كيف كشفت حرب تموز هشاشة الجبهة الداخلية الصهيونية؟
السياسية:
كشفت حرب تموز هشاشة الجبهة الداخلية الصهيونية في مستويات عدة، ولا تزال أصداء فشل العدوان الصهيوني تتردد بقوة حتى يومنا هذا.
كشفت حرب تموز هشاشة الجبهة الداخلية الصهيونية عسكرياً وسياسياً وأمنياً. قرارات متضاربة وأهداف غير موحدة داخل “الكابينت” جاءت نتيجة التخبط الصهيوني الداخلي، كما وصفها الإعلام الصهيوني.
برز ذلك التخبط في الخضّة السياسية التي أحدثها “تقرير فينوغراد”، الذي أشار إلى الثغرات الأمنية والعسكرية التي شابت الأداء العسكري لقوات الاحتلال خلال حرب تموز. ويدل تأليف لجنة فينوغراد للتحقيق في إخفاقات الحرب على اعتراف صهيوني صريح بفشلها العسكري. وقد ورد مصطلح “إخفاق” 156 مرة في التقرير، وهو ما يدل على الشعور الصهيوني بالهزيمة.
ومنذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، انتقادات كثيرة يوجهها الإعلام الصهيوني إلى “كابينت” الاحتلال بأنه لا يستطيع أن يتخذ قراراً موحداً، بل هناك اختلافات سياسية واضحة ظهرت من خلال سلسلة الاستقالات التي حصلت بعد الحرب.
كانت بدايتها مع وزير صهيوني استقال من حكومة إيهود أولمرت في أولى تداعيات التقرير الذي وجه انتقادات شديدة إلى الحكومة وحملها مسؤولية الفشل في حرب لبنان العام الماضي. وقال الوزير بلا حقيبة، الأمين العام لحزب العمل إيتان كابل، إنه لا يمكنه البقاء في حكومة يرأسها “الإخفاق”.
وبعد ذلك، تساقطت “الرموز” الصهيونية بشكل غير مسبوق في حرب 2006، من رئيس الأركان، إلى نائبه، إلى قائد الجبهة الشمالية إلى وزير الدفاع، إلى رئيس الحكومة أولمرت نفسه. حتى القرارات الدولية التي كانت لمصلحة كيان “إسرائيل” لم يكن هناك إجماع داخلي عليها. على سبيل المثال، عندما وصف وزير الدفاع الصهيوني ورئيس حزب “العمل”، إيهود باراك، القرار الدولي 1701 بأنه “فاشل”، إنما كان يعبّر بغضب ظاهر عن خيبة صهيونية جديدة تُضاف إلى “إخفاقات” حرب تموز وخيباتها، بحسب الإعلام الصهيوني.
وبعد مرور نحو شهر على اندلاع حرب تموز، كتب المحلل الصهيوني بن كاسبي في صحيفة “معاريف” الصهيونية: “بعد مرور شهر على بدء العمليات، أصبحنا على قناعة بأن ما يحدث ليس عملية قتالية برية محدودة، ولا يوجد في ما يحدث قتال، بل ما يحدث هو حرب وجود مصيرية تشبه حرب التحرير، ولها قسوة مماثلة لما لاقيناه في حرب يوم الغفران”.
مثّلت حرب تموز 2006 بداية تحول المخاطر الإقليمية المحيطة بالكيان الصهيوني من خانة التهديد المحدود إلى خانة التهديد الجدي لوجود الكيان الصهيوني ذاته.
اعترافات صهيونية أكدت فشل المؤسسة الأمنية في تحقيق أهداف الحرب. الحديث تركز على الفشل الصهيوني. ونتيجة للانقسام الصهيوني الداخلي الذي ظهر جلياً في حرب تموز، زادت أعداد الأحزاب الصهيونية بشكل ملحوظ، وتفرّعت أحزاب عن الأحزاب الأساسية، وتوسعت حالة الأحزاب الدينية المتشددة التي هدّدت بنية المجتمع الاستيطاني بأكملها، وهذا ما وصفته التقارير الصهيونية بـ”الانقسام المميت”.
تراجع الثقة بـ”الجيش”
خلّفت نتائج العدوان الصهيوني على لبنان في تموز/يوليو 2006 أزمات متعددة المستويات داخل المجتمع الاستيطاني؛ أولاً، أزمة ثقة بقدرة سلاح الجو الذي يمتلك أحدث الإمكانات التسليحية على تدمير قدرات الطرف الآخر، ولا تزال هذه المشكلة تلقي بظلالها على هذا السلاح إلى اليوم، برغم امتلاكه طائرات محدَّثة من ضمنها “أف 35″، إضافة إلى اهتزاز الثقة بقدرة “الجيش” الصهيوني على تحقيق “الانتصار البري”. ولم تتمكن كل المناورات البرية التي جرت بعد تلك الحرب من “ترميم هذه الثقة”.
