السياسية ـ متابعات:

المشهد الأخير في حياة رئيس باكستان الجنرال ضياء الحق قبل مقتله في عام 1988، تمثل في قذائف الدبابات “إم 1 إيه 1 أبرامز” التي أطلقها الامريكيون وفشلت في إصابة أهدافها.

مع الزمن يزداد الغموض الذي أحاط بمقتل ضياء الحق، كما هو الأمر في جميع القضايا الكبرى المشابهة، ويصبح من الصعب حل مثل هذا اللغز على الرغم من الرواية الرسمية والظروف المحيطة بالواقعة والتي تبدو من بعيد بسيطة للوهلة الأولى.

تلك النهاية المأساوية للجنرال الباكستاني القوي ضياء الحق بدأت منذ وقت طويل سابق بإصرار قيادة القوات المسلحة الباكستانية أمام الرئيس والحكومة على ضرورة استبدال الدبابات القديمة في القوات المدرعة بأخرى حديثة، وجرى اقتراح شراء أحدث طرازات الدبابات الأمريكية في ذلك الوقت “أم – 1”

مضى الأمر على هذا النحو وتقرر إجراء اختبار للقدرات القتالية والتقنية لهذه الدبابة الأمريكية في موقع خاص بتجريب هذا النوع من الأسلحة بالقرب من مدينة باهاوالبور، الواقعة على بعد 450 كم جنوب العاصمة إسلام أباد.

وصلت مجموعة من العسكريين الأمريكيين المتخصصين لاستعراض أحدث دباباتهم أمام الباكستانيين، وترأس هذه المهمة الفنية العسكرية، رئيس البعثة العسكرية الأمريكية في باكستان، العميد هربرت واسوم.

قائد القوات المدرعة في باكستان الجنرال محمود دوراني اتصل مساء 15 أغسطس 1988 بالرئيس ضياء الحق وطلب منه المشاركة شخصيا في اختبارات الدبابات الأمريكية.

الجنرال ضياء الحق لم يكن راغبا في ذلك، ربما بسب إحساس داخلي بالخطر، وحاول التملص والاعتذار عن المشاركة بمختلف الطرق، إلا أن الجنرال دوراني أصر مشددا على أن رئيس البلاد هو أيضا رئيس أركان للجيش، ومشاركته في اختبارات الدبابات الأمريكية سيكون موضع تقدير كبير في الولايات المتحدة.

قبل ضياء بالمشاركة وحدد موعدا للاختبارات في 17 أغسطس 1988، وفي صباح اليوم المذكور وصل الرئيس الباكستاني ضياء الحق والجنرال دوراني، إضافة إلى نائب رئيس أركان القوات البرية، الجنرال ميرزا أسلم بيك، ومجموعة من الجنرالات الباكستانيين رفيعي المستوى إلى باهاوالبور، ومن الجانب الأمريكي وصل إلى تلك المدينة السفير الأمريكي في باكستان أرنولد رافيل، والعميد هربرت واسوم والعديد من المتخصصين في المركبات المدرعة من المصانع الأمريكية المنتجة للدبابة “إم -1”.

ناورت الكوادر الأمريكية بأحدث الدبابات أمام أعين المسؤولين الباكستانيين واستعرضت قدراتها على الحركة بمعنويات عالية، ثم أرادت إظهار قدراتها في إصابة الأهداف. أطلق الخبراء الأمريكيون نيران مدافع دباباتهم لكنهم لم يصيبوا الأهداف، وتعكر مزاج وفدهم العسكري الرسمي!

بالمقابل، قيل إن الجنرال ضياء الحق كان في مزاج رائق في ذلك اليوم، وأنه دعا جميع الحاضرين إلى ركوب الطائرة الرئاسية “هرقل” في رحلة العودة.

في تلك اللحظة، اعتذر نائب رئيس أركان القوات البرية الباكستانية الجنرال ميرزا أسلم بيك بشكل غير متوقع عن السفر مع الرئيس، مشيرا إلى أنه مضطر إلى السفر بشكل عاجل لحضور اجتماع مهم للغاية، واستقل طائرة أخرى.

لا المزاج الرائق رغم عدم إصابة الدبابات الأمريكية لأهدافها، ولا الطقس الجميل في يوم 17 أغسطس 1988، ولا خبرة قائد الطائرة الرئاسية الباكستانية ومهارته الشهيرة، لم تساعد في تجنب الكارثة.

ما أن أقلعت الطائرة الرئاسية بالجنرال ضياء الحق ومساعدوه ومعهم السفير الأمريكي، حتى تحولت إلى كرة ملتهبة، هوت وتحطمت على الأرض. وبرواية أخرى انقلبت الطائرة “هرقل” في الجو وانحنت مقدمتها إلى الأسفل، وسقطت ثم انفجرت باصطدامها بالأرض.

وقعت الكارثة التي أودت بحياة جميع ركاب الطائرة الرئاسية الباكستانية وعددهم 30 شخصا، وشكلت الحكومة الباكستانية على الفور لجنة للتحقيق، ترأسها العميد البحري في سلاح الجو، عباس ميرزا، وضمت 4 خبراء باكستانيين و6 أمريكيين.

تحقيق اللجنة الخاصة استمر لمدة شهرين، إلا أن تقريرها الذي صيغ في 350 صفحة احتوى على أسئلة أكثر من الإجابات، وفيما كان وزير الاتصالات قد أعلن أنه تم العثور على “الصندوق الأسود”، إلا أنه لم يظهر أي نتيجة، ثبت لاحقا أن الطائرة الرئاسية الباكستانية لم يكن بها صندوق أسود على الإطلاق.

وهكذا تناقضت تصريحات مختلف المسؤولين الحكوميين الباكستانيين والشهود وأعضاء لجنة التحقيق، ما زاد القضية تعقيدا ورجح بعض المسؤولين الأمريكيين العسكريين رواية الخلل الفني، على الرغم من ذلك يسيء إلى سمعة طائرات “سي – 130 هرقل” التي لم تنفجر أي منها بهذه الطريقة، وكانت في ذلك الحين 2000 طائرة من هذا النوع تعمل في 50 دولة.

تقرير لجنة التحقيق في المحصلة لم يجب على السؤال الأكثر أهمية، من تسبب في هذه الكارثة؟ علاوة على ذلك لم يستقل نائب رئيس أركان القوات البرية الباكستانية، الجنرال ميرزا أسلم بيك، طائرة الرئيس بعد اختبار دبابات “إم -1″، وفضل العودة على متن طائرة أخرى أقلعت بعد دقيقة من إقلاع هرقل. لماذا لم ينضم هذا المسؤول إلى بقية المشاركين الذين كانوا يعتزمون مواصلة تبادل الآراء على متن الطائرة؟

اللافت أن الجنرال ميرزا أسلم بيك في أعقاب وفاة ضياء الحق، تولى منصب رئيس أركان القوات البرية، الذي كان يشغله الرئيس الراحل!

صناديق المانغو.. لغز الألغاز:

من بين الأحداث الغريبة التي وقعت في مطار مدينة باهاوالبور، أن الطائرة قبل أن تقلع وعلى متنها الرئيس وضيوفه الرفيعين حُمّلت بصناديق المانغو المحلي الأفضل على مستوى العالم، لماذا؟ تبين أن تلك الصناديق كانت هدية للأمريكيين.

خبراء طرحوا المزيد من التساؤلات بهذا الشأن قائلين، هل ثمن هذه الفاكهة في روالبندي أو إسلام أباد أغلى؟! وهل جرى فحص صناديق المانغو قبل وضعها في الطائرة الرئاسية؟ أسئلة تتوالى من دون انقطاع!

بعد عشرة أشهر فقط من الكارثة، أرسل مكتب التحقيقات الفيدرالي خبيرا متخصصا في التخريب في وسائل النقل الجوي إلى باكستان، في حين أفاد مساعد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي أوليفر ريفيل حينها بأن وزير الخارجية وقتها جورج شولتز اتصل بمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي ونصحه “بعدم التورط في هذه القصة المظلمة”.

سقط “هرقل” الباكستاني وطويت صفحة الجنرال ضياء الحق الذي كان وصل السلطة بعد أن أطاح في انقلاب عسكري برئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو في 5 يوليو عام 1977، وحملت “صناديق المانغو” سرها معها إلى العدم.

* المصدر: موقع روسيا اليوم
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر