاني، حماية هذا الفعل ليستمر. والثالث، إبطال مفعول أي رد فعل إسرائيلي متوقَّع عليه في فلسطين وخارجها. حتى اللحظة، ظهرت أيضاً مسارات متوقَّعة لرد الفعل الإسرائيلي: أولاً، عملية عسكرية في الضفة. ثانياً، عدوان على غزة من أجل ردع المقاومة عن التحرك في ساحات أخرى. ثالثاً، التهديد باستهداف شخصيات للمقاومة الفلسطينية في الخارج، لها علاقة مباشرة بتطورات الضفة.

كان تحرّك المقاومة الفلسطينية، ومعها فصائل المحور وقياداته، على مستوى التهديد الإسرائيلي:

– في الضفة الغربية، وتحديداً جنين، لم تسفر العملية العسكرية الإسرائيلية عن أي تغيير لمصلحة الاحتلال، بل إن منسوب العمليات ارتفع، وبات يغطي المساحة الأكبر من الضفة شمالاً وجنوباً. وتحدّث معلّق الشؤون العربية في “القناة الـ 13″، تسفي يحزقلي، عن الأمر، عبر قوله إن الأرض مشحونة بالطاقة لشنّ هجمات. وهذا يعني، وفق يحزقلي، “أمراً واحداً: لقد قمنا بشن عملية في جنين خلال الشهر الماضي، ورأينا أنّ هذه العملية لم توقف الهجمات”.

– في غزة، إن الثمن الذي يتحدث عنه الإسرائيليون، هو أن أي استهداف أو عدوان على غزة ثمنه أيام قتالية لا تريدها “إسرائيل” الآن، ولن تسفر، هي الأخرى، عن نتائج. الصحافي أليئور ليفي، معلق الشؤون الفلسطينية في قناة “كان”، تحدث بدوره عن ذلك، لافتاً إلى أنّ للهجمات الإسرائيلية على القطاع ثمناً، هو “إطلاق صواريخ”، ومؤكداً، في الوقت ذاته، أنّ “هذه الفكرة نجحت، بالنسبة إلى حماس ببساطة، بينما تتلمّس إسرائيل طريقها في الظلام، من جهة ثانية، ولا تجد حلاً فعالاً لموجة العمليات”.

– في الخارج، إن التهديد باغتيال قادة المقاومة، وتحديداً نائب رئيس حركة “حماس”، صالح العاروري، أو الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، زياد نخالة، استبقه الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، بمعادلة واضحة وصريحة، مفادها أن أي استهداف لأي شخصية في لبنان سيردّ عليه حزب الله. وكرّر ذلك في أكثر من خطاب. وقال المتحدث السابق باسم “الجيش” الإسرائيلي، رونين منليس، في تصريحاته لقناة “كان” الإسرائيلية، إنّ قادة “حماس” يجلسون في لبنان، و”إسرائيل” لا تهاجمهم بصورة مباشرة، والسبب “خوفها من نشوب حربٍ مع حزب الله، الذي يستغلّ الضعف الإسرائيلي، ويرفع مستوى التهديد، ويوجّه من أجل تنفيذ عمليات في الضفة الغربية”.

الصورة، التي ظهرت في 2 سبتمبر 2023، للقاء جمع السيد نصر الله والعاروري ونخالة، وصفها الإعلام الإسرائيلي بأنها من أجل “ردع إسرائيل”. وبناءً على ذلك، فإن الاحتلال فهم الرسالة، ويعلم بأن تهديدات حزب الله أمر واقع في سياق المواجهة، وأن تلك التهديدات، المرتبطة بردع أي اعتداء على قادة المقاومة الفلسطينية، هي جزء من المواجهة. بمعنى أدق، إن حزب الله، إلى جانب التوترات المرتبطة بالحدود (الخيمتين، كفرشوبا، مزارع شبعا، الغجر)، ومسألة الغاز في البحر وحمايته، ضمّ إلى جدول الردع والمواجهة مع الاحتلال القيادات الفلسطينية التي يستضيفها، ليُصبح جزءاً أساسياً في المواجهة في الضفة الغربية.

السؤلان اللذان يتواجهان حالياً: من جهة الإسرائيلي، كيف نوقف العمليات في الضفة الغربية؟ ومن جهة محور المقاومة، كيف نجعلها تستمر وتتطوّر؟ وبينما تضع “إسرائيل” على الطاولة ما تجد أنه حلٌّ لإيقاف تلك العمليات، فإن محور المقاومة يواجه ذلك، بأنه حتى لو كان التهديد الإسرائيلي من دون نتائج فإننا سنردعه. مثلاً، إن العملية العسكرية في الضفة، أو العدوان على غزة، أو اغتيال شخصيات في الخارج، ليس مؤكداً أنه سيُوقف العمليات في الضفة. وجرّبت “إسرائيل” ذلك سابقاً من دون نتائج واضحة. لكن، على الرغم من ذلك، فإن المقاومة تعمل على ردع تلك الخطوات، بمعزل عما ستكون نتائجها.

الاحتلال الإسرائيلي بات محاصراً بردة فعله، بينما محور المقاومة يتحرّك بحرية أكثر، ضمن المساحة التي فرضها على “إسرائيل”، على مدى أعوام وعقود. ونتيجة لذلك، فإن السجال انتقل إلى “الداخل الإسرائيلي”، بحيث إن الردع، الذي فرضته المقاومة في الأسابيع الماضية، نقل حدة التصريحات الإسرائيلية من اتجاهها الخارجي إلى الداخل، فبات المسؤولون الأمنيون يحذّرون من أن تصرفات وزير “الأمن القومي” الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، وقراراته، هي التي يمكن أن تشعل الأمور أكثر في عدة ساحات. وباتت المعارضة تتّهم نتنياهو بعدم الكفاءة في إدارة المواجهة. والإعلام الإسرائيلي، ومعه الاحتياط، يتحدثان عن ضرورة عدم التفوّه بتهديدات فارغة لا يمكن تنفيذها. وفي حال تنفيذها، فإن نتائجها ستكون كارثية على “إسرائيل”.

هذا لا ينفي أن حكومة نتنياهو يمكن أن تذهب في اتجاه “حماقة” ما، ردّاً على التطورات القائمة، في جبهة من الجبهات التي تتحدث عنها. ويمكن التكهن بخيارات متعددة، لكنها كلها تضع خيارات محور المقاومة، في المقابل، موضع التنفيذ.

في الخلاصة، فإن ثمن “التأثير” في عمليات الضفة، من جانب الإسرائيلي، هو حرب متعددة الجبهات والساحات، من الممكن ليس فقط ألا تؤثّر في الضفة، وأن تكون بلا نتائج ملحوظة، بل أن تنزلق فيها “إسرائيل” إلى كارثة وجودية. هذه المعادلة، بالنسبة إلى محور المقاومة، وضمنه المقاومة الفلسطينية، تعني أن هذا المحور معنيّ بالفعل المقاوِم في وجه الاحتلال، وفي الوقت ذاته بتحصين هذا الفعل وحمايته، ليستمر ويتطوّر. وهنا، إن كلّ فصائل محور المقاومة تستخدم معادلات الردع، التي راكمتها في خدمة مقاومي الضفة الغربية، وفي خدمة بعضها البعض، كمسار واحد ومصير واحد. لكل فريقٍ معزوفة خاصة به، تُصدر لحناً خاصاً، لكن النغمة ذاتها: إنه فن المواجهة!

* المصدر: الميادين نت

* المقالة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة عن الموقع