وانتشرت الأمراض النفسية داخل “الجيش” الصهيوني، وخصوصاً بعد حرب تموز. هذه الأزمات النفسية دفعت عدداً من جنود الاحتلال نحو الانتحار، مُتخيلين أنّ “شبح عناصر الحزب قادم إليهم”. صحيفة “يديعوت أحرونوت” قالت إنّ أكثر من 400 جندي احتياط صهيوني توجّهوا إلى وزارة الدفاع طالبين العلاج، بينهم 250 جندياً شُخّصوا بأنّهم يُعانون حالات “اضطراب ما بعد الصدمة”.
إضافة إلى ذلك، تعمّقت أزمة ثقة بالقدرة على حماية الجبهة الداخلية من الطاقة الصاروخية لحزب الله وفصائل المقاومة، برغم تعدد طبقات منظومات الدفاع الجوي المختلفة التسميات (القبة الحديدية، اللمسة السحرية، باتريوت، حيتس، مقلاع داوود، إلخ). هذا الهاجس لا يزال مسيطراً إلى اليوم، وخصوصاً مع امتلاك المقاومة منظومات صواريخ تغطي كامل فلسطين المحتلة. أضف إلى ذلك دخول خيار اقتحام الجليل خريطة التحديات الجدية.
وبحسب كتاب “نيران على قواتنا” الذي صدر عن صحيفة “معاريف” عام 2007، “غيّرت حرب لبنان الثانية وجه البلاد. كيان إسرائيل التي كانت تشعر لغاية تموز 2006 بأنها دولة عظمى عادت لتصبح دولة صغيرة محاطة بالأعداء. تكشفت نقاط ضعف جيل، وتحطمت مفاهيم”.
بحسب الصحيفة ذاتها، هناك تزايد في صفوف من يعتقدون أن كيان “إسرائيل” قد تزول يوماً ما من الوجود بفعل حرب خارجية أو حرب داخلية.
منذ نهاية حرب 2006، بدأ “الجيش” الصهيوني فحص استعداداته للحرب المقبلة من نواح عدة، وأعاد النظر في عدد من المفاهيم العسكرية، ومن جملتها مفهوم “تحقيق النصر”، بهدف تفادي أي التباس قد ينتج من تواضع النتائج في أي حرب مقبلة.
وتم ابتكار مصطلح “المعركة بين الحروب” من أجل التعويض عن حرب يتعذر شنها في الوقت الحالي، وبات أقصى أماني الكيان إطلاق التهديدات وتنفيذ غارات متفرقة وعمليات أمنية سرية، لكن القدرة على شن الحروب البرية الخاطفة أصبحت من الماضي البعيد.
الهجرة المعاكسة تؤرّق كيان”إسرائيل”
ومن النتائج التي انعكست سلباً على الداخل الصهيوني منذ حرب تموز هي الهجرة المعاكسة للمستوطنين. هذه المشكلة تشغل بال الأوساط الأمنية والسياسية الصهيونية، وتُعَدّ إشكالية وجودية في الوقت نفسه.
“إسرائيل”، بحسب الإعلام الصهيوني، أصبحت تعيش في متاهة وحالة قلق كبيرة ومتزايدة من كل محور المقاومة الذي يحاصرها من جبهات متعددة، وهذا ما اعترف به رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني السابق نفتالي بينيت، مؤخراً، إذ قال إن كيان “إسرائيل” باتت مُحاطة بطوق من الألغام، نتيجة الازدياد الملحوظ في معدل الهجرة المعاكسة منها في اتجاه أوروبا بسبب شعور الصهاينة بفقدان الأمن الشخصي والفشل في توفير الحماية لهم.
تنتشر حالة التفكك والانقسام في مكونات المجتمع الاستيطاني على 4 مستويات، هي الهجرة والإقامة والولادة والتجنس. ويدور الصراع على طبيعة المجتمع الإسرائيلي بصورة عامة، وعلى تركيبته بصورة خاصة، ويعاني المستوطنون الصهاينة صراعاً طبقياً بين الأشكناز اليهود الغربيين، والسفارديم، يهود الشرق، ناهيك بحالة التمييز العنصري والاضطهاد لليهود الإثيوبيين من جهة أخرى.
هذا ما أكده رئيس جهاز “الشاباك” الصهيوني الأسبق، يوفال ديسكين، الذي قال إن “التفكك الداخلي الصهيوني يتزايد، وكيان إسرائيل لن تبقى حتى الجيل المقبل نتيجة أسباب ومؤثرات داخلية، والانقسام بين الصهاينة يزداد عمقاً، كما أن انعدام الثقة بأنظمة الحكم آخذ في الازدياد، والفساد ينتشر، والتضامن الاجتماعي ضعيف”.
ولعلّ أبرز التحديات الديموغرافية التي تواجه كيان “إسرائيل” أنها لم تعد الوجهة المفضَّلة ليهود العالم. وتشير دائرة الإحصاء الصهيوني إلى أن “هروب الأدمغة” متواصل منذ عام 2003، وأنه ارتفع بنسبة 26% منذ عام 2006.
إحصائياً، ووفق مراكز الإحصاء المتخصصة داخل كيان “إسرائيل”، سجَّلت مؤشرات الهجرة المعاكسة من الكيان الصهيوني إلى أوروبا أن 19 ألف يهودي بين عامي 2004 و2006 غادروا كيان “إسرائيل” من دون رجعة، وجاء العدد الأكبر عام 2007 حين غادرها 25 ألفاً نتيجة فقدان الشعور بالأمان.
وفي بيان إحصائي صادر عن “دائرة الإحصاء المركزية” نشرته صحيفة “هآرتس”، فإن عدد الصهاينة الذين غادروا كيان “إسرائيل” سنة 2015 بلغ 16700 شخص. وقد غادروا للعيش في الخارج لفترة طويلة، وكان ذلك في أعقاب حرب غزة عام 2014 ضدّ المقاومة الفلسطينية التي صمدت فيها الأخيرة في غزة صموداً أسطورياً تحت القصف مدّة 51 يوماً.
وتشير تقديرات إحصائية نُشِرت في الآونة الأخيرة إلى أن ما بين 800 ألف ومليون مستوطن يقيمون بصورة دائمة في دول عدّة حول العالم، ولا يرغبون في العودة إلى كيان “إسرائيل”، بل إن هناك من الباحثين المحيطين بالوقائع الديموغرافية في فلسطين التاريخية مَن يذهب إلى تقدير عدد هؤلاء بمليون ونصف مليون نسمة.
وفي دراسة أعدّتها ونشرتْها وزارة الاستيعاب الصهيونية، تَبيَّن أن ثلث اليهود في كيان “إسرائيل” باتوا يؤيّدون فكرة الهجرة، وخصوصاً بعد معركة “سيف القدس” في أيار/مايو 2021.
ووفقاً لأرقام وزارة الاستيعاب، غادر كيان “إسرائيل” ما مجموعه 720 ألف مستوطن واستقرّ في الخارج منذ مطلع 2021، وتبيّن أيضاً أن أكثر من نصف الصهاينة الذين تركوا فلسطين المحتلّة كانوا قد ولدوا خارجها. وكان قد هاجر إليها من أوروبا 64%، ومن أميركا الشمالية وأستراليا 25%، ومن دول آسيا وأفريقيا 11%.
ويؤكد تقرير نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن 45086 يهودياً من مختلف أنحاء العالم قدموا حتى نيسان/أبريل 2020 طلبات للحصول على جواز السفر، من بينهم 32622 من المستوطنين، أي ما نسبته 72% من المجموع العام لمقدّمي الطلبات هذه.
التهديدات الإقليمية تتزايد
وفقاً لتقارير صهيونية نشرت مؤخراً، أصبح توفير الأمن لجنود الاحتلال من القتل أو الأسر الشغل الشاغل لقيادة “الجيش” الصهيوني، بعدما كان الهمّ الأساس هو توفير الأمن للمستوطنين، وهذا، بحسب “هآرتس”، يؤثر سلباً في “الوعي” الصهيوني.
يقول المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل: “رغم أن كيان إسرائيل أثبتت عام 2006 أن بإمكانها إلحاق أضرار هائلة بحزب الله، فإن هناك وجهاً آخر لهذه العملة؛ فكيان إسرائيل تعي حجم ترسانة حزب الله، وقدرته على إمطار الجبهة الداخلية الصهيونية بـ1500 صاروخ يومياً، وضرب مواقع بنيتها التحتية الاستراتيجية، وعدم قدرة منظومات اعتراض الصواريخ على توفير حماية كاملة للسكان”.
كانت كلمة السر في حرب تموز هي التهديد الصاروخي الناجع الذي نجح حزب الله في وضعه، ليس كوسيلة قتالية هجومية فحسب، بل أيضاً للتأثير في الحسابات الصهيونية خلال العمليات العسكرية، وتشكيل توازن ردع منع “الجيش” الصهيوني من توسيع عملياته الجوية خلال حرب تموز، وذلك تحت عنوان عريض هو “حيفا وما بعدها”.
لذلك، أدركت كيان “إسرائيل” أن انتهاكها العلني في الجبهة الشمالية سيستوجب رداً من حزب الله، ومن الممكن أن يدحرج الأوضاع إلى حرب مفتوحة.
واقع التهديد الدائم جعل القيادة العسكرية الصهيونية تعيش هاجس إمكانية تعرض المناطق الحدودية لـ”اجتياح مفاجئ أو تعرض كامل أراضي فلسطين المحتلة لصليات كثيفة من الصواريخ المشتركة في أي مواجهة مقبلة”.
* المصدر: الميادين نت
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع