السياسية- متابعات:

مخيم جنين هو أحد أهم وأشهر مخيمات اللاجئين الواقعة في الضفة الغربية بفلسطين المحتلة. ولطالما كان هذا المخيم، على الرغم من مساحته الصغيرة وعدد سكانه المحدود، محطة مهمة ومحورية بالنسبة للقضية. فمنه تنشط المقاومة الفلسطينية المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ما يجعله نقطة استهداف دائمة، وموقعاً حساساً تحاول سلطات الاحتلال إخماده ومحو أثره بشتى الطرق ويعتبر الفلسطينيون من أكبر جنسيات اللاجئين في العالم. اليوم، يُقدر إجمالي عدد اللاجئين الفلسطينيين حول العالم بـ 7.4 ملايين.

وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد قيام “الكيان الإسرائيلي”، تم إنشاء العديد من مخيمات اللاجئين؛ بسبب الطرد الممنهج والإخلاء الإجباري لآلاف الفلسطينيين من مدنهم.

لذا، إضافة إلى مخيمات اللاجئين في الدول العربية المجاورة، مثل الأردن ولبنان ومصر وسوريا، يوجد في الضفة الغربية عدد كبير جداً من اللاجئين النازحين من حدود عام 1948. تم إنشاء مخيم جنين للاجئين في الأصل عام 1953، وذلك لإيواء الفلسطينيين الذين قدموا من حيفا ومنطقة الكرمل والقرى المجاورة لها وتعرّضوا للتطهير العرقي والنزوح الإجباري خلال نكبة عام 1948؛ حيث أجبر الاحتلال الإسرائيلي آنذاك حوالي 750 ألف مواطن فلسطيني على ترك منازلهم لإفساح المجال أمام إقامة دولة إسرائيل الوليدة في ذلك الوقت. ومثله مثل باقي المخيمات في الضفة الغربية، فقد تأسس المخيم فوق قطع من الأرض استأجرتها الأونروا من الحكومة الأردنية. إلى أن أصبح المخيم خاضعاً لسيطرة السلطة الفلسطينية في منتصف التسعينيات.

 

أهمية الموقع عبر التاريخ

يُذكر أن المنطقة التي وُلد فيها مخيم جنين هي بحد ذاتها ذات أهمية تاريخية من حيث القومية الفلسطينية وروح المقاومة ضد الاحتلال. فقد كانت منطقة جنين معقل أول مقاومة فلسطينية منظمة ضد الحكم البريطاني، بقيادة السوري المولد عز الدين القسام، الذي قُتل في معركة عام 1935 في يعبد، على بُعد 18 كيلومتراً فقط غرب جنين. كذلك كان العديد من قادة الثورة الفلسطينية عام 1936 من جنين أو مقيمين فيها، مثل فرحان السعدي ويوسف أبو درة. إلى أن أعطى إنشاء مخيم للاجئين في مكان من هذا التراث السياسي رمزية إضافية. ويخشى العدو أن تتحول جنين إلى معضلة لا يستطيع مواجهتها، ويضطر إلى التعامل معها كأمر واقع، كما هي الحال في غزة.

ولقد تَصَدَّر مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة صور المقاومة والتحدي للعدو الإسرائيلي، وذلك عبر تنفيذ عمليتين فدائيتين داخل فلسطين المحتلة عام 1948، خلال أقل من أسبوعين. الأولى عملية “بني براك” في “تل أبيب” المحتلة، وأدت إلى مقتل خمسة مستوطنين، ونفّذها الشهيد البطل ضياء حمارشة. والثانية في شارع ديزنكوف في قلب “تل أبيب” المحتلة، وقام بها الفدائي الشهيد رعد حازم، وأسفرت عن مقتل 3 مستوطنين وإصابة العشرات. ويشهد المخيم عمليات إطلاق نار يومية على حواجز الاحتلال، وتصدّت خلايا المقاومة العسكرية لمحاولات اقتحام العدو المتكررة للمخيم بهدف اغتيال المقاومين أو اعتقالهم أو هدم بيوتهم، وأسفرت عن شهداء وجرحى، ونجحت المقاومة في إيقاع إصابات في القوات المتوغلة.

اتخذ العدو عدة خطوات عدوانية لمواجهة ظاهرة المقاومة التي انتشرت في المخيم، الذي أصبح منطلقاً لتنفيذ العمليات الفدائية. فإلى جانب عمليات الاغتيال والاعتقال والهدم، عمد العدو لفرض حصار وعقوبات اقتصادية واجتماعية، هدفها تحريض الحاضنة الشعبية على المقاومة، وعزل الفدائيين، ومن أجل تخويف سائر المدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية المحتلة وردعها، حتى لا يمتد إليها العمل الفدائي المقاوم، وخصوصاً تكرار اختراق الجدار وتنفيذ عمليات داخل فلسطين المحتلة عام 1948. وأقرّ العدو بأنّ السلطة الفلسطينية فشلت في إجهاض المقاومة في مخيم جنين، ولم تنجح في تفكيك الخلايا المسلحة. وهو في ذلك قد يمهّد لعمليات اجتياح واسعة للمخيم على غرار ما حدث قبل 20 عاماً في أبريل/نيسان 2002، الأمر الذي أدّى إلى تدمير شبه كامل للمخيم، واستشهاد أكثر من 50 فلسطينياً، وشهد المخيم مقاومة شرسة أسفرت عن قتل 23 جندياً صهيونياً.

ويشهد مخيم جنين عمليات تدريب على السلاح، وظهر الفدائي الشهيد البطل رعد حازم، وهو يتدرب على إطلاق النار قبل استشهاده، وتتمكن خلايا المقاومة العسكرية من الحصول على السلاح وشرائه من داخل فلسطين المحتلة وغيرها، وعبر وسائل متعددة، تمرّس عليها الفدائيون، ويتهم العدو أبطال المقاومة بتهريب السلاح عبر ثُغَر الجدار الاحتلالي العسكري الفاصل بين الضفة الغربية المحتلة والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948. وزعمت مصادر العدو الاعلامية أن أغلبية السلاح تمرّ إلى المخيم وإلى سائر المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، عبر المدن الفلسطينية في الداخل المحتل.

يرجع نجاح ظاهرة المقاومة في مخيم جنين إلى عدة عوامل، أبرزها قدرة فصائل المقاومة على صَهر هوياتها الحزبية في الإطار الوطني، ويكاد يغيب اللون الحزبي في مخيم جنين. وتعمل خلايا المقاومة، من كل الفصائل، وفق تنسيق وتناغم مشتركين. وتُعَدّ معركة جنين عام 2002 النموذج الفريد الذي عكس الوحدة الميدانية في مسرح العمليات والمواجهة مع العدو، والتي ترسخت بدماء شهداء المخيم ورموزه، أمثال جمال أبو الهيجا ومحمود طوالبة وأبو جندل، وغيرهم من الشهداء الأبطال.

تشترك كل الفصائل في المخيم، بما فيها حركة “فتح” في العمل المقاوم، على نحو يتناقض مع رغبة السلطة الفلسطينية، التي سعت لتفكيك الخلايا المسلَّحة وفشلت في ذلك، عندما حاولت قبل عدة أشهر شن عملية شاملة تم تخطيطها لمدة طويلة بهدف القضاء على الخلايا العسكرية لفصائل المقاومة، نظراً إلى حالة الإجماع الفصائلية والشعبية الناقمة على السلطة وسياستها ومسارها، سياسياً ووطنياً، وتبنيها التنسيق الأمني مع العدو، الأمر الذي أدّى إلى تراجع مخططات السلطة تجاه المخيم، على نحو أجبر العدو على اللجوء إلى خطة مراقبة المقاومين ورصد تحركاتهم عند خروجهم من المخيم بهدف خطفهم أو اغتيالهم، بواسطة قوات خاصة.

واستفادت فصائل المقاومة في مخيم جنين من تجربة المقاومة في قطاع غزة. وعلى غرار الغرفة المشتركة، التي تضم 13 فصيلاً مقاوماً في قطاع غزة، أنشأت مكونات المقاومة في جنين غرفة مشتركة للتنسيق، ميدانياً وعملياتياً، ومن أجل تبادل المعلومات وعمليات الرصد والتدريب والدعم، عسكرياً ولوجستياً. وعكست تهديدات قيادة المقاومة في غزة للعدو، وتحذيره من أن شنّه عدواناً عسكرياً شاملاً على المخيم سيؤدي إلى رد عسكري من المقاومة في غزة، حالةَ الربط بين خطَّي جنين – غزة ، على غرار معادلة القدس – غزة، الأمر الذي زاد في الدافعية القتالية والروح المقاومة للمقاتلين في جنين.

وشكّلت معركة “سيف القدس” قبل نحو عام، في أيار/مايو 2021، دافعاً وحافزاً قوياً لنهج المقاومة في فلسطين بصورة عامة، وفي مخيم جنين بصورة خاصة. فبعد المعركة، عادت فصائل المقاومة إلى الظهور علناً في المخيم، وتكررت عمليات التصدي لاقتحامات العدو للمخيم وإطلاق النار على حاجز الجلمة لجيش العدو القريب من مخيم جنين. وشجّع نجاح عمليات فدائية نفذها مقاومون، من الداخل الفلسطيني المحتل في بئر السبع والخضيرة المحتلتين، أبطال مخيم جنين على تكرار الأسلوب نفسه، وعدم الاكتفاء بإطلاق النار على الحواجز العسكرية الصهيونية، باعتبارها أهدافاً ثابتة يصعب تحقيق إصابات فيها. وانتقل العمل المقاوم إلى الهجوم في العمق، الأمر الذي شكّل صدمة في الوعي الصهيوني، الذي بات يشعر بأن أمنه الشخصي في خطر دائم.

يخشى العدو أن تتحوّل جنين إلى معضلة لا يستطيع مواجهتها، ويضطر إلى التعامل معها كأمر واقع، كما هي الحال في قطاع غزة، ويخشى أن تتحول الظاهرة لتشمل كل الضفة المحتلة. ويسعى العدو لترميم صورته التي اهتزت أمام جمهوره بعد سلسلة العمليات الفدائية التي هزت الكيان مؤخراً، وذلك عبر تنفيذ عمليات اغتيال. ويخاف أن تتدحرج الحالة الأمنية إلى مواجهة عسكرية مع المقاومة في قطاع غزة، لذا يخشى شن عملية عسكرية شاملة ضد مخيم جنين.

يبذل العدو قصارى جهده من أجل إجهاض ظاهرة المقاومة في جنين، وإفشال نموذجها الفريد، الأمر الذي يستدعي أن تتضافر الجهود الفلسطينية من أجل إحباط مخططات العدو، الأمر الذي يتطلب تفعيل المقاومة في سائر مناطق الضفة الغربية والعمل على استنزاف العدو في كل المدن والقرى والمخيمات، بحيث تنطلق عمليات فردية ومنظمة ضد الأهداف الصهيونية داخل الضفة وخارجها. ومطلوب أن يبقى سيف التهديد من المقاومة في قطاع غزة مشرعاً ضد العدو، الأمر الذي يشكل حالة إسناد شاملة لمخيم جنين يمنع الاستفراد بها وعزلها ، إلى جانب تعزيز صمود المخيم عبر دعمه اقتصادياً، وكسر الحصار المفروض عليه من العدو.

  • المصدر: الوقت التحليلي
  • المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع